عشرون عاما بعد الغزو: الدروس المستخلَصة من المأساة العراقية

منع نظام صدام حسين لأي صوت معارض حَرَم المجتمع العراقي من النقاش حول الخيارات الاستراتيجية الأساسية للبلاد. لقد شكّل الاستبداد السبب الأول في اضعاف المجتمعات التي صارت عاجزة عن الدفاع عن نفسها. وفي المنطقة المغاربية، وبالأخص في الجزائر، أُغلق الجدل حول موضوع فرض "الديمقراطية" بقوة الجيوش الاجنبية مع تدمير ليبيا في 2011، والذي تقع أيضاً مسؤوليته على عاتق القيادات السياسية للبلاد.
2023-09-07

عمر بن درة

خبير اقتصادي من الجزائر


شارك
| fr en
سيروان باران - العراق

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

الصورة لا يمكن محوها من الذاكرة. في تلك الليلة الربيعية، هزت انفجارات هائلة مدينة نائمة. كانت الطائرات الحربية الأمريكية تنفذ المرحلة الأولى من غزو العراق عبر قصف لم يسبق لعنفه مثيل للعاصمة الأكثر شهرة ورمزية في الحضارة العربية-الإسلامية. هذا الاستعراض الناري الحارق الذي نقلته بشكل حيCNN الأمريكية وقناة "الجزيرة" القطرية ذات نسب المشاهدة العالية في الجزائر، ذكّرنا مباشرة بالمجزرة المريعة التي استهدفت ملجأ العامرية سنة 1991 خلال حرب الخليج الأولى. حسب العقل المريض لأشباه المخططين الاستراتيجيين من المحافظين الجدد الأمريكيين، كان ينبغي لهذا السيل الجهنمي من العنف ان يثير "الصدمة والذهول" لدى السكان المسحوقين تحت القنابل، ويفترض به كذلك ان يسرّع خضوعهم عبر القبول غير المشروط بالتفوق الامبريالي. في اللحظة ذاتها نُسِف النظام القانوني الدولي الذي أرسيت قواعده عقب الحرب العالمية الثانية.

من العراق إلى الجزائر: بعد جغرافي وقرب تاريخي

لم يباغَت الجزائريون باعتداء أعلنت عنه الولايات المتحدة وحلفاؤها بشكل متكرر وصاخب. كانت الرسالة السياسية التي يحملها هذا الهجوم الموغل في الوحشية واضحة لا لبس فيها. القصف المكثف والعشوائي للسكان وتدمير البنى التحتية المدنية في إطار السعي المعلن لإسقاط النظام البعثي، كان إنذاراً بالغ الوضوح إلى كل واحد في كوكب الأرض تسوِّل له نفسه الاعتراض على الهيمنة الامريكية، وفي المقام الأول دول "جبهة الرفض" ومن خلالها الشعوب العربية-الإسلامية المتضامنة مع الشعب الفلسطيني.

ما تزال الصدمة حاضرة في الجزائر، حتى بعد مضي 20 عاماً. لم ينس أي واحد ممن شهدوا هذا الحدث المأساوي الافتتاح المرعب والمستند على كذبة مفضوحة، لفصل جديد في المأساة العراقية التي لا تنتهي.

يبقى خط الدفاع الأول أمام أي خطر خارجي - وهذا ما تبرهن عليه التجربة العراقية المأساوية منذ أكثر من 20 عاماً - وحدة الشعب وقادة البلاد. من الضروري إذاً، في العراق كما في الجزائر وفي كل أرجاء العالم العربي المأزوم بشكل دائم، التوصل إلى إعادة تأسيس نظام سياسي يحظى بقبول الأغلبية، وذلك عبر انفتاح الأنظمة على الحريات الأساسية ودولة القانون.

حملة الدعاية الغربية المكثفة والقائمة على التلاعب والتضليل لم تخدع إلا الذين أرادوا أن ينخدعوا، فالعراق الذي لم يتورط بأي شكل من الأشكال في عمليات 11 أيلول/سبتمبر 2001 لم يكن يمتلك أسلحة دمار شامل. مثل بقية الرأي العام العربي، تابع الجزائريون بانتباه شديد تتالي التطورات الدموية والمجازر وتدمير بلد كان مهداً للحضارات. هذا البلد وإنْ كان جغرافياً بعيداً فإنه قريب من قلوب الجزائريين: لم ينس أي أحد في الجزائر الدعم متعدد الأشكال وغير المشروط الذي قدمه الشعب العراقي لحركة التحرر الوطني الجزائري، واستقبال الكليات والاكاديميات العسكرية العراقية لطلبة جزائريين في أوج الحرب المناهضة للاستعمار. وكثيرٌ من العراقيين توافدوا على الجزائر في السنوات الأولى التي تلت الاستقلال للعمل كمبتعثين متعاونين في قطاعات مختلفة من الحياة الاقتصادية والاجتماعية الجزائرية.

حتى ان بعضهم استقر في الجزائر مع الحفاظ على روابط مع بلدهم الأم. ومما سهل الأمر ان الشعبين اللذين يعيشان الطرفين المتقابلين للقوس العربي-الإسلامي يتشاركان عدة سمات اجتماعية وثقافية. وفي الواقع، فوراء خشونة ظاهرية في الطباع، يصعب على الجزائريين كما على العراقيين أن يخفوا كرماً حقيقياً.

الجزائريون ومسار النكبة العراقية

على المستوى السياسي، وإنْ كان التضامن غير المشروط مع الشعب العراقي جليّاً والتعاطف ملموساً، فإن الرأي العام الجزائري منتقد لنظام صدام حسين. هناك احساس تتشاركه قطاعات واسعة من الجزائريين بأن الديكتاتورية البعثية الوحشية والعمياء تتحمل مسؤولية ثقيلة في المأساة التي يعانيها شعب بلاد ما بين النهرين. هذه الإدارة السياسية هي التي سمحت، بسبب قصر نظرها السياسي واحتقارها للشعب، بإضعاف البلاد إلى حد أباح تدميرها. هذا الشعور الشعبي المختلَط تتشاركه أيضاً السلطات الجزائرية التي لم تنس كيف وضع صدام حسين بنفسه بلده في مسار كارثي إثر تمزيقه "اتفاقية الجزائر" الموقعة في اذار/مارس1975 (1). حظيت الاتفاقيات التاريخية التي توصل اليها شاه إيران رضا بهلوي وصدام حسين - الذي كان حينها نائب الرئيس لكنه الرجل الأقوى في النظام - برعاية الرئيس بومدين (2)، باعتراف النظام الذي اعتلى سدة الحكم في طهران بعد ثورة 1979. ولقي التحول المفاجئ في موقف النظام العراقي، والذي تمّ تبريره بالتهديد الذي يمثله النظام الإسلامي الجديد، وتغير اتجاه تحالفاته لصالح الملكيات الخليجية بعد ان كان أحد محركات المعارضة العربية للتخلي عن القضية الفلسطينية، تشجيعاً خبيثاً من الغربيين الذين كانوا أكثر من راضين بضربهم عصفورين بحجر واحد.

حسب العقل المريض لأشباه المخططين الاستراتيجيين من المحافظين الجدد الأمريكيين، كان ينبغي لهذا السيل الجهنمي من العنف ان يثير "الصدمة والذهول" لدى السكان المسحوقين تحت القنابل، ويفترض به كذلك ان يسرّع خضوعهم عبر القبول غير المشروط بالتفوق الامبريالي. في اللحظة ذاتها نُسِف النظام القانوني الدولي الذي أرسيت قواعده عقب الحرب العالمية الثانية.

المأساة العراقية هي أيضا مأساة كل الامتداد العربي-الإسلامي، من الخليج إلى المحيط الأطلسي. بعد عقدين من تدمير دولته، ما يزال غياب العراق عن محفل الأمم محسوساً بقوة في مجتمعات العالم العربي. سيسترد هذا البلد ذو الثقافة الهائلة والحكمة الموغلة في القدم استقلاله وينهض من جديد.

مثلت المراحل التاريخية التالية ابتداء من الافلاس الاقتصادي، ومروراً بضم الكويت للعراق في 1990 وانكسار الجيش العراقي في مواجهة تحالف تقوده الولايات المتحدة في 1991، ووصولاً إلى الذروة مع التدخل العسكري الأمريكي في 2003، التسلسل المنطقي والتدميري للأحداث المتأتية من الخطأ الاستراتيجي الرهيب المتمثل في شن الحرب على إيران في أيلول/سبتمبر 1980.

في كل واحدة من هذه المراحل، بذلت الديبلوماسية الجزائرية كل ما في وسعها لتهدئة الاندفاع الغربي نحو الحرب وحث القادة العراقيين على التعقل عبر تنبيههم إلى المخاطر الكبرى المحتملة. في هذا السياق اصطدمت الجهود المتواصلة التي بذلها الرئيس الشاذلي بن جديد في ربيع 1990 لإيجاد تسوية سياسية لمغامرة صدام حسين في الكويت برفض قاطع من قبل العراقيين. قبل ذلك، وفي أوج الحرب العراقية -الإيرانية انتهت المساعي الحثيثة التي قام بها وزير الشؤون الخارجية محمد الصديق بن يحي لدفع طرفي الصراع إلى طاولة المفاوضات بمقتله في أيار/مايو 1982.

في 2003 لم يكن صوت الجزائر مسموعاً كما كان في السابق، ولم يعد وازناً في الساحة الدولية نظراً لغرق البلاد منذ تسعينيات القرن الفائت في "حرب قذرة" ضد المدنيين أضعفتها بشدة ولطخت بشكل بالغ سمعة نظام لا يعرف حلاً غير القمع. لكن كل هذا لم يمنع الجزائريين المصدومين من العدوان الأمريكي-البريطاني من اجبار قادة البلاد على الترخيص لمظاهرات التضامن خارج العاصمة الجزائرية. ندد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة (3) بغزو العراق، مستعملاً مصطلحات يمكن ان توصف بالمحسوبة. لكن استقبال الابطال الذي حظي به الرئيس الفرنسي "جاك شيراك" خلال زيارته للجزائر في اذار/مارس 2003 بعد الرفض الفرنسي للمشاركة في الغزو - الذي عبر عنه ببلاغة الوزير "دومينيك دو فيلبان" في 14 اذار/مارس- عبّر عن الشعور الشعبي بشكل واضح لا لبس فيه.

سياسة البوارج: فرق تسد

بلا شك، افتتح التدخل الامبريالي في العراق سنة 2003 من غير تفويض أممي عصراً جديداً في العلاقات الدولية. استرجعت "ديبلوماسية البوارج"(4)  - وهي إحدى أدوات التوسع الاستعماري الغربي التي اعتقد كثيرون ان زمنها قد ولّى منذ موجة استقلال المستعمرات الأوروبية والهزائم الامريكية في جنوب شرق آسيا خلال ستينيات وسبعينيات القرن الفائت - كامل وظيفتها وفاعليتها كأداة نفوذ. منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في 1990، لم تعد الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة تتردد في اللجوء إلى الحرب عندما تقدّر ان الظروف الاستراتيجية مواتية. ثبتت هذه النزعة الحربية المتجددة في يوغسلافيا السابقة سنة 1999 قبل غزو العراق حتى، وفي أفغانستان سنة 2001، وتأكدت أكثر في ليبيا سنة 2011.

أصبح التقدم المحرَز في القانون الدولي الوضعي القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية محل تشكيك عبر صياغة مسوغات أيديولوجية من نوع "حق التدخل الإنساني" و"واجب المساعدة" المزعوم وغيرهما من عتاد الحرب الإعلامية والسيكولوجية. سعت هذه العناصر الاتصالية، المقدّمة في شكل "بسيكودرامي"، وبكيفية غير مسبوقة، إلى تكييف الرأي العام الغربي. تسهم التبريرات ذات الطابع الدعائي التي تناقلتها بشكل مكثف أجهزة إعلامية معولمة، في كتم الأصوات الناقدة التي تحتج على تراجع القانون لصالح منطق قائم على موازين القوى ومجرد من أي بعد أخلاقي. حافظت الإدارات المتعاقبة خلال فترة رئاسة "ترامب" على هذا الخط مع بعض الفروقات البسيطة. أما الإدارة التي قادها جو بايدن، فهي من زاوية النظر هذه منخرطة بشدة في المنظور الاستراتيجي الذي أرساه جورج بوش الابن. اشتهر جو بايدن، المتحمس بشدة للحرب ورئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ في 2003، براديكالية خطابه ما بين الشطحات "المسيانية" (الخَلاصية) والحجج الزائفة وصولاً للدعوة إلى تقسيم العراق.

بالنسبة للجزائر فإن الاستنتاجات السياسية والأمنية من الحرب على العراق في 2003 كانت بسيطة: إذا أردت السلم فيجب أن تجهِّز نفسك للحرب. وهكذا استمرت جهود تحديث الجيش الجزائري التي بدأت بعد الغزو. ولكن لا يبدو انه تمّ استخلاص كل الدروس من هذه الحرب. فلم تقترن جهود تطبيق سياسة دفاعية رادعة بانفتاح سياسي. لم يتراجع النظام قيد أنملة فيما يتعلق بالقمع السياسي.

كان المسرح العراقي ولا يزال حقلاً لتطبيق الأساليب الاستعمارية الجديدة في تقسيم المجتمعات على أسس اثنية وطائفية، وتوظيف التصدعات الاجتماعية-السياسية بهدف اضعاف الحركات المقاوِمة للهيمنة وضرب جذورها. عند مستوى التدمير الكلي لهياكل الدولة، نجد أحد أهم الدروس المستخلصة من تجربة عشرين عاماً من الاحتلال الأمريكي للعراق. تتمحور طريقة العمل الامبريالية، التي تنهل مباشرة من "تعاليم" الانثروبولوجيا الاستعمارية، حول تأجيج الصراعات القائمة في المجتمعات المستهدَفة بهدف تجزئة الدول التي تقاوم الهيمنة. مورست هذه المناورة بشكل مكثف في العراق عبر ضرب المسلمين الشيعة بالمسلمين السنة والكرد بالعرب. واستخدمت نفس استراتيجيات التقسيم في أي مكان تتوافر فيه إمكانية تنفيذها كما لاحظنا ذلك في سوريا والسودان أو اليمن. في الجزائر، يسعى أعوان الاستعمار الجديد منذ السنوات الأخيرة من حرب التحرر الوطني إلى خلق صدع بين الجماعات الناطقة بالعربية وتلك الناطقة بالأمازيغية.

في 2023 وبعد كل هذه المناورات صار العراق بلداً يرزح تحت الوصاية الأجنبية، مقطّع الأوصال وخائر القوى. لم تعد الدولة المركزية التي سُلبت منها أغلب مقومات سيادتها تمثّل العمق الاستراتيجي للبلدان المتموقعة في الخط الأول في المواجهة مع إسرائيل. يرى كثيرون ان هذا الوضع هو الهدف الفعلي للحرب التي أطلقها الرئيس بوش والمحافظون الجدد الامريكيون.

المقاومة: عشرون عاماً بعد الغزو

أبعد من الحرب السيكولوجية وقبل كل شيء، يظهر غزو العراق كاختزال لكل الممارسات الاجرامية التي يقترفها جيش احتلال. لم يعد الخطاب الأمريكي حول الدفاع عن الحرية ومناهضة الأنظمة الفردية الاستبدادية و"الحرب على الإرهاب العالمي"- حسب تعبير جورج بوش- قادراً على إخفاء حجم الأعمال الاجرامية الخالصة التي تقع على طرف نقيض من أي دفاع عن الديمقراطية والسلام.

مليون قتيل ومئات آلاف الجرحى والحيوات المدمرة بالإضافة إلى انتهاكات حقوق الانسان التي لا تحصى ولا تعّد، والنهب العلني للإرث التاريخي العراقي... كلها تداعيات تتحمل القيادات العسكرية الأمريكية مسؤوليتها المباشرة. وضمن قائمة الجرائم الامريكية نجد أيضاً تدمير البنى التحتية المدنية والنيل من الرموز الدينية. الاخراج المهين لعملية شنق صدام حسين يوم 30 كانون الأول /ديسمبر 2006 الموافق لعيد الأضحى، والذي حظي بتغطية إعلامية واسعة وخبيثة، اثار استهجان حتى اولئك الذين لا يكنون أي تعاطف للديكتاتور المخلوع، ولكنهم اعتبروا ما حصل إهانة للإسلام.

العراق، وإنْ كان جغرافياً بعيداً فإنه قريب من قلوب الجزائريين: لم ينس أي أحد في الجزائر الدعم متعدد الأشكال وغير المشروط الذي قدمه الشعب العراقي لحركة التحرر الوطني الجزائري، واستقبال الكليات والاكاديميات العسكرية العراقية لطلبة جزائريين في أوج الحرب المناهضة للاستعمار.

وفي موكب جرائمه التي لا تسقط بالتقادم، قرع الاحتلال جرس نهاية وهم فرض الديمقراطية بقوة الجيوش الأجنبية. في المنطقة المغاربية، بالأخص في الجزائر، أغلق الجدل حول هذا الموضوع مع تدمير ليبيا في 2011. الشعور المهيمن بشدة يعتبر أن مسؤولية هذه النكبة تقع أيضاً على عاتق القيادات السياسية للبلاد. هناك اجماع شبه كامل على هذه المعاينة: منع نظام صدام حسين لأي صوت معارض حرم المجتمع العراقي من نقاشات لا غنى عنها حول الخيارات الاستراتيجية الأساسية للبلاد. عبر إصراره على احتكار امتلاك الحقيقة السياسية شكل الاستبداد السبب الأول في اضعاف المجتمعات التي صارت عاجزة عن الدفاع عن نفسها.

دروس حرب 2003

أبعد من هذه الملاحظة التي يفرضها الحس السليم، ما هو جلي لأغلب الناس يتمثل في ضرورة امتلاك وسائل دفاع رادعة بشكل كاف لأي نية عدوان خارجي. هذا الشرط الأساسي ظهرت أهميته مع ضعف الإمكانيات الدفاعية للعراق الذي ارهقته سنوات الحرب والحصار - وكذلك الحال بالنسبة لليبيا - مما سهل بشكل كبير التدخلات العسكرية الخارجية.

بالنسبة للجزائر فإن الاستنتاجات السياسية والأمنية من الحرب على العراق في 2003 كانت بسيطة: إذا أردت السلم فيجب أن تجهز نفسك للحرب. جهود تحديث الجيش الجزائري وتجهيزه بالعتاد التي بدأت بعد الغزو استمرت وتعززت مع تواصل تدهور الأوضاع الأمنية الإقليمية. ومع هذا فلا يبدو انه قد تم استخلاص كل الدروس من هذه الحرب. ضرورة تطبيق سياسة دفاعية رادعة - وهو أمر يحظى بإجماع شبه كامل - لم تقترن بانفتاح سياسي. لم يتراجع النظام قيد أنملة فيما يتعلق بالقمع السياسي. وبخصوص علاقاته بالخارج التي شهدت تقارباً جليّاً مع الغرب خلال فترة حكم عبد العزيز بوتفليقة (1999 – 2019) - المتسمة باستفحال الفساد - فإنها لم تجلب أي منفعة للبلاد على المستوى التنموي. في هذا السياق يمثّل التقارب مع الصين وروسيا الذي لوحظ في الأشهر الأخيرة إعادة توازن للعلاقات الدولية للبلاد، في انسجام أكبر مع تقاليد الجزائر في عدم الانحياز.

وسط سياق عام يتسم بالسعي الغربي إلى الحفاظ - حتى عبر اللجوء إلى الحرب - على هيمنة مهدَّدة، لا يمكن لبلد مثل الجزائر أن تكون أولويته الوصول إلى التكافؤ الاستراتيجي مع البلدان المصنِّعة. الهدف الأقرب للواقع هو ان تكون لك القدرة على الحاق خسائر جسيمة بأي معتدٍ، ضمن منطق الصراع غير المتكافئ.

لم تنس السلطات الجزائرية كيف وضع صدام حسين بنفسه بلده في مسار كارثي إثر تمزيقه "اتفاقية الجزائر" الموقعة في اذار/مارس 1975. ولقي التحول المفاجئ في موقف النظام العراقي - الذي بُرِّر بالتهديد الذي يمثله النظام الإسلامي الجديد - وتغير اتجاه تحالفاته لصالح الملكيات الخليجية تشجيعاً خبيثاً من الغربيين الذين كانوا أكثر من راضين بضربهم عصفورين بحجر واحد.

بذلت الديبلوماسية الجزائرية كل ما في وسعها لتهدئة الاندفاع الغربي نحو الحرب وحث القادة العراقيين على التعقل عبر تنبيههم إلى المخاطر الكبرى المحتملة. في هذا السياق اصطدمت الجهود المتواصلة التي بذلها الرئيس الشاذلي بن جديد في ربيع 1990 لإيجاد تسوية سياسية لمغامرة صدام حسين في الكويت برفض قاطع من قبل العراقيين. 

 تنامي المخاطر في المنطقة المغاربية - والتي لا تحظى بما تستحق من الاهتمام بسبب الانشغال بالحرب في أوروبا والتوترات في الشرق الأوسط ومضيق تايوان - أمر مقلق فعلاً. الزعزعة المستمرة منذ وقت طويل لاستقرار المنطقة بأسرها، والأزمات في ليبيا و"منطقة الساحل" التي تغذيها بشكل مكشوف تدخلات من خارج القارة، تمتد إلى الحدود الغربية للجزائر مع ظهور فاعل يكن عداء خاص للبلاد. في الواقع، تطوِّر إسرائيل في سياق تطبيع علاقاتها مع النظام الملكي المغربي تعاوناً عسكرياً موسعاً ومتعدد الاشكال يستهدف الجزائر بوضوح.

هذه الإشارات المقلقة أسهمت في تعزيز الوعي بالرهانات الأمنية التي ما انفكت أهميتها تتنامى منذ عدة سنوات. ويبدو أن سياسة موائمة القدرات الدفاعية التي انطلقت منذ سنة 2005 مع التوقيع على اتفاقيات عسكرية مع روسيا (5)  تتأكد أكثر فأكثر. وهذا يظهر أن القادة الجزائريين الحاليين تأملوا دروس حرب 2003، وكذلك تلك المستخلصة من عدوان "حلف شمال الأطلسي" على ليبيا في آذار/مارس 2011.

التعددية القطبية والسيادة

على مستوى السياسة الخارجية، يكمن الدرس الذي يمكن استخلاصه من النكبة العراقية في ضرورة تعزيز تحالفات دولية متينة وفعلية. التمسك بمبادئ سياسة عدم الانحياز شرط للحفاظ على حد أدنى من استقلالية القرار بالنسبة لبلد كالجزائر له وزن سياسي متوسط في الساحة الدولية. يتعلق الأمر أساساً بضرورة تفادي تكرار الخطأ السياسي الذي ارتكبه النظام البعثي. فرغبة منه في الظهور بمظهر الشريك الموثوق، وقع صدام حسين في فخ الوعود الغربية البراقة والزائفة، ومازال شعبه يدفع التكلفة الباهظة إلى اليوم.

بكل تأكيد لم تسهم أحادية القطبية الأمريكية، التي تفاقمت منذ نهاية تسعينيات القرن الفائت - والمرتكزة اليوم على التبعية الجماعية لبقية الدول الغربية - في تهدئة عالم متصدع. على العكس، أطلق انهيار الاتحاد السوفياتي وما تبع ذلك من فسح المجال أمام الهيمنة الأمريكية سلسلة من الهزات العنيفة والحروب التي لا تنتهي. التدخلات العسكرية الغربية في العراق ومناطق أخرى جلبت معها الموت والحداد والدمار غير المسبوق، وغذت كل أنواع التطرف. وحتى تضمن حمايتها وازدهارها وأمنها، ليس هناك من خيار أمام كل البلدان الساعية إلى الحفاظ على استقلالية قرارها إلا العمل على إرساء نظام عالمي اقل اختلالاً. 

لذلك لا يمكن التفكير في الدمقرطة الضرورية للعلاقات الدولية إلا عبر تشكيل سلطات مضادة، وهو أمر لا تضمنه إلا التعددية القطبية. مبادرات التكتل الإقليمي مثل "منظمة شنغهاي للتعاون" (6) أو الدولي على غرار تجمع "بريكس" (7) (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا)، كلّها علامات إيجابية في طريق التسوية السلمية للخلافات بين دول ذات سيادة.

الدرس المستخلص من النكبة العراقية يؤشر الى ضرورة تعزيز تحالفات دولية متينة وفعلية. التمسك بمبادئ سياسة عدم الانحياز شرط للحفاظ على حد أدنى من استقلالية القرار بالنسبة لبلد كالجزائر، وكذلك ضرورة تفادي تكرار الخطأ السياسي الذي ارتكبه النظام البعثي. فللظهور بمظهر الشريك الموثوق، وقع صدام حسين في فخ الوعود الغربية البراقة والزائفة، وما زال شعبه يدفع التكلفة الباهظة إلى اليوم.

لكن، يبقى خط الدفاع الأول أمام أي خطر خارجي - وهذا ما تبرهن عليه التجربة العراقية المأساوية منذ أكثر من 20 عاماً - وحدة الشعب وقادة البلاد. من الضروري إذاً، في العراق كما في الجزائر وفي كل أرجاء العالم العربي المأزوم بشكل دائم، التوصل إلى إعادة تأسيس نظام سياسي يحظى بقبول الأغلبية، وذلك عبر انفتاح الأنظمة على الحريات الأساسية ودولة القانون.

المأساة العراقية هي أيضا مأساة كل الامتداد العربي-الإسلامي، من الخليج إلى المحيط الأطلسي.

مقالات ذات صلة

 بعد عقدين من تدمير دولته، ما يزال غياب العراق عن محفل الأمم محسوساً بقوة في مجتمعات العالم العربي. سيسترد هذا البلد ذو الثقافة الهائلة والحكمة الموغلة في القدم استقلاله وينهض من جديد. من المشرق إلى المغرب، سيعلو صوت شعب العراق الكريم مرة أخرى ويسترجع كامل صداه.  

______________________

*النص الخامس من دفتر "عشرون عاما على الحرب على العراق" وذلك بمشاركة موقع جمار وبدعم من مؤسسة روزا لوكسمبورغ.

______________________

ترجمه عن الفرنسية محمد رامي عبد المولى

محتوى هذا المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

______________________

1- اتفاقيات لتسوية الخلافات الحدودية والسياسية مع إيران.

2- ووزيره للشؤون الخارجية آنذاك عبد العزيز بوتفليقة الذي سيتولى فيما بعد رئاسة الجزائر ما بين 1999 و2019.    
3- https://algeria-watch.org/?p=34450
4- ملاحظة من المترجم: سياسة البوارج أو ديبلوماسية البوارج يُقصد بها استعراض القوة العسكرية من قبل الدول الاستعمارية لتهديد وإرهاب الدول المراد احتلالها و/أو اخضاعها.   
5-  https://tinyurl.com/28auseeb  
6-  https://dppa.un.org/fr/shanghai-cooperation-organization
7-  http://french.xinhuanet.com/2016-10/17/c_135760886.htm  

مقالات من الجزائر

الذهب الأزرق في الجزائر

يميز الجغرافيا الجزائرية التباين البالغ من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، حيث يتركز تدفق الأمطار في الحافة الشمالية الضيقة للبلاد بينما يكون في المناطق الداخلية ضعيفاً إلى شبه...

للكاتب نفسه

ما هي التغييرات الحاصلة في الرأسمالية المهيمنة؟

عمر بن درة 2024-03-07

يقع أصل التحولات الهيكلية الحالية للرأسمالية، في الفصل بين الإنتاج المادي البضاعي وبين الاقتصاد المالي. وقد ترافق هذا الفصل مع التفكيك المتدرج للتدابير التنظيمية المؤطِّرة للأسواق المالية وللبورصة في الولايات...

من الكفاح ضد الاستعمار إلى التعبئة من أجل الحريات: كرة قدم الشعب في الجزائر

عمر بن درة 2023-05-30

أصبح الملعب مركزاً للتعبئة الشعبية، ومنتجاً لدلالات سياسية عملية تناقلها الرأي العام بشكل واسع على اختلاف شرائحه الاجتماعية. والتحمس لهذه الرياضة ليس أمرا مستجدا. فقد لعبت كرة القدم دوراً مهماً...