حمل شهر كانون الثاني/ يناير الماضي ثلاثة تطوّرات يمكن أن تلقي بظلالها على المشهد السوداني، وربما تهيئ الوضع إلى نقلة نوعية تفتح كوّة أمام تغيير سلمي يؤدي إلى قدر من الاستقرار ظلت البلاد تبحث عنه طويلاً.
فقبل أسبوع من مغادرته البيت الأبيض، أصدر الرئيس الأمريكي السّابق باراك أوباما قراراً تنفيذياً برفع جزئي ومؤقت للعقوبات الاقتصادية التي عانى منها السودان لعقدين من الزمان، ووصلت في نهاية الأمر إلى امتناع البنوك الأجنبية عن التّعامل مع السودان خوفاً من سيف تلك العقوبات الأمريكية. وفي أواخر الشهر عاد الزعيم السوداني المعارض الصادق المهدي بعد 30 شهراً قضاها في منفى اختياري. وبين الحدثين، أعلن الرئيس عمر البشير أنّه لن يترشّح في الانتخابات التي ستجري في العام 2020 وأنه يتطلّع إلى الاستمتاع بلقب الرئيس السابق!
"ديل"!
قرار أوباما تخفيف الضغط على الخرطوم جاء فيما يبدو في إطار مراجعة لسياسة العقوبات والحظر التي طُبقت من قبل مع إيران وكوبا. فقد اكتشفت واشنطن أنّ رفعها للعصا فقط لا يوفر لها هامشاً للمناورة ووسيلة للضغط لتحقيق بعض الأهداف، لأنّها تفتقد الجزرة التي تُغري بالتعاون معها. وكان أن دخلت في حوار مع الخرطوم منذ بداية العام 2015، عندما دعت مساعد الرئيس وقتها لشؤون الحزب الدكتور ابراهيم غندور إلى زيارتها. وفيما بعد، تبلور النقاش في خمس قضايا إذا التزم السودان بها لمدّة ستّة شهور فإنّه يمكن مكافأته برفع الحظر. وتتلخص هذه القضايا في اثنتين تتعلقان بالسودان وثلاثٍ لها أبعاد إقليمية، وكان ما يمكن اعتباره نوعاً من "deal".
الأولتان: الامتناع عن القيام بالحملة العسكرية الصيفية ضدّ المتمرّدين، وتسهيل إجراءات إيصال الإغاثة إلى المتضرّرين في مناطق التمرّد. أمّا الثلاثة الباقية فهي التعاون في ميدان مكافحة الإرهاب (خاصة داعش)، وأيضا عدم التعاون مع "جيش الرب" الأوغندي المصنّف منظمة إرهابية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لجنوب السودان.
إثر الحديث عن تنحّي البشير في المرة الأولى، برز الصراع بين خلفائه المحتملين، نائبه وقتها في رئاسة الجمهورية علي عثمان محمد طه، ورجل الحزب القوي في ذلك الوقت دكتور نافع علي نافع. لكن البشير قام بالإطاحة بالاثنين في إطار عملية أطلق عليها "بث دماء شابة في شرايين الحزب"
وبالفعل أعلن السودان عن وقف لإطلاق النار من طرف واحد وردت عليه الحركات المتمرّدة بالمثل ولقيت إجراءاته الجديدة الخاصّة بإيصال الإغاثة تقريظاً من المؤسسات الغربية، كما مُنع علانية زعيم متمردي جنوب السودان رياك مشار من دخول الخرطوم، وواصلت تعاونها الاستخباري مع واشنطن. في الإعلان عن رفع الحظر أوضحت إدارة أوباما أنّ السّودان لا يزال موضوعاً على لائحة الدول الراعية للإرهاب وأنّ هناك فترة ستة أشهر تنتهي في يوليو/تموز المقبل ووقتها سيكون على إدارة ترامب تحديد إذا كانت تريد المضي قدماً وإزالة اسم السودان من اللائحة ورفع العقوبات الاقتصادية نهائياً أو إعادة تثبيتها وذلك استناداًإلى تقارير من وزيري الخارجية والخزانة. الخرطوم ردّت عبر قرار لمجلس الوزراء بتمديد قرار وقف إطلاق النار من طرف واحد لفترة ستة أشهر أخرى.
البحث عن رئيس؟
إعلان البشير أنّه لن يترشح مجدداً ليس الأول من نوعه، لكن الجديد هذه المرة قوله إنّ الدّستور لا يسمح له لأنه استنفد المرتين المسموح بهما. وقبل الانتخابات الأخيرة التي جرت في 2015 ثار جدل إذا كان قد استنفد حقه الدستوري في الترشيح أم لا، لأن دستور 2005 الذي يحكم السودان الآن تمّ التوافق عليه إثراتفاقية السلام مع متمردي الحركة الشعبية من الجنوب وقتها، وبموجبها، وإثر توافق، أصبح البشير رئيساً ثمّ خاض السباق الانتخابي في 2010 وفاز ليعتبرها الفترة الرئاسية الأولى، وأنّ الثّانية تمّت في 2015 وتنتهي في 2020.
إثر الحديث عن تنحّيه في المرة الأولى، برز الصراع بين خلفائه المحتملين، نائبه وقتها في رئاسة الجمهورية علي عثمان محمد طه، ورجل الحزب القوي في ذلك الوقت دكتور نافع علي نافع. لكن البشير قام بالإطاحة بالاثنين في إطار عملية أطلق عليها "بث دماء شابة في شرايين الحزب" طالت عدداً من المتنفذين ومن الذين ظلّوا في أروقة السلطة لفترة طويلة. ولهذا فإعلان الرغبة في التنحي هذه المرة يكتسب أهمية وسينتظر النّاس لمعرفة إذا كان سيمضي في الشوط إلى النهاية، وبالتالي إعداد المسرح لخليفته، أم يدفع إلى تعديل الدستور للسماح له بالترشيح مجدداً، خاصّة وقد أصبح وجوده الشخصي وصلاته الإقليمية العربية والإفريقية واقعاً يصعب تجاوزه مع غياب للشخصيات الكاريزمية في الحزب التي يمكن الاتفاق عليها لخلافته.
اقرأ أيضاً: السودان.. وأخيراً فعلها ترامب
وهناك عامل إضافي يذكر، فبسبب الاتهامات الموجهة إليه من قبل المحكمة الجنائية الدولية، وتحديد حركته، خاصة مع الدول الغربية، فقد ساد رأي، خاصة في أوساط المعارضين، بأن تنحي البشير عن السلطة يعتبر المدخل إلى إصلاح علاقات البلاد الخارجية. لكنْ بعد قرار واشنطن تخفيف الحظر الاقتصادي وربما رفعه نهائياً، ومع بدء تدفق الاستثمارات الخليجية، فإنّ هذه الحجة ضعفت للغاية. وساعد على ذلك بروز موقع السودان الجيو - استراتيجي المحاذي لسبع دول، وكونه أصبح رقماً في قضايا الاتّجار بالبشر والهجرة ومكافحة الإرهاب، مما أدّى بدول الاتحاد الأوروبي إلى الدّخول معه في ترتيبات للعمل المشترك ثنائياً وجماعياً في هذه المجالات.
عودة المهدي الأخيرة بعد غياب 30 شهراً قضاها متنقلاً بين العواصم، كما أوضح، لمدّ الجسور مع المعارضة المسلحة التي ضمها في تحالف "نداء السودان"، وأيضاً لبذل مجهود فكري وسياسي للترويج لقضية الوسطية الإسلامية في مواجهة التيارات المتطرفة، تضع على المحك فكرة التغيير السلمي، خاصة في ضوء حديث البشير عن عدم رغبته في الترشيح مرة أخرى، وسؤال المدى الذي يستطيع جذب المعارضين إلى الداخل وتحدي النظام سلمياً.
بفضل الاستثمارات فيه، وانخراطه في الحرب على اليمن، فإن علاقات السّودان بالدّول الخليجية يمكن أن تنتقل إلى مرتبة الشّراكة بعد أن ظلّ ولوقتٍ طويل مصدراً للعمالة ومتلقٍ للمعونات والقروض، الأمر الذي يعطيه بعداً استراتيجياً، اقتصادياً وأمنياً، ويجعل من الأهمية بمكان تحقيق استقرار سياسي فيه
وفي الواقع، فإنّ المهدي نفسه يواجه تحدّياً داخلياً، يتعلّق بمقدار ما سيظل زعيماً لحزبه، وإذا كان يستطيع تنفيذ رغبته التي أعلنها في ضرورة اختيار شخص آخر لقيادته. فعلى الرغم من تجربته السياسية العريضة رئيساً للوزراء مرتين ومعارضاً لثلاثة من الأنظمة العسكرية، وعطائه الفكري، إلّا أنّه تجاوز الثمانين من العمر، الأمر الذي يجعل من الضروري أن يتجه إلى إعداد خليفة له.
البعد الخليجي
في مطلع هذا الشهر، تم افتتاح سد أعالي عطبرة وستيت الذي يروي مليون فدان، وكذلك محطة كهرباء بطاقة 80 ميغاوات من جملة أربع محطات ستوفر 320 ميغاوات. المشروع الذي تم تمويله من قبل "صناديق التنمية العربية" قام بعملية توطين لنحو 30 ألف أسرة من المتأثرين بقيام السد في ولايتي "كسلا" و"القضارف" في شرق السودان. سيخصص جزء من الأراضي التي سيرويها هذا المشروع للاستثمارات الزراعية السعودية التي تتجه إلى التعامل مع دول الجوار لتوفير احتياجاتها الغذائية (في إطار "رؤية 2030" التي أعلنتها وركّزت فيها على تقليل الاعتماد على النفط والدخول في شراكات استثمارية). وقد خصصت الرياض مبلغ 1.7 مليار دولار للإسهام في بناء هذين السدين وسدّين آخرين هما "كجبار" و"الشريك" في شمال السودان. وتتّجه الأنظار إلى مشروع مد قناتين من "سد مروي" الذي اكتمل بناؤه من قبل في شرق وغرب النيل، لمسافة 400 كيلومتراً، مما يضيف قرابة ثلاثة ملايين فدان للزراعة يمكن أن تكون متاحة للمستثمرين، خاصّة وأنّ كثيراً من رجال الأعمال والشّركات الخاصة الخليجية بدأت تتجه إلى السودان لإقامة مشروعات فيه.
اقرأ أيضاً: السودان.. تحوّلات في المشهد السعودي؟
هذه الوضعية يمكن أن تنقل علاقات السّودان بالدّول الخليجية إلى مرتبة الشّراكة بعد أن ظلّ ولوقتٍ طويل مصدراً للعمالة ومتلقٍ للمعونات والقروض، الأمر الذي يعطيه بعداً استراتيجياً، اقتصادياً وأمنياً، ويجعل من الأهمية بمكان تحقيق استقرار سياسي فيه. لكن تبقى المفارقة أن علاقات السودان المتنامية مع الدول الخليجية أصبحت مرتبطة إلى حد كبير بشخص البشير بسبب قراره المشاركة في الحرب على اليمن.