تغذت احتجاجات الربيع العربي أيضاً من إحباط المواطنين من الفساد المستشري الذي ابتليت به مجتمعاتهم، وكان دافعاً آخر من دوافع الدعوة إلى العدالة الاجتماعية. وتقتضي العدالة الاجتماعية معاملة متساوية من طرف مؤسسات الدولة. لكن الفساد يقوض هذه المساواة بالتعامل المميّز مع من يحوزون وسائل مالية أعظم تتيح لهم دفع الرشى، ومن يتمتعون بمزيد من شبكات النفوذ قياساً بأولئك الذين يفتقرون إلى هذه الامكانيات.
على الرغم من بعض الإصلاحات الناجمة عن الربيع العربي، تعتقد الغالبية العظمى من المواطنين في المنطقة أنَّ الفساد لا يزال واسع الانتشار. هذا ما يراه جميع اللبنانيين تقريباً (96 في المئة)، وما يزيد على ثمانية أعشار المصريين (89 في المئة)، وفي اليمن (84 في المئة) والاردن (83 في المئة) والمغرب (82 في المئة). والتوانسة أقلّ من يقول إنَّ الفساد واسع النطاق، لكن الثلثين من بينهم يرون ذلك.
من المرجّح إلى أبعد الحدود أن يقول مواطنون من جميع الأعمار إنَّ الفساد واسع النطاق، على الرغم من أنّ الأصغر سنّاً هم الأَمْيَل إلى قول ذلك. على سبيل المثال، فإنَّ التوانسة الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 هم الأميل إلى اعتبار الفساد واسع الانتشار (78 في المئة) قياساً بأولئك الذين هم بين 30 و49 من العمر (69 في المئة) أو الذين هم في الخمسين فما فوق (59 في المئة). وفي الجزائر، فإنَّ الذين تجاوزوا الخمسين أقل ميلاً لتبيّن الفساد (68 في المئة) قياساً بأولئك الذين هم بين 18 و29 (82 في المئة) أو بين 30 و49 (80 في المئة).
عموماً، المحتجون أميل من غير المحتجين إلى القول إنَّ الفساد واسع النطاق. والمحتجون في تونس هم أكثر من يقول إنَّ الفساد مشكلة (+15)، تتلوها الجزائر (+13) ثم مصر (+8) فالمغرب (+7) واليمن (+7).
لم تتغير التصوّرات عن الفساد إلا قليلاً في معظم البلدان خلال آخر دورتين من دورات الباروميتر العربي على الرغم من الهزّات السياسية في بعض البلدان. والحال، إنَّ الجزائر ـ وهو بلد لم يشهد تغييرات كبرى في أعقاب الربيع العربي ـ هو البلد الوحيد الذي يعتقد فيه المواطنون أنّ الفساد بات أقلّ انتشاراً مما كان عليه في الدورة الثانية. فقد انخفض هذا التصور في الجزائر بمقدار 12 نقطة، من 90 في المئة إلى 78 في المئة. ولعل لهذه النتيجة صلة بعدد من دعاوى الفساد الكبيرة التي رفعها النظام، من بينها دعوى ضد وزير الطاقة السابق، شكيب خليل.
على النقيض من ذلك، ازداد ميل المواطنين إلى القول إنَّ الفساد واسع النطاق بمقدار 17 نقطة في عام 2012 في الأردن ـ وهو بلد آخر نجا فيه النظام من الانتفاضات العربية ـ بالمقارنة مع عام 2010. ويبدو أنّهَ كان لحملة النظام على الفساد، في هذه الحالة، تأثير معاكس لما وجدناه في الجزائر. وأسباب هذا الاختلاف ليست واضحة تماماً، لكنها قد تشير مرة أخرى إلى أن الأردنيين توصلوا إلى استنتاج معاكس بعد حملة حكومية على الفساد. وعلى سبيل المثال، فقد تلقت هيئة مكافحة الفساد في عام 2011 عدداً من الشكاوى بلغ 714 شكوى، ولعل ذلك قد عزز لدى المواطنين أنّ الفساد مشكلة هائلة في المملكة بدلاً من أن يقنعهم بأن الحكومة تعالج المشكل على نحو وافٍ.
أخيراً، بين دورتي الباروميتر العربي الثانية والثالثة، زاد أيضاً بمقدار 9 نقاط عدد المصريين الذين يقولون إن الفساد واسع الانتشار. ويشير استطلاع عام 2013 الذي أجري قبيل الانقلاب الذي أطاح الرئيس محمد مرسي، إلى أن النظام الجديد فشل في وضع حدّ لهذه الممارسة. ويبدو، على العكس، أن الانفتاح السياسي وتراجع سلطة الدولة ربما أدّيا إلى زيادة في مستويات الفساد المحسوس لدى المصريين العاديين. غير أنّ اللافت هو أنَّ تونس لم تعرف مثل هذه الزيادة ولا اليمن، على الرغم من سقوط زعيميهما القويّين اللذين حكما طويلاً في أوائل عام 2011.
الواسطة
تعني الواسطة استخدام الصلات التي تقوم على الشبكات العائلية أو القرابية. وهي قضية ذات صلة وثيقة بالفساد. ويُنظر إليها على أنها عامل حاسم في كيفية عمل الحكومات ورجال الأعمال.
يبيّن الباروميتر العربي ما يعتقده الرأي العام العربي من أنَّ الواسطة تؤدي دوراً رئيساً في المجتمعات العربية. ففي جميع البلدان، تقول الأغلبية العظمى إنّ الواسطة عادة ما تكون سبيلا للحصول على عمل. ويرى تسعة أعشار على الأقل انَّ استخدام الواسطة واسع النطاق (94 في المئة في لبنان، 93 في المئة في الأردن، 90 في المئة في فلسطين، 91 في المئة في المغرب). أمّا في أماكن أخرى، فيرى أكثر من ثلاثة أرباع المستطلعين هذا الرأي (84 في المئة في مصر، 78 في المئة في تونس، 76 في المئة في اليمن).
يميل المواطنون في جميع أنحاء المنطقة، كباراً وصغاراً، إلى القول إن الواسطة شائعة أو واسعة النطاق لدى الحصول على عمل. غير أن الشباب في تونس واليمن ـ البلدان اللذان أسقط فيهما الربيع العربي ديكتاتورين عريقين ـ أَمْيَل من الذين بلغوا الخمسين أو تجاوزوها إلى القول إن استخدام الواسطة سائد. ففي كلتا الحالتين، أولئك الذين يبلغون من العمر 18 - 29 أكثر بعشر نقاط من حيث احتمال رؤيتهم هذا الرأي.
نجد في الوقت نفسه أنَّ الذين تظاهروا في الربيع العربي ليسوا أميل من الذين لم يتظاهروا إلى القول إنَّ الواسطة هي مفتاح الحصول على عمل. لكن الأدلة تشير إلى أن حوادث الربيع العربي ربما كان لها تأثير على الدور الذي تؤديه الواسطة في بعض البلدان. فقد انخفضت في تونس واليمن نسبة من يقولون إنَّ الواسطة شائعة بين الدورتين الثانية والثالثة من دورات الباروميتر العربي. وفي عام 2013 قلّ عدد اليمنيين والتوانسة الذين يرون هذا الرأي بمقدار 16 نقطة و13 نقطة على التوالي. أمّا البلدان الأخرى فلم تشهد أي تغيّر يُذكَر بين الدورتين.
** تشارَك في البحث كلٌّ من أماني جمّال من جامعة برنستون ومايكل روبنز من "الباروميتر العربيّ"، وأصدره "برنامج العدالة الاجتماعيّة وسياسات التنميّة" في معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت، بالتّعاون مع مركز ممدوحة س. بوبست للسلام والعدالة في جامعة برنستون، بتمويل من مؤسسة إلمِر وممدوحة بوبست في نيويورك. هنا الجزء الرابع.