مثلها في ذلك مثل سائر المجتمعات، لا تشكل شريحة النساء في المملكة العربية السعودية كتلة صماء. فعلى الرغم من القيود المقامة من قبل السلطات على شكل قوانين وانظمة تنطبق عليهن جميعاً، الا انه لا يمكن توصيف اوضاع النساء بالإجمال والتساوي، لأن الاوضاع الاقتصادية و الاجتماعية تلعب دورا اساسيا في تشكيل طبيعة حياة كل فتاة في المملكة.
الفارق بين عالمين
أدى النمو السريع للمدن مع انفجار الثورة النفطية، ومعه الهجرة الداخلية من مختلف المناطق الى تجمعات سكنية ضخمة "مدينية" وأكثر "حداثة"، الى انحسار العديد من الضوابط الاجتماعية، خصوصا تلك المدفوعة من الحالة القبلية التي فككتها المدينة. تركزت مسيرة تشكيل الاقتصاد والتنمية في السعودية في تلك الأطر الجغرافية المحددة بمقابل أطراف أقل حظوة، وهو ما نتج عنه تشوه واختلال ما بين بين المدن في شرق المملكة، والمركز في الرياض، ووكذلك غرب البلاد وخصوصاً مدينة جدة وبين باقي المناطق حيث اراحت تشبه الارياف أو هي بادية لم تتفكك فيها الروابط و العادات القبلية و كذلك الاعراف الاجتماعية و بقيت سطوتها كبيرة لتُكوّن واقعا يختلط فيه التسلط الديني من قبل مؤسسات الدولة بعادات اجتماعية لا يمكن الهروب منها، عكس ما هو عليه الوضع في المدن الرئيسية.
ينطلق التحرك النسوي في المدن إذاً من محيط اكثر "ليبرالية" و تحرراً، تشكل فيه الانظمة والقوانين الرسمية جوهر المشكلة، بينما تكاد تكون الانظمة والقوانين الرسمية اخر المشاكل أمام سطوة الاعراف والروابط القبلية في الأطراف. فمثلاً تعتبر مشكلة أخذ اذن ولي الأمر لفتاة في المدن الرئيسية للحصول على وظيفة عقبة بيروقراطية، اما في الاطراف فتشكل فكرة الخروج للفضاء العام و العمل عقبة اجتماعية أكبر.
اصلاح أوضاع المرأة السعودية لا يصطدم بسطوة الدولة المباشرة بل بواقع الهوة والاختلاف في الاوضاع بين مختلف المناطق الذي انتجته سياسة الدولة نفسها بممارسة تنمية فوقية، وهي في الوقت نفسه تتخذه شماعة فتروج بأن مشكلة تردي أوضاع المرأة اجتماعية، بشكل يصور الدولة متحضرة تصطدم بمجتمع متخلف لا يد لها عليه.
إقرأ أيضاً: أزمة الحركة النسوية السعودية
وهكذا، يتفاوت المنظور التي ينطلق منه الداعمين للحراك النسوي. شريحة النسويات المتبنيات للمنطلقات الغربية الليبرالية ينظرن للمشكلة كتصادم مع الصيغة الاسلامية التي تبنتها الدولة لعقود، و يرين أن الحل هو في دفع الدولة لتبني صيغة أكثر ليبرالية. ومن داخل صندوق الصراع الليبرالي – الاسلامي تصبح العملية منازعة نظرية أو فكرية وقيمية مع الآخر ويغيب أساس المشكل. فمع تبني الاسلاميين حجج سخيفة تحت عناوين "التغريب" و"التشبه بالغرب"، يتجه الطرف الاخر نحو ذلك الغرب كنموذج "معلب" رومانسي يُحتذى به، دون الوعي بوجود توجهات خارج هذا الصندوق الضيق منطلقة من تجارب وتحليلات تعرِّف المشكلة الذكورية بإطارها الاوسع.
كسب الغرب كمدخل للتغيير
اندفعت الكثير من النسويات المستلَبات للغرب لبناء استراتيجية عمل تقضي بالقفز الي حضن المؤسسات الغربية غير الحكومية والعمل من خلالها للضغط على السلطة باتجاه تحقيق تغيير أكثر ليبرالية. وهذا إن نجح ــ على فرض وبالحدود الممكنة ــ فهو تغير سطحي وليس بنيوي. والمشكلة في هذا "الخطأ الاستراتيجي" متعددة الوجوه، فصاحباته يتجاهلن بوعٍي أو من دونه، انهن يقعن تحت مقصلة المعيار الغربي الدعائي والسياسي، وأنهن بذلك سيبقين فئويات، سواء بالقياس للتيار الاخر المناقض وهو الاسلامي الرجعي او بالنسبة للنساء الخاضعات لواقع موضوعي مختلف.
فمثلاً في تموز/ يوليو الفائت استضاف مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) في العاصمة الأمريكية واشنطن الناشطة السعودية السيدة منال الشريف، وهي أول من أطلق حملة قيادة المرأة للسيارة عام 2011، وتعرضت حينها للاعتقال. الناشطة كانت تقوم بجولة في عدد من العواصم الغربية للتوقيع على كتابها الجديد "القيادة نحو الحرية"، وهي بدأت حديثها في المركز بتناول التحول الذي طرأ على المجتمع السعودي منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، وانعكاسات الحرب الافغانية على ثقافته التي انزاحت الى مستوى حاد من المحافظة والتطرف. وسردت قصصاً مأساوية ولكنها واقعية، من الصراع الداخلي الذي عاشته خلال تلك الفترة وصولاً الى التغيير التي وصلت اليه اليوم. مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الذي استضاف الشريف يرأسه الجمهوري جون هامري الذي خدم في الكونغرس الامريكي في الحقبة نفسها التي استنفرت فيها الولايات المتحدة وحلفاؤها الهوية الاسلامية في الحرب الافغانية. وكان ذلك من أهم العوامل التي أدت الى ما شرحته الناشطة من معاناة في المملكة، وخصوصاً بما يخص النساء، ومنهم السيدة منال نفسها.
اندفعت الكثير من النسويات المستلَبات للغرب لبناء استراتيجية عمل تقضي بالقفز الي حضن المؤسسات الغربية غير الحكومية والعمل من خلالها للضغط على السلطة باتجاه تحقيق تغيير أكثر ليبرالية. وهذا إن نجح ــ على فرض، وبالحدود الممكنة ــ فهو تغيير سطحي وليس بنيوي
"انك ناشطة في حقوق الانسان ومراقبة لوضع حقوق الانسان في بلدك، وانت تصنعين التغيير ونحن نشكرك على ذلك"، هكذا ختمت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون حديثها اثناء تكريمها للسيدة سمر بدوي التي حازت على جائزة (International Women of Courage)، في مشهد عُدّ انتصارا للمرأة السعودية، حيث انها كرمت من إحدى أبرز نساء الإدارة الامريكية والعالم الغربي.
وبالمقابل، وفي مثال آخر معروف، نصحت الآنسة موضي الجهني، التي تمكنت من الوصول الى الولايات المتحدة، باقي الفتيات بألا يقصدن تلك الوجهة حيث المنظمات هناك "اقوال دون افعال: أنتن لوحدكن تماما!". فعلى الرغم من القيود التي تحدّ من تحركهن فقد نجحت بعض الفتيات بالوصول الى الخارج والتماس اللجوء، كما أن عدد آخر غير قليل منهن فشلن في ذلك، سواء بسبب تدخل السلطات لارجاعهن من بعض الدول أو بتلفيق تهم ارهاب لهن ليتم تسليمهن عبر الشرطة الدولية للحكومة السعودية. هروب أولئك الفتيات تمّ في ظل تصورهن بانهن سيحصلن على الدعم الكامل في دول اللجوء، الا انهن تفاجئن بتخلي المنظمات عنهن بعد استهلاكهن اعلامياً.
ما الذي يتغير؟
الاعتماد على مثل الخطوات، التي تبقى في نهاية المطاف استعراضية واحتفالية وابنة لحظتها، وتخدم في الغالب أيضاً اغراضاً سياسية (وأحياناً ابتزازية للسلطات المحلية حين تحتاج القوى العظمى لذلك)، قد برضي بعض الناشطات اللواتي يرين في ذلك انتصاراً لتحركهن، ولكنه يشجعهن على اعتبار أن ذلك هو السبيل الى تغيير الواقع، أو أن مكسبهن الشخصي يعادل تغيير الواقع. وهذا غير صحيح طبعاً، بل وحتى لو إتخذت قرارات وصدرت قوانين (وهو أمر لا يمكن إنكار إيجابيته)، فالمسألة تبقى فعلياً في مكان آخر، في عدم المس بالبنية السلطوية القائمة، السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية.. التي أنتجت تلك المظالم، وفي عدم وصول المنجَز الى داخل المجتمع بحيث يغير حياة الناس فيه.
وفي الحالة المخصوصة التي نرصدها، فقد وصل الامر الى حد تعليق الآمال على إيفانكا ترمب (اثناء مرافقتها لأبيها في زيارته الشهيرة للمملكة)، للوقوف وتسليط الضوء على وضع النساء في المملكة، فغردت العديدات من السعوديات مناشِدات إيفانكا، ومن ضمنهم الناشطة النسوية العنود التميمي التي قالت "عزيزتي إيفانكا، لقد سبق وان قلتِ بأنكِ نسوية. الم تلاحظي الغياب التام للنساء من مراسم الاستقبال الرسمية؟". ولكن إيفانكا أنهت زيارتها بما هو متوقع، وهو تقديم المصلحة السياسية الأمريكية وضرب الشعارات النسوية التي ادعت تبنيها عرض الحائط، بلقاء شريحة نسائية محددة مرتبطة بالسلطة، وبتغريدة دعائية لتبييض صورة أوضاع السعوديات تقول فيها: "لقد التقيت اليوم بقيادات نسائية سعودية واستمعت بشكل مباشر لإنجازاتهن وتحدياتهن ورؤيتهن للمستقبل".
وفي المقلب الآخر، وبناء على وحدة المجال العربي السياسي والثقافي والاجتماعي وانعكاس ذلك على أوضاع المرأة العربية في كل قطر بما يجعل وحدة المصير بينهن أمراً طبيعياً وكذلك تمازج التجارب وتبادل الخبرات.. فهناك صعود لتوجهات تعالج المسألة من منظور أوسع وتعرّف المسألة بصلتها بالبنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المنتجة لمآسي لا تنفصل عن نضالهن، بل تتقاطع معه.