يفرض مجتمع القرية على نسائه العديد من القيود والمحاذير من خلال العادات والتقاليد السائدة هنا التي لا يسمح لهن بالخروج عليها، فهي "مقدسة أكثر من الدين" على حد تعبير إحدى الفتيات في قريتي. يطال ذلك خيارات التعليم والعمل والزواج والأنشطة التي يمكن أن يمارسنها أو الأدوار التي يمكن أن يقمن بها، وغير ذلك من تفاصيل تقابلها المرأة في حياتها اليومية. قد تختلف درجة التقييد أو الحرية المتاحة للمرأة من أسرة لأخرى لكن الجميع يخضع في النهاية لثقافة تميّز الذكر، منذ الميلاد، وتضغط على الأنثى وتفرض عليها إطاراً يجب ألا تتجاوزه. وتزداد وطأة هذه الضغوط على غير المتعلمات وغير العاملات، فالوظيفة تتيح للمرأة الاستقلال المادي وتعطي لها الحق في الخروج من المنزل بصورة يومية، ومن ثم يتاح لها، وإن "جزئياً"، تجاوز الفكرة السائدة أن "كثرة خروج البنات مستنكَر"، وهو أمر يعد مكسباً ثميناً هنا في ظل غياب أنشطة يمكن للمرأة أن تشارك فيها، سواء رياضية أو ثقافية أو ترفيهية أو خيرية. قليل من هذه الأنشطة قد توجد في المدينة، ولكن بعد المسافة، ورفض الأهل يصعّب عليهن الذهاب والمشاركة، لاسيما مع المسؤوليات المنزلية الكثيرة الملقاة على عاتقهن، ومن ثم ينحصر نشاط الفتيات غير العاملات هنا في تأدية الأعمال المنزلية ومشاهدة التلفاز، وقد يسمح لهن بالجلوس مع جارة أو زيارة صديقة أو الذهاب للمدينة للتسوق في فترات متباعدة، وإن كان لهن اتصال بالإنترنت فيمكن تصفح "فيسبوك" الذي تعتبره بعضهن "متنفساً" لهن.
حياة شاقة
تنتشر الأمية بين كبيرات السن، أما الأصغر فيلتحقن بالتعليم مع اختلاف الدرجة التي يصلن إليها فيه، فهناك الجامعيات والحاصلات على مؤهلات متوسطة أو فوق المتوسطة، وهناك متسرّبات من التعليم غالباً بعد إتمام المرحلة الإعدادية، لأسباب اقتصادية أو ثقافية، خاصة أن المدرسة الثانوية تقع خارج القرية، فيمكثن في المنزل إلى أن يتزوجن.
تتحمل النساء المتزوجات أو المعيلات هنا قدراً ضخماً من مسؤوليات الأسرة، خاصة مع سفر كثير من الأزواج والأبناء بحثاً عن عمل. وتبدو مسؤولياتهن المنزلية أكبر من مسؤوليات نظيراتهن في المدينة، فهي تشمل أيضاً إعداد الخبز الشَّمسي أو "الخَبِيز" (مع وجود أفران تبيع الخبز "المصري") ورعاية البهائم إن وجدت، وإن اقتضى الأمر إحضار طعامها من الحقول في غياب الأزواج والأبناء بل وحتى مع وجودهم!
لا يزال ختان الإناث عادة متوارثة تمارس على نطاق واسع، تخضع له الطفلة بين 9 و12 عاماً. وهي تجري على يد أطباء معروفين للأهالي يستدعونهم إلى المنزل. والغريب أن هذه العادة تلقى التأييد حتى من متعلّمات، إما لاعتبارات دينية أو لأخرى متعلقة بـ"حفظ" البنت
وهناك من يقمن بأعمال زراعية في أرض تمتلكها أسرهن أو كأجيرات. وهناك الموظفات الحكوميات، ومن يدرن مشاريعهن الخاصة الصغيرة في مجال بيع الملابس النسائية كالعباءات مثلاً أو بيع الخضروات من بيوتهن للأهالي.
لا يزال ختان الإناث عادة متوارثة تمارس على نطاق واسع، تخضع له الطفلة بين 9 و12 عاماً. وهي تجري على يد أطباء معروفين للأهالي يستدعونهم إلى المنزل. والغريب أن هذه العادة تلقى التأييد حتى من متعلّمات، إما لاعتبارات دينية أو باعتبارها "تحفظ" البنت.
هناك أيضاً ظاهرة الزواج المبكر، أو ما يطلق عليه هنا "زواج السُّنَّة"، الذي ظهر مؤخراً، حيث تزوَّج البنت قبل أن تبلغ السن القانونية (18 عاماً) زواجاً عرفياً إلى أن تبلغها فيعقد القران بصورة رسمية.
وهذه نماذج مختلفة تعكس واقع نساء القرية والمشكلات التي يواجهنها (جميع الأسماء المذكورة مستعارة).
كراسة الرسم فعل مقاومة
على دكة خشبية جلست "سارة" ساعةَ مغرب، تريني رسومها على صفحات كراسة رسم. لم تكن كراستها المدرسية، فقد تركت سارة المدرسة منذ عامين بعد أن أتمت المرحلة الإعدادية، بل هي أُحضِرَتْ في الأصل لأختها الصغرى فأعجبتها وأخذتها لنفسها كي تخط على صفحاتها رسومها.
كانت تلك الفراشة زاهية الألوان المطبوعة على غلاف الكراسة أول ما أعادت سارة رسمه على الصفحة الأولى، وعلى الصفحات التالية تتابعت رسومها لشخصيات كرتونية تشاهدها في التلفاز أو لصور تضمها الكتب المدرسية الخاصة بإخوتها الصغار، أو غير ذلك مما يستهويها ويدفعها لأن تمسك بالقلم لتعيد رسمه من مخيلتها أو من صورة أمامها.
تخبرني، وهي جالسة مرتدية عباءة وردية اللون، وممسكة بكراستها بيدين مطليتي الأظافر، أنها كانت تود لو أكملت تعليمها والتحقت بالثانوي الصناعي قسم الزخرفة، فهو الأنسب لهوايتها التي لم تبدأ في ممارستها إلا بعد مغادرة المدرسة، ولكنّ أباها قرر أن هذا القدر من التعليم يكفي، ونفذت هي القرار بهدوء، إذ لا يبدو عليها حزن أو حسرة. "الكثيرات من زميلاتي في المدرسة لم يكملن تعليمهن مثلي لأن آباءهن أو خطّابهن لم يسمحوا لهن بذلك". تَقَدَّم لسارة، التي تستيقظ يومياً في السادسة صباحاً لتؤدي الأعمال المنزلية الملقاة على عاتقها، أكثر من خاطب، منهم هذا الذي كان يريد الزواج خلال شهرين فقط، وكان يبحث عن عروس يتراوح عمرها بين 16 و20 عاماً، أما سنه هو فمسألة لا تهم كثيراً. لم يكن سبب الرفض صغر سنها، هي التي أكملت للتو ستة عشر عاماً، إذ يمكن تزويجها "زواج السُّنَة" قبل أن تبلغ السن القانونية، بل لأن القدرات المادية للأسرة وقتها لم تكن لتتحمل تكلفة زواج جديد بعد زواج أختها الكبرى مباشرة.
تبدو سارة بالفعل "مالهاش رأي"، فهي لا تعرف لماذا قرر أبوها ألاّ تكمل تعليمها. ودون ضجيج تستسلم لما يبدو قدرها الذي لا فكاك لها منه، أو لعلها لا تعرف أصلاً مساراً آخر يمكنها أن تتخذه في حياتها بخلاف مسار أختها وزميلاتها، ومن قَبل أمها التي هي ضحية وجلّاد. وحدها "كراسة الرسم" تمثل فعل المقاومة الذي تقوم به، دون وعي منها، وبالتأكيد بصورة مؤقتة
"هي مالهاش رأي" بادرتني أمها مبتسمة، وهي امرأة أربعينية لم تنل حظاً من التعليم، عندما وجهت سؤالي لسارة عن رأيها في مسألة الزواج. أسأل الأم: هل لديكم شروط معينة لمن ستوافقون عليه زوجا لها؟ فتجيب ببساطة وبابتسامة أيضاً: "اللي يِجدَر يِجِلّ يِجِلّ" (تقابل كلمة "يِجِلّ" باللهجة الصعيدية كلمة "يشيل" بالمصرية وهما تعنيان بالفصحى "يحمل"، والمعنى الذي تشير إليه الأم هنا أن من يمتلك الإمكانات المادية للزواج فمرحباً به).
تبدو سارة بالفعل "مالهاش رأي"، فهي لا تعرف لماذا قرر أبوها ألا تكمل تعليمها، ودون ضجيج تستسلم لما يبدو قدرها الذي لا فكاك لها منه، أو لعلها لا تعرف أصلاً مساراً آخر يمكنها أن تتخذه في حياتها بخلاف مسار أختها وزميلاتها، ومن قبل أمها التي هي ضحية وجلّاد. وحدها "كراسة الرسم" تمثل فعل المقاومة الوحيد الذي تقوم به سارة، دون وعي منها، وبالتأكيد بصورة مؤقتة.
وتحت ضوء مصباح خافت، فقد جنّ علينا الليل ونحن جلوس، تسترسل الأم في الحديث عن تفاصيل زواج ابنتها الكبرى، وتشاركها سارة في رواية ما فعله أهل الزوج، وقريباته خصوصاً، أثناء التجهيز، وما اشترته أختها العروس من أثاث وملابس. حديث لا يناسب ملامحها الطفولية. أما عن العريس المنتظر لها فتقول على استحياء إنها تريده "كويس ومن عيلة زينة"، وبينما الأم لا تهمها مسألة سنه، فإن الابنة تجادلها في ألا يزيد عمره عن 31 عاماً. يستمر الحديث إلى أن يقطعه صوت الوالد آتياً من منزل مجاور، ينادي على "سارة" لتجهز له طعام العشاء، كما هي العادة اليومية، فتغادرنا على الفور مسرعة، وتلحقها بعد فترة وجيزة أختها الصغرى، إذ عليها مهمة وضع الفحم على النار لتجهيز الشيشة التي يتناولها الوالد بعد وجبة العشاء.
زكيّة
هي امرأة سبعينية تراها دوماً بجلبابها الأسود وطرحتها ذات اللون نفسه. بعد وفاة زوجها منذ سنوات صارت تتولى زراعة الأرض التي تمتلكها الأسرة، فعاودت نشاطاً قديماً كانت تمارسه قبل الزواج. تقوم بنفسها - بالرغم من السن والجسد النحيل - بالعديد من أعمال الزرع والحصاد للمحاصيل التي تزرعها من قصب وقمح وذرة وبرسيم، وتؤجر أناساً للقيام بأعمال أخرى أكثر صعوبة. تذهب في الصباح الباكر إلى الحقل لإحضار ما يأكله بهائمها وتعود قبل الظهر، وهو ما يعرف هنا ب"الحشيش". تصف نفسها وهي عائدة من هذه الرحلة شبه اليومية فتقول: "أجيب الشِّيلَة كد الهِيلَة على راسي" تشير إلى كبر حجم شوال الحشيش الذي تُحضره. "كثيرات يذهبن إلى الحشيش معظمهن كبيرات السن، وهناك فتيات أيضاً لكن من بنات العرب" أي من القبيلة الأخرى، فالبعد القبلي هنا حاضر باستمرار. تتسم زكية بحسّ فكاهي، فقد أضحكتنا عندما سألتها عن أحوال هؤلاء النسوة ومشاكلهن فأجابتني "مشاكلهم؟! شاربين المَرار في الحشيش".
بالنسبة لنا كنساء لا يوجد أي مكان يتيح لنا ممارسة أي نشاط، لا أستطيع مثلاً أن أصطحب صديقتي للخروج إلى أحد أندية المدينة، سترفض أسرتي خوفاً من كلام الناس "هايچولوا عليكم تطلعوا وتخشوا"
تتولى زكية أيضاً البيع في محل للأسرة يحتلّ إحدى حجرات منزلها. لديها ابنان أحدهما سافر مؤخراً إلى السعودية للعمل وترك الأرض "الزرع مش مجضّي، أوقات ممكن تبقي متداينة منه"، وبلسان خبيرة في شؤون الزراعة تحكي لي عما تكلفه الأرض من مصروفات "تأجير النفر بـ50 جنيهاً في اليوم والجمل بـ 110 جنيهات. العشرون قيراطاً في أسبوع أخذوا 20 نفر و7 جِمال غير مصاريف الغداء والشاي للأنفار". وعلى الرغم من كونها أميّة فإنها تسجل بالقلم في دفتر خاص علامات بسيطة عبارة عن خطوط طولية ودوائر صغيرة تحسب بها إنتاج أرضها وما أنفقت عليها من مصروفات.
قهر القبيلة وفرعِها
بحفاوة بالغة، وكرم الناس هنا مما يُحْكَى عنه، استقبلتنا "إيمان" وشقيقتها في منزلهما. فتاتان في أواخر العشرينيات حاصلتان على مؤهل جامعي. أشعرتني ابتسامتهما بالألفة وجعلت الحديث بيننا يمضي بأريحية بالرغم من أنه لقاؤنا الأول. ولكنّ ابتسامة "إيمان" تختفي ما إن يمس الحديث قصتها، ويعكس وجهها على الفور شعوراً بالمرارة والحزن. تجسد قصة "إيمان" شكلاً آخر من أشكال القهر الذي تتعرض له النساء هنا، تحديداً أولئك المنتميات إلى قبيلة "الهَوَّارَة" التي تبدو تقاليدها أكثر صرامة وتحكّما، وتمتد عائلاتها عبر محافظات مختلفة في الصعيد، وهم يمثلون نسبة معتبرة من سكان القرية، إذ ترفض هذه العائلات تزويج بناتها من خارج القبيلة، بل الأكثر من ذلك، أن فرع "الهمّاميّة"، أحد أفرع هذه القبيلة، وهو الفرع السائد هنا، يفرض على البنت أن تتزوج من الفرع نفسه، أي لا بد أن يكون الخاطب "هوّاريّا همّاميا" كي يوافَق على طلبه.
أما إيمان فقد تقدم لها شاب رأت فيه الشخص المناسب والكفء لها من الناحيتين التعليمية والوظيفية، ولكنه من فرع آخر، بالرغم من انتمائه للقبيلة نفسها، وافق الأخ ولكن الأعمام، الذين يمثلون رؤوس العائلة، رفضوا رفضاً تاماً. إن كنتِ إذاً مثل "إيمان"، فتاة هوَّاريَّة همَّاميَّة، فأنت وحظك، إما أن تظفري بزوج مناسب من بين من يتوفر فيهم هذا الشرط الذي يسبق أي شرط آخر، وإما أن ترضي بـ "المتاح" من أبناء فرع قبيلتك السامي، حتى إن كان أقل في المستوى التعليمي أو المهني، أو تبقين هكذا بدون زواج. بينما الرجل يمكنه أن يتزوج من يشاء، وإن كانت الأغلبية تفضَّل الزواج بالطريقة نفسها.
تحكي لي إيمان عن حالات وصل الأمر فيها إلى حد التهديد المسلّح لوالد الفتاة أو من تقدم لخطبتها لإجبارهما على إنهاء الأمر. وذات مرة أجبر الخاطب بعد عقد القران مباشرة على التطليق في الليلة نفسها. مثل هذه الحوادث لا تتكرر كثيراً هنا، فالسائد الالتزام بهذا التقليد القَبَلي حتى من جانب الشباب الحاصلين على مؤهلات عليا الذين درسوا خارج القرية وزاروا مدناً أخرى، بل لعلهم أول من يتعصبون له. الغريب أن بعض الفتيات يرفضن الزواج من خارج قبيلتهن، بل إن إحداهن أخبرتني أنها رفضت أحدهم لأن أمه أو جدته ليست من قبيلة "الهوارة" وهو ما اعتبرته شيئاً يشينه.
"الزواج عندنا تقليدي، ففي الغالب يتم عبر المعارف والعائلات. مجتمعنا منغلق لا يتيح لك أن تتعرفي على أحد أو أن يعرف كل طرف شخصية وأفكار الطرف الآخر قبل الارتباط. والمعيار الأساسي في أي زواج مدى جهوزية العريس مادياً بغض النظر عن طباعه أو سلوكه"
بالرغم شعورها بالظلم فإن "إيمان" ما تزال متمسكة بالأمل، تساندها نزعتها الإيمانية التي تلمسها من حديثها ،هي تبحث الآن عن وظيفة عبر مجموعات على فيسبوك متخصصة في نشر فرص العمل المتاحة في "نجع حمادي".
السفر هربا من مجتمع خانق
"عبير" فتاة في الثلاثين من عمرها، تعمل بالتدريس، تقول: بالنسبة لنا كنساء لا يوجد أي مكان يتيح لنا ممارسة أي نشاط، لا أستطيع مثلاً أن أصطحب صديقتي للخروج إلى أحد أندية المدينة، سترفض أسرتي خوفاً من كلام الناس "هايچولوا عليكم تطلعوا وتخشوا". كنت أتمنى المشاركة في جمعية خيرية بنجع حمادي تعمل في القرى الأكثر فقراً من قريتنا، أسسها شاب ترشح في الانتخابات البرلمانية الماضية ولكنه لم ينجح (هذا يشير إلى أن الجمعية أسست لأغراض انتخابية وليست تنموية حقيقية) لكن أغلب من يشارك من بنات المدينة، أما بنات القرى مثلي فبعد المسافة سيجعل مشاركتهن صعبة. تتيح لي الوظيفة دخلاً وفرصة للخروج، فغير العاملات هنا يعشن في سجن. كل ما يمكنني ممارسته من نشاط بخلاف العمل، وبعض الواجبات البيتية بطبيعة الحال، تصفح فيسبوك أو قراءة كتب على الإنترنت، وأحياناً أطلب من أخي الذي يدرس في "قنا" أن يشتري لي بعض الكتب من هناك وأتبادلها مع صديقات هنا. ترى "عبير" التي لم تستطع خلال مسارها المدرسي الالتحاق بالتخصصات التي تتمناها لعدم توافرها إلا في المدينة البعيدة، أن الأجيال الجديدة من البنات هنا تختلف عن جيلها: "الآن أصبح كل تفكيرهن في الزواج منذ المرحلة الإعدادية". تضيف: "الزواج عندنا تقليدي، ففي الغالب يتم عبر المعارف والعائلات. مجتمعنا منغلق لا يتيح لك أن تتعرفي على أحد أو أن يعرف كل طرف شخصية وأفكار الطرف الآخر قبل الارتباط.
والمعيار الأساسي في أي زواج مدى جهوزية العريس مادياً، بغض النظر عن طباعه أو سلوكه حتى إن كان يتعاطى نوعاً من المخدرات. ما يهمني أن يكون الشخص ملتزماً أخلاقياً. معظم الشباب هنا مسافرون، وأنا لا أريد أن أكرر تجربة أمي في الزواج من رجل دائم السفر والابتعاد عن أسرته مثل أبي، كانت أمي تتحمل المسؤولية كاملة، ولا أذكر على الإطلاق أنه حدثني ذات مرة في أي موضوع". تبحث "عبير" حالياً عن فرصة للسفر في إعارة إلى إحدى الدول العربية "سبقتني فتاتان من القرية هنا سافرتا منذ فترة للعمل، لم يكن المال دافعهما فمستواهما المادي مرتفع، بل كتجربة جديدة تتيح الخروج من هذا المجتمع الضاغط الذي ما يزال يجلدهما بالانتقاد والأقاويل، حتى من قبل المتعلمات، لسفرهما بمفردهما". ليست "عبير" متأكدة من موقف أهلها إزاء السفر، فزميلتها جاءتها فرصة للإعارة ولكن أخويها (أحدهما مهندس والآخر محاسب) رفضا لأنها غير متزوجة، ولكنها تؤكد أنها سوف تصرّ على السفر إن وجدت الفرصة المناسبة "لم أعد أتحمل المزيد من الضغوط التي يمارسها عليّ هذا المجتمع".
تحدٍّ
أخريات يتحدين الواقع الصعب والتقاليد الخانقة، يعملن لتطوير أنفسهن وتحقيق ما يطمحن إليه، بدعم من أسرهن في الغالب أو على الأقل من أحد أفرادها.
هند، امرأة ثلاثينية تعمل موظفة حكومية، وعلى وشك مناقشة رسالة الماجستير. قليلات هنا من يستكملن دراساتهن العليا، فأقرب جامعة، وهي جامعة قنا، تبعد على الأقل مسافة ساعة ونصف ذهاباً ومثلها إياباً، كانت هند تقطعها ثلاث مرّات أسبوعيّاً في رحلة تبدأ غالباً بعد ساعات العمل، فتكون العودة في المساء، ومن ثم تكثر أسئلة المحيطين "يسألون لماذا أكمل دراستي بالرغم من كوني موظفة؟ أنا أريد العلم لذاته، أنا لا أستفيد ماديّاً من أبحاثي بل على العكس تكلّفني الكثير، وأتمنى أن أكمل الدكتوراه بعد الماجستير". تحرص هند أيضاً على حضور بعض الدورات في نجع حمادي وقنا، أو عبر الإنترنت، ولا تتوانى عن السفر إلى القاهرة أو الإسكندرية للاطلاع على رسالة جامعية في تخصصها. مرت بتجربة زواج لم تستمر كثيراً من أحد الأقارب. المطلقة في مجتمع كهذا تتعرض لمزيد من الضغوط والتضييق وتكون دائماً "تحت النظر"، مثل الأرملة التي، خاصة إن كان لديها أطفال، تتشح بالسواد حتى تلحق بزوجها. ولكنّ هند، التي ترى أن أكثر ما يؤرّق المرأة الصعيدية تدخّل الناس في حياتها، لم تستسلم للخوف من كلام الناس لأن ذلك سيجعلها عاجزة عن تحقيق ما تطمح إليه. كان زوجها السابق رافضاً لرغبتها في استكمال دراستها العليا، وكان هذا أحد أوجه الخلاف بينهما، ولعله ما جعلها متحفظة من تكرار التجربة "لا أريد أن يوقف أحد أحلامي مرة أخرى". تؤكد هند أن أهم شيء للمرأة دراستها وعملها، وأن المرأة العاملة أكثر قدرة على تنظيم بيتها وإدارته. وتقول إن استقلالها المادي هو الذي ساعدها، إلى جانب دعم أسرتها، فهي على الأقل لم تمنعها من فعل ما تريد، كما أنها قد تربّت وأخواتها على الاعتماد على الذات، فالأب متوف والأخ الأكبر ظل لفترات طويلة غائباً إما للدراسة أو للعمل.
"كنت أريد أن يصبح لحياتي معنى بعيداً عن دوامة الأعمال المنزلية التي أقوم بها ليل نهار، أن أعيش لهدف، وأطور نفسي للأفضل"
أما نجلاء، وهي في العشرينيات من عمرها، فتقول: "أكثر ما أفتقده هنا الحرية الشخصية، في كل شيء، في الدخول والخروج، في اختيار شريك الحياة. يؤمن الناس هنا أن الفتاة ليس من حقها أن ترد خاطباً ما دام جاهزاً مادياً، وإن فعلت تصبح مادة للحديث خاصة إن تجاوزت سناً معينة. ولا يمكن أن يتفهموا رغبة الفتاة في أن تتوافر مواصفات معينة في شريك حياتها. لم يجبرني والدي على القبول، ولكنه بدأ يسيء معاملتي أكثر بعد أن رفضت أكثر من خاطب لم أجد بينهم الشخص المناسب".
تضيف نجلاء، التي تعرضت للعنف البدني مرّات من قبل أبيها وأخيها الأكبر، إن متابعتها لفيسبوك ولبعض البرامج الاجتماعية على شاشة التليفزيون أضاف لها الكثير من المعلومات في مجال علم النفس وكيفية التعامل بين الناس وتفاهم المقبلين على الزواج، التي ما كان لها أن تحصل عليها من مصدر آخر هنا. ولكن هذا جعلها أيضاً تشعر بالاغتراب عن مجتمعها لعدم قدرتها على تطبيق ما تتعلمه في هذا المجتمع الذي تصفه بالمتخلّف. ولذلك تشعر في بعض الأحيان بتفضيل الجهل على العلم.
نجلاء حاصلة على مؤهل متوسط، ولكنها التحقت منذ فترة بالجامعة المفتوحة للحصول على مؤهل جامعي "كنت أريد أن يصبح لحياتي معنى بعيداً عن دوامة الأعمال المنزلية التي أقوم بها ليل نهار، أن أعيش لهدف، وأطور نفسي للأفضل". وإذا كانت الأم تمارس في بعض الأحيان دوراً سلبياً وتتحول إلى أداة لقهر بناتها، فإن هناك أمهات يدعمن بناتهن. فعلى الرغم من أن والد نجلاء مقتدر مادياً فإنها تعتمد على أمها في توفير مصروفات الدراسة المرتفعة: "لم أخبر والدي بالكثير من التفاصيل عن كليتي خشية أن يرفض الأمر، ولو علم مقدار المصروفات سيمنعني من الذهاب، لذلك أنا أعتمد على أمي، هي لا تعمل، ولكنها تبيع مما تمتلكه من خِراف، وفي أحد الفصول الدراسية اضطرت لبيع قرطها الذهبي لتوفير المصروفات اللازمة". يجعلها ذلك تشعر بضغط عصبي كبير أثناء الامتحانات مخافة ألا تتمكن من النجاح. تتمنى نجلاء أن تكمل تعليمها وتحصل على الشهادة الجامعية، وأن تجد وظيفة حكومية توفر لها دخلاً تستطيع أن تنفق منه على تعليمها، ولكنها ترى ذلك صعباً بسبب انتشار الوساطة، فقد تقدمت الى أكثر من وظيفة حكومية دون جدوى، كما أن أهلها، ككثير من العائلات هنا، يرفضون عمل بناتهم في القطاع الخاص، في أحد المحال أو الصيدليات مثلاً، إذ يرون في ذلك انتقاصاً.
خلاصة
تجمّع في واقع هؤلاء النسوة مآل عقود طويلة ظُلِمَ خلالها الصعيد وأهمل بدرجة مضاعفة، من تخلف ثقافي واجتماعي وتعليمي وخدمي، ومن انتشار للبطالة وغياب للقانون وللتنمية الحقيقية. على رؤوسهن وقع النصيب الأكبر من كل ذلك، يواجهنه وحيدات دون أن تُمَدّ لهن يد، فلا الدولة قائمة بواجبها ولا المجتمع المدني له هنا وجود. كثيرات يبتلعهن المجتمع في دوامته دون أن يعين، وأخريات يخترن الاستسلام لواقع يعجزن عن تغييره، وهناك من يبحثن عن فرصة للهرب، وهناك من تأكلهن الأمراض النفسية والعصبية جرّاء الضغوط، ولا تزال هناك من يرفضن الانسحاق ويتحدين ظروفهن الصعبة، على قدر إمكانهن، آملات في مستقبل أفضل، جميعهن له مستحقات.