رجع المغرب لمقعده بالاتحاد الأفريقي، وانتهت بطولة أفريقيا للأمم، وعاد المغاربة لجدول الأعمال المحلي وقد تحقّق فيه رقم قياسي: مر أكثر من أربعة أشهر على تكليف زعيم حزب العدالة والتنمية الإسلامي بتشكيل حكومة ثانية بعد فوزه في انتخابات 7 - 10- 2016. وتفسّر هذه العرقلة بالخلاف حول الأحزاب التي ستشارك وتلك التي ستعارض. عادة يمثّل كلّ حزبٌ نفسه، لكن في المشهد المغربي الحالي، يريد حزب واحد تمثيل عدة أحزاب بدل تمثيل المواطنين.. وهذا اختراع جيد للعرقلة. ولتوفير مخرج خيالي، قال المحللون إن تشكيل الحكومة سيجري بعد انتهاء ولاية عبد الإله بنكيران كزعيم للعدالة والتنمية، فقال مقربون من الحزب إنّ بنكيران سيُمنح ولاية ثالثة!
اصطدم المحلّلون التلفزيونيون الرسميّون بالجدار وصمتوا لأنّ كلّ توقّعاتهم تبدّدت، وقد صار الإعلام المحلي يتجاهل تأخّر تشكيل الحكومة على أمل أن يُنسى فوز الإسلاميين، لكنّ الإعلام الأجنبي يذكِّر بالحقائق.. لا تضر الحقيقة إلا الأجساد المريضة، وكلّما ظهرت مقالات غربية عن المغرب ظهرت نوادر مغربية للتمويه، بل وظهرت آمال جارفة بأن يخلِّص الرئيس دونالد ترامب المغرب من إسلامييه.
وتخفي هذه الرغوة الإعلامية حقائق أعمق، سبق لعراب الإسلاميين العلوي المدغري أن توقعها. لقد تحدث عن علاقة الإسلاميين بأميركا وموقع الحركة الإسلامية العالمية ضمن الإستراتيجية الأمريكية. وأكّد وزير أوقاف الحسن الثاني ألا تناقض بين الإسلام والرأسمالية لأنّ كلاهما يدعو لإقامة حضارة تاجرة. ويضيف أنّ أمريكا استخدمت الإسلام بذكاء ضد السوفييت، لذا فالحركات الإسلامية عدو مفيد للولايات المتحدة. على هذا الأساس، فإن شبهة العمالة لأمريكا ستكون عاملاً مساعداً لتنصيب الحكومة الملتحية..
مع هذه المعطيات لا أمل ليقوم ترامب بالمهمة القذرة.
لهذا، فعلى خصوم الإسلاميين في المغرب أن يتدبروا أمرهم مع واقع لا يرتفع، أدركه المدغري وعبّر عنه قبل غيره في كتابه "الحكومة الملتحية" 2006. المدغري هو العراب والحامي والوسيط الذي حرص على إدماج الإخوان في الحقل السياسي المغربي بالتدريج المريح حتى كادوا في 2016 أن يهزموا التقطيع الانتخابي المصمم لتحجيمهم.
لم يفقد الكتاب آنيته وهو يصلح لقياس الضغط في هذه اللحظة. لقد أدرك المدغري أن الحكومة الملتحية قادمة، فنصح الأنظمة العربية بأن تفتح المجال للإسلاميين لأنهم كالماء، هو الخير، لكن إن حبس وهاج جرف كل شيء. وهذا أقرب إلى التهديد منه إلى النصيحة للنظام القائم.
شروط الإدماج
- في السياسة أولاً: طلب من الإسلاميين المغاربة أن يتنازلوا عن مطلب الحاكمية لأنه لا يلائم نظام الدولة الحديثة. وقد فعلوا بل حرصوا على التعاون مع لب الدولة وهي وزارة الداخلية. وأكّد المدغري أنّ تعاون الإخوان مع وزارة الداخلية لا يقلل من شأنهم، ويثمِّن ذلك لأنه يحافظ على استقرار الدولة. ولكي لا يصير تعاون الإخوان مع وزارة الداخلية سبة، كشف عن علاقة السلفيين بالدولة أيضاً. وقد كانت الأجهزة الأمنية في أيام البصري وزير الداخلية الأسبق 1974-1999 تغض الطرف عن تلك الجماعات في طور التكوين "لأسباب معقولة"، بل ويظن وزير الأوقاف أن وزير الداخلية كان يدعم الحركة الوهابية لأسباب جيوسياسية وحجته: "لقد وقع تغييب وزارة الأوقاف من هذا الملف فكانت لا تستطيع التدخل في المؤسسات الوهابية الموجودة في المغرب ولا في نشاط الأفراد الوهابيين لأنّهم جميعا كانوا متمتعين بحماية خاصة".
أكد وزير أوقاف الحسن الثاني ألاّ تناقض بين الإسلام والرأسمالية لأن كلاهما يدعو لإقامة حضارة تاجرة. ويضيف أن أمريكا استخدمت الإسلام بذكاء ضد السوفييت، لذا فالحركات الإسلامية عدو مفيد للولايات المتحدة
هكذا كانت وزارة الداخلية والإسلاميين سمْناً على عسل أيام قوة اليسار. فلكلّ واحد ملف لدى الآخر، وهذا التعارف العتيق يقلل الصدمات، وهو ما لم يتوفر في دول عربية أخرى. الجديد الآن هو أن وزارة الداخلية لم تعد مطمئنة للنمر الذي ربته وإنْ لم تلده، لذلك فهي تقلِّم مخالبه بشدة. فمنذ شهر قررت وزارة الداخلية منع خياطة النقاب والبرقع، وأرسلت موظفيها للطواف على محلات الخياطة لتنفيذ المنع، ومنذ أيام اعترضت الوزارة على قرار عمدة مدينة فاس بمنع الاختلاط بين الجنسين داخل صالونات الحلاقة والتجميل والتدليك.
وزارة الداخلية في كامل لياقتها البدنية والسياسية.
- وفي الاقتصاد ثانياً: هل ستطبق الحكومة الإسلامية الشريعة؟ يفترض أن هذا هو برنامج الحكومة الملتحية الذي لا توافق عليه وزارة الداخلية. النظام العالمي أيضا لا يوافق على ذلك.
طبعا تطبيق الشريعة هو مبرر وجود الحكومة الملتحية. هذا المبرر سيلقى مقاومة، فكيف ستتصرف الحكومة؟
يقدم المدغري شروطاً لتأخير تطبيق الشريعة، وهي تحقق العدالة والمساواة والقضاء على الفروق الطبقية وتوفير الشغل للجميع والحد الأدنى من العيش الكريم.
وحيث أنّ هذه الشروط لن تتحقق أبدا فهي تتحوّل إلى موانع لتطبيق الشريعة. النتيجة: ستتابع الحكومة الملتحية تدبير المال والاقتصاد في بنيته وشروطه الحالية. لم يعد أحدٌ يتذكر أبا ذر الغفاري الاشتراكي.
- وفي الثقافة ثالثاً: يملك أنصار الحكومة الملتحية ثقافة على درجة عالية من الحماس والنضال، وهذا ما يخيف الحداثيين وجمعياتهم المترهلة التي تفتقد الانضباط والقدرة على التعبئة. ولإخفاء الخوف، يقومون بطريقة حساب غريبة، يقولون إنه من ثمانية وعشرين مليون مغربي لهم حق التصويت تسجل 16 مليون في اللوائح وصوت سبعة ملايين فقط. وشرع الخاسرون الأذكياء يقومون بفرز أصوات غير المصوتين لتأكيد أنها أكثر من المصوتين. والهدف من حسبة جحا هذه هو استنتاج لا شرعية الانتخابات. وقد رفع الخاسرون العدميون لافتات مثل "لا أحد يمثلني"، أما الخاسرون الذين فقدوا السيطرة على أعصابهم فشرعوا في شتم المصوتين "أيها المواطن البسيط السعيد مبروك عليك فوز العدالة والتنمية.. مبروك عليك الذل".
الطرف الضعيف يشتم الشعب، وفي ظل خلل موازين القوى، يطالب الحداثيون الإسلاميين بالاجتهاد، والمقصود به هنا "إحداث التغيير اللازم في النصوص حتى تتلاءم مع العصر".
من يجرؤ على تجديد الدين بحذف بعض بنوده؟
لا أحد. الإسلاميون لا يريدون فصل الدين عن الدولة، لا يريدون توسيع الاجتهاد ليمسّ مضمون النصوص. العقيدة ليس فيها حلول وسط، ومن نازع الله في التشريع فقد كفر، لأنّ البرلمان المنتخب لن يغير أحكاما قطعية..
هذا هو المأزق. ما الحل؟
تمّ إخراج كلّ هذه المواضيع الجداليّة من المشهد المغربي. صار جدول أعمال حزب العدالة والتنمية علمانياً بالكامل، وهذا ما توقعه المدغري يوم كتب عن "قدرة النظام الإسلامي على إحداث التغيير الذي تريده الملكية الدستورية القائمة على إمارة المؤمنين". ولمن لم يفهم يوضح المدغري "إن الديمقراطية الراسخة في الملكية الدستورية كفيلة بتمكينهم (يقصد حزب العدالة والتنمية) من مقاليد حكومة تناوب إسلامية".
تمّ إخراج المواضيع الجدالية من المشهد المغربي. صار جدول أعمال حزب العدالة والتنمية علمانياً بالكامل، وهذا ما توقعه عرّاب الإسلاميين العلوي المدغري يوم كتب عن "قدرة النظام الإسلامي على إحداث التغيير الذي تريده الملكية الدستورية القائمة على إمارة المؤمنين"
فما الذي جرى لتتعرقل الحكومة الملتحية الثانية كل هذه المدة؟
إنّه الخوف، بل الرعب من يبقى الحزب الإسلامي ويتمدد في جهاز الدولة، وأمام الخائفين نموذج حزب العدالة والتنمية التركي وخطاطته الخطرة. فهناك يغيِّر الحزب الدستور ليكون على مقاسه. يرفع العتبة إلى عشرة في المئة ليمحو خصومه من المشهد السياسي (العتبة ثلاثة في المئة هنا في المغرب لتشتيت النواب). يعيد الانتخابات لكي لا يشكل حكومة ائتلافية. يتخلص من قيادييه الكبار الذين يرفضون الخضوع لأردوغان. يعتقل من يعترض وينقلب على حلفائه السابقين. يفتح مئة نزاع بدل سياسة صفر عداوة...
لا تستطيع وزارة الداخلية في المغرب قبول هذا، وهي تمنعه قبل وقوعه بكل الوسائل المفضوحة. ولكي لا يظن القارئ أن ما سبق أمانٍ وخزعبلات ــ أي كلمات لا صلة لها بالممارسات ــ نشرت الصحف أن الكثير من رجال الأعمال شرعوا في إخراج أموالهم من المغرب. سبق لهم أن جففوا البنوك في 2011 ثم أرجعوها بعد استقرار الوضع.
.. التجار لا يتصرفون على أساس الأماني والخزعبلات مثل كتّاب الرأي الذين تكاثروا بشكل فادح.