لا تزال الأزمة الخليجية الأخيرة تراوح في مكانها بعد شهرين ونصف من اندلاعها. ولا يبدو في الأفق ما يبشر بتسوية سريعة لها. فأي من الأطراف المحلية لن يستطيع حسم الأزمة أو تقديم تنازلات تؤدي إلى تسوية تفاوضية. ولا تملك الأطراف الدولية، فيما عدا الولايات المتحدة الاميركية، القدرة على التدخل لفرض تسوية مقبولة. وإدارة ترامب مشغولة بأمور أخرى أكثر إلحاحاً بالنسبة لها من الأزمة الخليجية، بل هي قد لا تجد حافزاً للدفع باتجاه تسوية الأزمة التي تقدم لها فرصاً كثيرة لابتزاز حلفائها في الخليج. ولهذا فإن المتوقع أن تبقى الأزمة على حالها، أي أن تبقى أزمة تُدار ولا تُسَوَّى، لكنها تستنزف طاقات وموارد بلدان المنطقة.
شروط لا تتيح تسوية
لا تستطيع قطر قبول الشروط المعروضة عليها دون أن يُعاد ترتيب بيت الحكم فيها. فلقد صيغت شروط التسوية التي عرضتها البلدان الأربع على قطر (سواء الثلاثة عشر مطلباً أو المبادئ الستة) في شكل إملاءات لا تقبل المراجعة أو التفاوض. وزاد من تفاقم الأمور التفسيرات المتتالية التي قدمتها الدول الأربع لتبرير إجراءاتها. فالقبول ببعض الشروط المطروحة قد يؤدي إلى تعريض أمير قطر وأبيه وكبار أفراد عائلته إلى المساءلة القانونية. وعلى سبيل المثال، سيكون هؤلاء وعدد من القيادات العسكرية القطرية معرضين للمحاكمة لدورهم في "الخسائر البشرية التي منيت بها القوات الإماراتية والسعودية في حرب اليمن"، جرّاء ما سماه مصدرٌ مسؤول سعودي تزويد قطر للحوثيين "بإحداثيات مواقع التحالف في اليمن" (عكاظ 11/7/2017). وهو إتهامٌ أكّده وأضاف إليه وزير خارجية البحرين في مقابلة تلفزيونية (dmc في 26/7/2017).
يتفق محمد بن سلمان ومحمد بن زايد على اعتبار المواجهة مع قطر - كما الحرب في اليمن - خطوة نحو إنجاز مشروع "نابوليوني" يؤسس لهيمنة يتقاسمانها على منطقة الخليج والجزيرة العربية وجوارهما.
كما لن تستطيع السعودية والإمارات التراجع عن قرار المواجهة من دون تحقيق ما يمكن لمحمد بن سلمان ومحمد بن زايد اعتباره انتصاراً. فبدون انتصار أو ما يشبه الانتصار لن يتمكن أيٌ من المحمديْن، وهما الحاكمان الفعليان في بلديهما، من الحفاظ على موقعه على رأس عائلته، وسيجدان صعوبة في مواجهة محاولات إزاحتهما من قبل أطراف طموحة في العائلتين الحاكمتين في بلديهما. أما مصر والبحرين، فتكسبان من استمرار الأزمة دون أن تتحملا أياً من أعبائها: ستكسبان في حال قبلت قطر الشروط المطروحة ونشر الفواتير فحسب، فيكون لمصر والبحرين نصيب الأسد من التعويضات التي ستُدفعها قطر "للدول المتضررة من سياستها".
أكبر من الدوحة وأبعد منها
تشير متابعة مسار الأحداث قبل اندلاع الأزمة الأخيرة وبعدها إلى إن المحمدين متفقان على اعتبار المواجهة مع قطر - كما الحرب في اليمن - خطوة نحو إنجاز مشروع نابوليوني يؤسس لهيمنة يتقاسمانها على منطقة الخليج والجزيرة العربية وجوارهما. أخفقت المواجهات على الجبهتين – على الرغم من ارتفاع أكلافها السياسية والمالية وما سببته من خسائر بشرية - في تقريب الأميرين من تدشين مشروعهما.
إقرأ أيضاً: مرحلة جديدة من الصراع على السلطة في السعودية
أوضحت المواجهة مع قطر إن محمد بن زايد ومحمد بن سلمان، ومن خلفهما الرئيس المصري وملك البحرين، يواجهون مشكلة حقيقية ولدت بسبب سوء التخطيط للمواجهة وسوء إدارتها فيما بعد. فالدول الأربع لا يمكنها التراجع بعد أن أعلنت منذ اليوم الأول إن شروطها الثلاثة عشر هي كلٌ لا يتجزأ وغير قابلٍ للتفاوض. ثم قبلت الدول الأربع الوساطة الكويتية واستجابت لضغوط أمريكية وأوروبية فأعادت صياغة شروطها لتصبح ستة مبادئ. وسواء أكانت شروط الدول الأربع لتسوية الأزمة الراهنة في الخليج 13 شرطاً أو ستة فقد أصبحت على يقين بأن انتصارها غير محتمل في المدى المنظور. فالانتصار الذي تنتظره الدول الأربع يتطلب تغيير الطاقم القيادي في قطر واستبداله بطاقم آخر يقبل الشروط المطروحة، بما فيها دفع عشرات مليارات الدولارات تعويضاً عمّا تعتبره هذه الدول خسائراً تكبدتها منذ انطلاق شرارة الربيع العربي قبل أكثر من ست سنوات. وفوق ذلك، فإن دولاً إقليمية ودولية فاعلة في المنطقة مثل تركيا والولايات المتحدة لن تسمح بمثل هذه النتيجة التي ستدشن مشروع المحمدين لفرض هيمنة السعودية والإمارات على الخليج والجزيرة العربية وجوارهما.
تراكم الإخفاقات
شنّت السعودية حرب اليمن للأهداف نفسها التي تتوخى تحقيقها من المواجهة الراهنة مع قطر. فحين أعلن الملك سلمان بعد أسابيع من توليه الحكم عن بدء "عاصفة الحزم"، روج إعلاميون وأكاديميون ومراكز أبحاث في السعودية إن بلادهم تعلن في الوقت نفسه "مبدأ سلمان" تدشيناً لعصر جديد تمارس فيه السعودية نفوذاً سياسياً وأمنياً يتجاوز حدودها في الجهات الأربع. وعلى الرغم من فشلها حتى الآن في تحقيق انتصار عسكري في حرب اليمن أو انتصار سياسي في المواجهة مع قطر، فما زالت السعودية تضخ المزيد من مواردها وطاقتها في الجبهتين. وما زالت السعودية بقيادة ولي عهدها تأمل أن تحقق جهودها انتصاراً يبرر مطالبتها بأن تتبوأ مركزها كدولة قائدة لنظام إقليمي يشمل، بجانب منطقة الخليج، البلدان العربية والإسلامية في الجوار، كدولة مرجعية للعالمين الإسلامي والعربي.
من جهتها، يبدو انخراط الإمارات في حرب اليمن وفي المواجهة مع قطر يتحرك لغايات أكثر تواضعاً، يصل أقصاها إلى الرغبة في مشاركة السعودية في قيادة النظام الإقليمي الجديد الذي تصفه أجهزتها الإعلامية والأكاديمية بـ"العصر الخليجي".. باعتبار أنه "في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين ستكون الكلمة العليا في تحديد مسار ومستقبل المنطقة العربية في أيدي دول مجلس التعاون الخليجي" (مجلة "آراء حول الخليج" 18/1/2012). وتتعدد الظروف والعوامل التي يتم تقديمها كممهدات لانبثاق "العصر الخليجي". فهي تشمل أحداث الربيع العربي وما تلاه من تردي الأوضاع في كل من مصر وسوريا، علاوة على بقاء العراق محتلاً مما خلق فراغاً في الساحة السياسية العربية أمام دول مجلس التعاون وهي عازمة على ملئه وقيادة المنطقة.
تفاقم الرسائل المزدوجة التي ترسلها إدارة الرئيس ترامب من أخطار هذا الوضع المعقد في المنطقة.
إلا إن نتائج حرب اليمن، كما المواجهة مع قطر حتى الآن تشير إن السعودية والإمارات لم تحققا أهدافهما. فبدل من تصبح السعودية قائدة العالمين العربي والإسلامي انكشف عجزها حتى عن المحافظة على تماسك مجلس التعاون الخليجي الذي كانت تتمتع فيه (على الأقل شكلياً) بهيبة "شيخ المشايخ". أما الإمارات، ففيما عدا استحواذها على مناطق سياحية ومواقع إنتاج النفط في جنوب اليمن، فلا يمكنها أن تشير إلى اختراق استراتيجي يبرر انقسام مجلس التعاون على نفسه. بل إن دخولها في المواجهة مع قطر أرسل إشارات إنذار واضحة إلى سلطنة عُمان لتذكيرها بطموح محمد بن زايد لمد نفوذ بلاده فيها وعبرها إلى جنوب اليمن.
هشاشة الوضع الإقليمي ومستقبل مجلس التعاون
أشار الأكاديمي الأمريكي مارك لينش (واشنطن بوست 14/7/2017)، إلى إن إخفاق الدول الإقليمية في حساب نتائج قراراتها السياسية لا يتيح التفاؤل بنهاية سريعة للأزمة الخليجية الراهنة. كما إن الرسائل المزدوجة التي ترسلها إدارة الرئيس ترامب تُفاقم أخطار هذا الوضع المعقد في المنطقة. ففي البداية، وبعد قمة الرياض التي حضرها ترامب، توقعت السعودية والإمارات إنهما ستحققان نصراً سريعاً على قطر وستحظيان في سبيل ذلك بدعمٍ إقليمي واسع. إلا إن محاولتهما لاستعراض هيمنتهما على بلدان مجلس التعاون وبقية البلدان العربية في الشرق الأوسط كشفت بدلاً من ذلك استمرار انقسام النظام الإقليمي. كما كشفت من الجهة الأخرى إن النزاعات بين الأنظمة "السُنيَة" نفسها قائمة بمقدار حدة نزاعها مع إيران.
قبل ست سنوات، فاجأ الملك السعودي عبد الله ضيوفه المشاركين في القمة الخليجية المنعقدة بالرياض (كانون أول/ ديسمبر 2011) بدعوتهم إلى الانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد. لم تلقَ الدعوة الملكية استجابة الحاضرين الذين أحالوها إلى لجنة متخصصة "يوكل إليها دراسة المقترحات من كل جوانبها في ضوء الآراء التي تم تبادلها بين القادة".
بعد ستة أشهر كرر الملك السعودي مقترحه، ودعا بقية قادة المجلس إلى قمة تشاورية عُقدت في الرياض لمناقشة توصيات اللجنة المشكلة. فشلت تلك القمة التشاورية أيضاً في التوصل إلى اتفاق فأُحيل الموضوع مرة أخرى إلى اللجان لاستكمال دراسته. وتكرر التأجيل في قمم تالية. وفي القمة الأخيرة المنعقدة في المنامة في كانون الأول/ ديسمبر 2016 أعاد المشاركون التأكيد على "الاستمرار في مواصلة الجهود للانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد"، وتكليف "المجلس الوزاري ورئيس الهيئة المتخصصة باستكمال اتخاذ الإجراءات اللازمة لذلك، ورفع ما يتم التوصل إليه إلى المجلس الأعلى في دورته القادمة".
من الصعب الآن النظر في احتمال انعقاد القمة الخليجية القادمة في موعدها المعتاد قبل نهاية هذا العام. ولكنها إن انعقدت فلن يناقش المشاركون فيها موضوع الوحدة الخليجية.