بخفوت، تظهر الأمثال ذات الصبغة الطائفية في السرديات المتبادلة بين الطوائف. يسعى الجميع إلى تخبئتها وراء حيطان الطائفة كي لا يراها الآخر الذي يمارس لعبة الإخفاء نفسها هذه، حيث يصدر المثل عما تؤمن الجماعة به على أنه "حقائق" تجسّد رؤيتها لنفسها وللآخر وللعالم أيضاً داخل أطرها الاجتماعية، وضمن شبكاتها التأويلية، مرويةً بلغة سردية مختصرة جداً ونافذة وحرّيفة. وقد تكون تلك الحقائق في ميزان النقد (والتاريخ أوّله) خادعة ومغلوطة، ولكن غايتها الأولى "تأبيد" القائم ونقل صورة الجماعة إلى نبل النموذج.. دون أن تكون كذلك بمطلق الأحوال.
فهم المثل دلالياً في حقله المنتج يقتضي معرفة ظروف إنتاجه في حال توافرها، وما هو مأمولٌ منه (العبرة)، وما هو الحقيقي فيه أو المزيّف، وما هو المسطور ضمنه (الرسالة)، دون نسيان أن حوامل المثل المنتجة في حدوثها الأول قد لا تتطابق مع حوامله الراهنة وبالتالي سرديته، خاصةً أن المخيال الجمعي يتجاهل هذه الظروف ويمدّها فوق الزمان والمكان. ولذلك مثلٌ منتشر عربياً هو "عدو جدّك ما بيودّك" وبعضهم يكمله "ولو عبّدتو ربك" (في الساحل والجنوب السوري وفلسطين). لا يعرف بالدقة تاريخ ظهوره الأول، إلا أنه استخدم في الأزمة السورية الراهنة دلالةً على العداء التاريخي (الأبدي) بين السنة والشيعة والسنة والعلويين، كما بين العرب والأكراد وغيرهم.
تتميز تركيبة الأمثال الطائفية بالتركيز اللفظي على مفردة محددة قطبية، تعطي منطوق المثل فضاءه المجسّد للانتماء إلى الجماعة متضاداً مع الجماعة المقابلة (المَرْوي عنها). وعادة ما تكون المفردة هياسم الطائفة أو الجماعة منظوراً إليه بدونية وشك وريبة. كما أن تعزيز الصورة الإيجابية عن الآخر تكاد تكون معدومة في هذه الأمثال كما غيرها. فالمثل، وهذه سمته الأبرز، خطابٌ بعيد عن الحياد.
من وظائف هذه الأمثال أنها تلعبُ دوراً إيجابياً في صناعة "موجات مدّ الذاكرة" (بتعبير المؤرخ الفرنسي بيار نورا)، بما يؤكد للجماعة صحة تمثلات ذاكرتها تجاه الرموز المكونة لصورة الآخر في لاوعيها الجمعي. يقول مثلٌ له صيغ مروية عدة منها: "كول (كُل) عند يهودي ونام عند مسيحي" أو "تغدّى عند درزي ونام عند مسيحي" (مثل منتشر في المشرق العربي). في الحالين يمثل المسيحي شخصاً مسالماً آمناً لكن غير نظيف، في حين يمثل اليهودي أو الدرزي شخصاً نظيفاً (ويمكن أن يكون كريماً) لكن لا يؤتَمن. هذه التمثّلات القطبية في اللفظ والسرد تعزز صورة نمطية (قد تكون غير دقيقة كما في المثلين السابقين) ولكنها سائرة ويعتدّ بها لدى الجماعة في مقاربتها العلاقة مع الجماعة الأخرى، وبالتأكيد، على مستويات مختلفة.
من أبرز الأمثال المشهورة والمتداولة ضمن حدود الطوائف (ولو أنها وهمية) وخارجها، في تداول العلاقة مع الآخر المثل الذي يقول: "يلي بياخد من غير ملّتو، بيموت بعلّتو"، وبصيغة أخرى: "بيوقع بعلّة غير علّتو"، وهو يحضّ صراحة على أن الخارج عن الجماعة أياً يكن السبب (وهو هنا سبب جلل يتعلق بالنسب والحسب)، وبالتالي نقاء الجماعة العنصري والعرقي (الوهمي مرة أخرى)، سيموت ميتةً غير طبيعية، مرذولة.. مع أن الواقع يؤكد أن التشارك في العادات والتقاليد والآمال والآلام أكثر من المختلف فيها.
مِثل هذا المثُل كثير، كقولهم: "الخروف يلي بيطلع من القطيع بياكلو الديب"، و "زيوان البلد ولا حنطة جلب" وجميعها تؤكّد على ضرورة البقاء ضمن القطيع وتحذر من مغبّة الخروج عن صراط الجماعة المستقيم. ولعل هذا الانغلاق في لاوعي الجماعة ــ الجماعات ــ يفسر ضعف معدّلات الزواج المختلط طائفياً بينها، كما يفسر من ناحية أخرى مواقف بعض المثقفين السوريين في الأزمة الراهنة الذين استخدموا هذه الأمثال في تبرير دفاعهم المستميت عن أفعال طوائفهم المشينة، دون التفكير بمرجعيات إنتاج هذه الأمثال، وباعتبارها مرجعيّات مطلقة الصحة، ولا تصدر عن هوى الجماعة بل عن إرث متحقَق من صوابيته، يقول المثل: "إن حزت المحزوزية، كل عنزة بتلحق قطيعها".
يمكن تقسيم هذه الأمثال بغاية معرفية بحتة إلى مستويات طائفية بين الأديان الثلاثة الرئيسة، ثم مذهبية بين الجماعات (الطوائف) المنضوية تحت لواء كل دين. ويتيح التدقيق بتوزّعها على حقول دلالية متعددة، منها ما هو مرتبط بالطقوس الزراعية التي اقتبسها الوافدون من المقيمين (وهم المسيحيون هنا)، كما "بيفضل البرد قايم طالما المسيحي صايم"، ومنها، وهو الأكثر تداولاً، يركز على العلاقة مع الآخر في مواقف حاسمة تساهم في تأطير الصورة الكلّية لهذه العلاقة، نظراً لما تحتويه من عناصر سلبية في الغالب (عنصرية وتحذيرية وتعجيزية).
تكثر العنصرية تجاه اليهود أكثر من غيرهم، ففي غالبية الأمثال، تظهر صورة اليهودي كشخص مداهن ومحبّ للمال وبخيل "اليهودي إذا أفلس، بالدفاتر القديمة فتش"، وأناني "إذا احتاجوا لليهودي، قال اليوم عيدي". وقد أعادت الحرب السورية ـ التي عمل الجميع على تحويلها صراعاً طائفياً ـ أمثال المقارنات بين اليهود في أفعالهم والطوائف الأخرى في أفعالها إلى الواجهة، مرجحة العدو التاريخي في إنسانيته المزعومة على شركاء الدين والجغرافيا، من منطلَق أن ما صحَّ تأويله في الماضي يصحّ اليوم (كما كلّ يوم).
يقول مثلٌ (غير معروف المصدر): "العلوية ـ أو الشيعة ـ ألأم من اليهودية"، وآخر "قرف وبيتقرف، ورافضي وبيتشرف"، وهذا المثل قليل الانتشار. ويقال أيضاً للشخص العنيد "راسو حيط متل الرافضي" أو "عامل حالو أبو علي"، والكلمة القطبية هنا (الرافضي) تحيل إلى أزمنة سابقة فيها، حكم قيمة على المختلف طائفياً على أنه من درجة أدنى فهو ليس "مسلماً رافضياً" بل هو فقط "رافضي"، أما "أبو علي" فهي دلالة عمومية على الشيعة.
في الوقت نفسه، تحتفظ ذاكرة الشيعة وأقلياتها بأمثال مشابِهة عادت فدرجت في السياق الراهن، ومثالها الأبرز كما سبق "عدو جدك ما بيودّك" و "الموت ولا شفاعة عمر" و "عند العقرب لا تقرب" و "يهود خيبر ولا أهل جوبر". ومنها مثلٌ قليل الانتشار يقول: "عضم السني أزرق"، وكلها مورس عليها انزياح دلالي بحيث أصبحت المفردات القطبية (الشفاعة، العقرب، أهل جوبر) تعني السنة، وكالعادة فإن التعميم آفة كل مثل.
علاقة المسيحيين والمسلمين في هذه الأمثال تحمل رسائل ضرورة الحذر من الآخر، والتقليل من قيمته الإنسانية والحضارية، رغم أن هناك كثير من العادات والأمثال نقلها المسلمون عن المسيحيين الأقدم تاريخياً في المنطقة بعد تحريف مناسب لها. من الملاحظ هنا أن المثل الذي يحوي كلمة "مسيحي" هو صناعة إسلامية في حين يستخدم المسيحيون كلمة "النصارى" في أمثالهم، فالمثل القائل: "أسلمت سارة، فلا زاد الإسلام، ولا نقصت النصارى" (متواتر في المشرق العربي كله)، من الواضح أنه رد فعل يقلل من مفاعيل أسلمة النصارى في مجتمعات المشرق العربي، مع العلم أنّ هذا المثل قد تعرّض لانزياح دلالي فبات يُستخدم للدلالة على قلّة شأن فعل ما يقوم به فرد واحد قياساً بالجماعة، بغض النظر عن منشأه الديني.
ختامها...
بالتأكيد لا يمكن اعتبار المثل ـ الطائفي أو غيره ـ حقل التأويل الأوحد في مسألة علاقات الجماعات مع بعضها بعضاً، فهناك كثير من العوامل المتداخلة، لكنها تبقى حقلاً دلالياً غنياً يمكن أن يثري البحث المرتبط بالفكر الطائفي في عديد تمظهراته، مع ملاحظة أنه من الخطأ إعطاء الأمثال، بما هي مخزون جمعي، حجماً أكثر مما هي عليه لجهة تأثيرها على السياق الحركي للمجتمع الذي تحكمه علاقات أقوى.