بعد ثمانية أعوام من أخر مرة قامت فيها منظمة الأقطار المصدِّرة للنفط (أوبك) بخفض إنتاجها، وعامين من تضعضع الأسعار، وشهرين من الاجتماعات والمفاوضات المكثفة.. تمكنت المنظمة في آخر الشهر الماضي من إبرام اتفاق فاجأ الأسواق.
تعود بذرة الاتفاق الأخير الذي توصلت إليه أوبك إلى وزير النفط الجزائري الذي لم يكن مرَّ على تسلمه منصبه ثلاثة أشهر حين بدأ التحرك مستفيداً من تجمع لمنتجي النفط داخل وخارج المنظمة في بلاده للتوصل إلى تفاهمات مبدئية بين كبار اللاعبين في السوق، وتحديداً السعودية وإيران وروسيا. استفاد الوزير من خلفيته المهنية في الصناعة بسبب عمله في شركة سوناطراك، التي بدأت تخرج من حالة عنق الزجاجة التي كانت تعيشها مع بدأ النمو في إنتاجها من النفط والغاز، وكذلك استفاد من وضعية بلاده وعلاقاتها الجيدة مع مختلف الفرقاء وتوسّطها في العديد من القضايا المعقّدة. وهو نجح في إقناع المنتجين بالتوصل إلى اتفاق إطاري خلال وجودهم في الجزائر (أيلول / سبتمبر) يقضي بخفض إنتاج أوبك إلى 32.5 مليون برميل يومياً، على أن يتم البحث في التفاصيل خلال الاجتماع العادي للمنظمة أواخر الشهر المنصرم. ويبدو أنّ فترة الشهرين هذه اعتمدت قصداً لمعرفة اتجاهات السوق من ناحية، ولزيادة التفاهم بين كبار المصدرين من الناحية الأخرى.
وهو ما حدث فعلاً. إذ أن فترة الشهرين شهدت لقاءات عديدة بين منتجي ومصدري النفط في عواصم مختلفة، الأمر الذي خلق دينامية باتجاه بلورة الاتفاق، خاصة وأنّ هذه اللقاءات أسهمت في تعزيز التفاهم بين بعض الوزراء، خاصة السعودي والروسي، وهو ما يعتبر امتداداً لتفاهمات تمت بين رئيسي البلدين، وتستند إلى أرضية تقوم على تحسين أسعار النفط التي تعتمد عليها الموازنة العامة في بلديهما. ونتيجة لهذه التفاهمات، انتقلت موسكو من مربع تجميد انتاجها إلى خفضه، بل والى تحمّل نصف مقدار الخفض المطلوب من المنتجين من خارج أوبك، ويبلغ 300 ألف برميل يومياً.
استثناء إيران
الرياض من جانبها تحملت العبء الأكبر في برنامج الخفض الذي اعتمدته أوبك ويصل إلى 1.2 مليون برميل يومياً، إذ ستقوم بخفض إنتاجها بحوالي 486 ألف برميل يومياً ليكون إنتاجها 10.05 مليوناً. الصيغة التي اعتمدتها أوبك لخفض الإنتاج هي بأن يكون بحدود 4.5 في المئة من إنتاج كل دولة. وعلى الرغم من الخلاف حول أي الأرقام يتم اعتمادها، وهل هي تلك التي تقدمها الدول نفسها أم من المصادر الأخرى، إلا أن القائمة النهائية شملت إلى جانب السعودية العراق الذي وعد بخفض 210 ألاف والإمارات 139 ألفاً والكويت 131 ألفاً وقطر 30 ألف برميل.
على أنّ أهم نقطة في الاتفاق هي أنّه استثنى إيران لتعويضها عن سنوات الحظر، ونيجيريا بسبب الاضطرابات الأمنية فيها، وليبيا أيضاً للسبب ذاته الذي هبط بإنتاج هذين البلدين. الرياض كانت تصر دائماً على أن يشمل اتفاق الخفض الجميع، وخاصة إيران، لكن فيما يبدو أنه بسبب التفاهمات مع موسكو، وكون إنتاج إيران قارب المعدلات التي كان عليها قبل الحظر الغربي وهو 3.97 مليون برميل، الأمر الذي يعطي طهران فرصة لزيادة انتاجها بحوالي 90 ألف برميل فقط، وهي تعتبر كمية ضئيلة لا ينبغي أن تقف في طريق الاتفاق، خاصة أن عدم الاتفاق سيعني تدهوراً أكبر للأسعار لن يستفيد منه أحد، وتتبدد بالتالي مجهودات الشهرين في الإعداد لهذا الاتفاق مع عدم وضوح إمكانية الوصول إلى اتفاق ثان قريباً.
وفي واقع الأمر، فإن هناك عاملين إضافيين شجّعا الرياض على المضي قدماً في الاتفاق: أولهما أنها اتبعت سياسة الزيادة المستمرة في انتاجها خلال فصل الصيف حتى قارب 10.6 مليون برميل يومياً، وعليه فحجم الخفض الذي ستتحمله سيعود بإنتاجها إلى معدلاته العادية المعروفة خلال فصل الشتاء. وثانيهما أنّ السعودية تخطط لطرح جزء من أسهم شركة أرامكو إلى المستثمرين في العام 2018، وكلما كان مستوى أسعار النفط جيداً كلما حقق ذلك نتائج أفضل. هذا طبعاً بالإضافة إلى الهم المالي العام لكل أعضاء أوبك، الذين تراجعت مداخليهم إلى 341 مليار دولار هذا العام، أي نحو نصف ما كانت عليه في العام 2014 عندما بدأ تقهقر سعر البرميل، وحققت أوبك دخلاً بلغ 753 ملياراً، علما أن معظم الدول تضع تقديرات ميزانياتها للعام المقبل في مثل هذا الوقت.
مفاجأة الاتفاق
كانت الشكوك قد تزايدت حول قدرة أوبك على تجاوز خلافاتها الداخلية حول من سيقوم بالخفض وكميته، وتحديداً بعد أن رفضت السعودية حضور اجتماع مع المنتجين خارج أوبك، وذلك على أساس أن الأولوية ينبغي أن تكون لإنجاز اتفاق داخلي للمنظمة بداية، يتم تسويقه بعد ذلك للمنتجِين خارجها. ولهذا احتفت أسواق النفط بالاتفاق، وشهد اليوم التالي له ارتفاعاً هو الأعلى في غضون 16 شهراً بعد تجاوز سعر البرميل من خام برنت 50 دولاراً.
يُفترض أن يستمر الاتفاق لفترة ستة أشهر، وإذا تمّ تطبيقه، فإن عدم وصول 1.2 مليون برميل إلى الأسواق، إضافة إلى قيام الدول المستهلِكة بالسحب من مخزوناتها خلال فصل الشتاء، سيُسهم في تجفيف حالة التخمة التي تعاني منها السوق ويدفعها إلى التوازن في النصف الثاني من العام المقبل، وهو ما سينعكس على الاسعار، التي تقدر شركة الاستشارات "غولدمان ساكس" أنها يمكن أن تواصل ارتفاعها حتى منتصف 2017 لتستقر بعد ذلك، بينما "جى.بي.مورغان" ترى أن تصاعد الأسعار سيكون تدريجياً وخلال كل فصل. والتوقع العام أنها ستتراوح بين 50 - 55 دولاراً للبرميل. سيسهم هذا المعدل، كما يُعتقَد، في إنعاش صناعة النفط الأميركية التي خسرت قرابة المليون برميل يومياً من الإنتاج المحلي الأميركي خلال فترة العامين الماضيين وتراجع الأسعار. والشهر الماضي وحده شهد زيادة 90 ألف برميل يومياً في الإنتاج الأميركي، وهو مؤشر على ما ينتظر السوق والاتفاق مع تحسّن الأسعار.
وعلى الرغم من ردة الفعل الايجابية بخصوص الاتفاق الذي يفترض بدء العمل به من الأول من كانون الثاني/ يناير، إلا أن بعض المراقبين يتساءلون عن المدى الزمني لصموده واستمرار التحسن في الأسعار، خاصة وهناك العديد من علامات الاستفهام حول الاتفاق ومدى الالتزام به. فالاتفاق يضع السقف الإنتاجي للمنظمة في حدود 32.5 مليون يومياً، ومع وجود ليبيا ونيجيريا في إطار هذا السقف، رغم استثناءهما من برنامج الخفض، فإن السؤال يصبح: ماذا سيحدث مع قيام هذين البلدين بزيادة إنتاجهما؟
يتضمّن الاتفاق أيضا قيام المنتجين خارج أوبك بخفض 600 ألف برميل يومياً. وحتى الآن، أعلنت روسيا فقط أنها ستخفض نصف هذه الكمية، وليس واضحاً بعد من سيقوم بتحمل بقية الـ300 ألف برميل الأخرى. ومع أن كازخستان وعُمان حضرتا الاجتماعات، إلا إنهما لم تعلنا التزاماً محدداً. هذا طبعا إلى جانب المشكلة المزمنة المتمثلة في مدى التزام الدول الأعضاء نفسها ببرنامج الخفض المتفق عليه.
على أنّ التطور اللافت للأنظار في الاجتماع الأخير أن السعودية قبلت ترؤس اجتماعات المنظمة خلال الدورة المقبلة رغم انها كانت دائماً تتجنب هذه المواقع. وبحسب قرار الاجتماع، فأن وزير الطاقة سيترأس المنظمة طوال العام المقبل، وهو عام تنفيذ الاتفاق وسد الثغرات أمام عدم الالتزام، سواء من الدول الاعضاء في أوبك أو خارجها. ويبدو ان هذه الخطوة تتسق مع الروحية التي أبدتها الرياض مؤخراً في تعاملاتها السياسية والاقتصادية إقليمياً ودولياً في مختلف الملفات، كما أنها تسعى إلى الاستفادة من التفاهمات التي جرت خلال الأسابيع الماضية والبناء عليها لإحداث استقرار في السوق النفطية يفيد المنتجين والمستهلِكين على حدّ سواء.. بدون أن تتحمل العبء لوحدها.