لا يمكن اعتبار حركة النزوح الهائلة الجارية اليوم (أكثر من 68.5 مليون إنسان على الطرقات في العالم) وكأنها نتاج "أزمات" تنحصر بوجود حروب بينيّة أو أهليّة، أو باضطهاد عرقيّ أو دينيّ، أو حتى وكأنها نتاج لجاذبية أوروبا/الحلم أو الفردوس، كما يقال أحياناً تفسيراً لحركة المهاجرين إليها. هذا قائم ولكنه لا يكفي لوحده لتوضيح الصورة.
تعبير "الأزمة" يوحي بعرضية الظاهرة، أي بكونها طارئة أو مؤقتة، وهو ما لا يطابق الواقع. هناك جانب آخر - بنيوي - في النظام العالمي القائم: تدمير شروط الحياة في بلدان هؤلاء النازحين: من مصادرة الأراضي الزراعية التي يعيش فوقها ويعمل فيها المزارعون والفلاحون المحليّون، وذلك لمصلحة الزراعات الصناعية التصديرية التي تقوم بها شركات متعدّدة الجنسيات، إلى الاختلال المناخي والتلوّث وما يتسببان به من كوارث، إلى نهب الثروات الجوفيّة لتلك البلدان بلا ضوابط، وإلى التكدس في عشوائيات عملاقة على أبواب المدن الكبرى، كجحيم يسود فيه البؤس واليأس التامّان.
.. ثم لا يمكن تقبّل الزاوية التي طغت على الأبحاث بخصوص الهجرات، والتي تتمحور حول أوروبا بالنسبة للمهاجرين من إفريقيا والبلاد العربية (أو الولايات المتحدة بالنسبة للقارة الأميركية) باعتبارها المعطى الأهم. فنحن نعتقد أن مصائر هؤلاء المقتَلعين والخيار المرير الذي لجأوا اليه هو قلب الموضوع، ولا نرى في "التهديد" الذي يمثلونه لأوروبا سوى تكريساً للنظرة المتعالية والجشعة المستندة إلى المنطق الاستعماري القديم، وإلى نسخته الجديدة التي تستبيح العالم خدمة لأرباح المتنفذين فيها، ولا تلتفت إلاّ إلى ما يتسبب لها بأدنى إزعاج... فتستهوله وتحوّر الموضوع انشغالاً بنفسها!
هذه قصص الأفارقة من دول جنوب الصحراء وشرقها الذي يصلون إلى شمال القارة: مصر وليبيا والجزائر وتونس والمغرب، في محاولة للعبور إلى أوروبا. وقلّة منهم تتمكن من ذلك، أما الأغلبية فتغرق في البحر أو تَعلق حيث هي، في شروط وظروف غالباً ما تكون بشعة.