الكُرة المصرية: متنفسٌ للناس وعزاءٌ لهم

اقترن اسم "الأهلي" طوال تاريخه بكونه فاعلاً وطنياً: رفض المشاركة في مسابقات "الاتحاد المختلط" التي كانت تدار بواسطة الأجانب. وخرج مشجعوه في تظاهرات شعبية عقب كل انتصار لناديهم على فريق بريطاني. كما كان أعضاء "الأهلي" في طليعة الفدائيين في حرب فلسطين 1948، وتحولت ملاعبه في حرب السويس 1956 وحرب 1967 إلى مراكز تدريب أفراد المقاومة الشعبية.
2023-05-20

رباب عزام

صحافية من مصر


شارك
| en
دخلة لألتراس "الأهلي" قبل إحدى المباريات: "الكرة للجماهير"، وقد كُوِّنت الجملة على المدرجات بكل لغات الأرض.

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

حظيت كرة القدم باهتمام المصريين من الطبقات الفقيرة منذ نهايات القرن الـ19، وتبنوها باعتبارها مجالاً للتنافس مع البريطانيين وفرصة استثنائية لإظهار الهوية الوطنية المحلية، وقد اكتنفت في داخلها تلك الطبقات في مقابل رياضات الأثرياء لتتحول النظرة إلى كرة القدم من رياضة تعبر عن ثقافة الآخر (البريطانيين) إلى ذراع شعبي للحركة الوطنية، ويخرج المصريون عبرها من بوتقة الشعور بقهر المستعمر إلى محاولة مقاومته بسلاحه نفسه. وهي مذاك لم تكف عن كونها أداة "سياسية" بالمعنى النبيل للكلمة.

كانت كرة القدم في بدايتها الحديثة (ظهرت قبل الميلاد في الصين ومصر القديمة ثم انتقلت إلى الإغريق فالرومان) أداة استعمارية، استخدمت في تثقيف وضبط العمال والجنود المصريين في معسكرات الاحتلال. لكن سرعان ما استخدمتها الحركات الاستقلالية، لتغدو الحارات والأزقة ملاعب رياضية وفضاءات اجتماعية هامة. وما بين احتلال مصر في العام 1882 والعام 1895، اعتبرت الأغلبية كرة القدم إحدى وسائل المحتل للتأثير في محتليهم، فقاوموها، حتى إن جريدة الأهرام في شباط/فبراير وآذار/مارس من العام 1892 كتبت تحذِّر الناس من الانسياق وراء "لعبة الإنجليز". ولقي قرار وزير المعارف بإدخال التربية البدنية وكرة القدم كدرس إلزامي في المدارس، استهجاناً شديداً، ووُصف بأنه خطة لمنع صناعة نخب محلية من خلال فرض قيم التعليم الاستعماري (1).

وهكذا استمر الوضع حتى العام 1895، حين نظر بعض المصريين للعبة ولأول مرة على أنها أداة مقاومة. ففي معسكر الجيش البريطاني في العباسية بالعاصمة القاهرة، وقف محمد أفندي ناشد يتأمل جنود الاحتلال يلعبون الكرة. وفي داخله نمت فكرة مبتكَرة لمقاومةٍ دون نزف أو بنادق. فقد استوعب أنه يجب أن يروِّض لعبة المستعمِر ويسهم في نشرها بوصفها تحدياً رمزياً له وأداة للتنظيم والتثقيف الجماهيري، فكوّن التيم المصري ثم أعلن التحدي وانتصر على فريق "الأورانس" ممثل الجيش البريطاني، لتصبح تلك المباراة بمثابة انطلاقة لتاريخ اللعبة في مصر، ورمز مقاومة.

وقد ظلت الأمور ضبابية ما بين منحازين أو رافضين لكرة القدم حتى العام 1907 حينما تقرر تأسيس النادي الأهلي. ثم تحولت اللعبة وفق سياقات محددة إلى "أفيون شعبي".. فكيف تم ذلك؟

الوطني

في العام 1943، طلب مفتي القدس أمين الحسيني من فؤاد سراج الدين، رئيس النادي الأهلي ووزير الداخلية، استضافة فريق الكرة في جولة داخل فلسطين انتصاراً للمقاومة ضد السياسات البريطانية والحركة الصهيونية. وافق الرئيس وقائد فريقه "مختار التتش". لكن الملك والاحتلال وحيدر باشا - رئيس نادي "المختلط" و"الاتحاد المصري لكرة القدم" - رفضوا. 

وتحايل الأهلي على المنع وسافر إلى فلسطين مدة 23 يوماً تحت اسم "نجوم القاهرة". ثم عاد الفريق وقد فرضت عليه عقوبة تجميد النشاط لأشهر لم تنته إلا بتظاهرة شعبية ضخمة إلى قصر عابدين، تهتف ضد الملك والاحتلال، ما أخاف الملك فأمر بفك الحظر فوراً. وكيداً في الأهلي، قرر حيدر باشا إقامة مباراة نهائي كأس مصر المؤجلة بين الأهلي وغريمه "المختلط"، في وقت تطبيق عقوبة التوقيف للاعبين ممن سافروا إلى فلسطين، ليلعب الأهلي بالناشئين وينهزم، لكنه انهزام بمذاق النصر. استمر الأهلي في ترديده كتأكيد على "وطنيته"، بينما الزمالك دائماً ما يلوح بالهزيمة كدليل تفوق كروي.

واشتهر في مصر نشيد يتغنى بشجاعة فريق "الأهلي" لدعمه فلسطين ومناهضة الحركة الصهيونية، والنشيد بعنوان "أساطير الأهلي" يستحضر الأشخاص القيّمين على النادي:

"عمر لطفي ده محامي وكان ثوري
حارب الاحتلال وكان مناهض ليه
ناضل على الإستقلال بنى النادي الأهلي
كان حلم عمره يكون أول نادي وطني
مختار التيتش في تلاتة وأربعين
حارب الملك سفرنا لفلسطين
والستة صفر دى شرف ليوم الدين
موقف مختار وحيدر تاج على راس الأهلاوي".

ولنعد للبداية! فقبل تأسيس الأهلي كانت هناك إرهاصات أولى لتأسيس أندية رياضية في مصر جاءت جميعها بتدخلات من المحتل، فأسس البريطانيون نادي السكة الحديد في العام 1903 (أول نادي رياضي للعمال)، وسمحوا للعمال المصريين في الورش والمعسكرات بالانضمام. وسبقه في العام 1882 نادي الخديوي للضباط والجالية البريطانية ("الجزيرة" حالياً). وقد مُنع المصريون تماماً عن عضويته حتى العام 1956، ثم سُمح فقط للأمراء و"أبناء العائلات" (حتى اللحظة يحمل هذا الطابع ويعد الأعلى في قيمة اشتراكات العضوية والتي وصلت في العام 2023 إلى مليون و500 ألف جنيه للفرد). وكان ذلك من أبرز الأسباب التي دفعت الحركة الوطنية وقتها إلى التفكير في تأسيس نادٍ للطلبة، فتأسس "نادي المدارس العليا" في العام 1905 (نادٍ سياسي)، ثم فكّر عمر لطفي، وكان رئيساً لذلك النادي، في تأسيس أول نادٍ رياضي مصري للمصريين بالكامل في نيسان/أبريل من العام 1907، ليبدأ "الأهلي" ونواته طلبة المدارس العليا، وينتخب سعد باشا زغلول كأول رئيس للجمعية العمومية، وميشيل أنس كأول رئيس للنادي لمدة عام فقط في فترة التأسيس، للاستفادة من نفوذه. وكان ذلك رداً على نشأة الأندية الأجنبية والمختلطة في مصر.

أول فريق كرة للنادي الأهلي في العام1911
وثيقة تظهر الدعوة للمساهمة في تأسيس النادي في العام 1907- من الموقع الرسمي للنادي الأهلي المصري

اقترن اسم "الأهلي" طوال تاريخه باعتباره فاعلاً وطنياً، فقد رفض المشاركة في مسابقات الاتحاد المختلط التي كانت تدار بواسطة الأجانب، وكان صاحب فكرة تمصير الاتحادات الرياضية. واحتل مشجعوه حيزاً معتبراً في المجال العام، واعتادوا الانطلاق في تظاهرات شعبية عقب كل انتصار لناديهم على فريق بريطاني. كما شارك أعضاء "الأهلي" في مختلف حروب مصر في القرن الماضي، فكانوا في طليعة الفدائيين في حرب فلسطين 1948، ثم تحولت ملاعبه في حرب السويس في العام 1956 وحرب حزيران/ يونيو من العام 1967 إلى مراكز تدريب أفراد المقاومة الشعبية.

في العام 1943، طلب مفتي القدس أمين الحسيني من فؤاد سراج الدين، رئيس "النادي الأهلي" ووزير الداخلية، استضافة فريق الكرة في جولة داخل فلسطين انتصاراً للمقاومة ضد السياسات البريطانية والحركة الصهيونية. وافق الرئيس وقائد فريقه "مختار التتش". لكن الملك والاحتلال وحيدر باشا - رئيس نادي "المختلط" و"الاتحاد المصري لكرة القدم" - رفضوا. وتحايل الأهلي على المنع وسافر إلى فلسطين لمدة 23 يوماً تحت اسم "نجوم القاهرة".. 

 وهناك مجريات عديدة أخرى منحت "الأهلي" لقب الأكثر جماهيرية (حسب دراسة محلية في العام 2014، فإن 72 في المئة من مشجعي الكرة في مصر يشجعون "الأهلي" في مقابل 21 في المئة لصالح أقرب منافسيه "الزمالك"، ويتصدر الأهلي قائمة الأندية المصرية والعربية والأفريقية على منصات التواصل الاجتماعي)، ما جعله ظاهرة كروية وجماهيرية "تكاد تكون مُعجِزة غير مفهومة" مثلما وصفها الصحافي فكري أباظة.

الملكي وسر العداء التاريخي

يتساءل الكثيرون حول العداء التاريخي بين ناديي "الأهلي" و"الزمالك". ولذلك فلا بد من تحديد السياقات التاريخية والاجتماعية التي تأسس فيها نادي "الزمالك"، حيث دفعت شعبية "الأهلي" المتنامية في القاهرة، البلجيكي "جورج مرزباخ" إلى تأسيس "نادي قصر النيل" في العام 1911، وعرف لاحقاً باسم "نادي القاهرة المختلط"، لأنه سمح للأوروبيين والمصريين معاً بالحصول على عضويته. وكان، بخلاف "الأهلي"، نادياً للطبقة المترفة والمفضل لدى ملك مصر فاروق الذي أعاد تسميته بـ"نادي الفاروق". وظل مقترناً بالملكية حتى نجاح حركة "الضباط الأحرار" في الاستحواذ على الحكم في العام 1952. ومنذ تلك اللحظة تبدل اسمه إلى "الزمالك" ولقبه "الملكي". وعلى هذا فقد تأسس الناديان وهما مطبوعان بتوجهات وميول سياسية وطبقية. وكمثال إضافي، ففي العام 1916 فاز الزمالك ببطولة الكأس السلطانية والتي تضم أندية مصرية إلى جانب أندية بريطانية، في حين رفض الأهلي اللعب مع أندية استعمارية.

ولم يكن هناك خلاف مباشر بين الناديين حتى العام 1914، عندما قرّر اللاعب حسين حجازي ترك ناديه الإنجليزي والعودة إلى مصر. هنا اختلف الناديان على ضمّه، واستمر في انتقاله ما بين الناديين حتى اعتزاله اللعب داخل الزمالك. واستمر الصراع قائماً بين نادي الشعب ("الأهلي") ونادي الأغنياء ("الزمالك") لما يقارب الـ90 عاماً، ثم تأجج بعد فوز "الأهلي" المصري بلقب "نادي القرن الأفريقي" في العام 2000 وتتويجه على رأس الأندية الإفريقية الأكثر حصداً للبطولات القارّية في القرن العشرين، لتزداد حدة العداء بين جماهير الناديين، خاصة بعد مطالبة جمهور "الزمالك" بأحقية ناديه باللقب ("الزمالك" كان في المركز السادس حسب تصنيف الاتحاد الأفريقي آنذاك).

وقد تزّعم جمهور "الزمالك" وناديه حملات تتهم "الأهلي" بالفساد، وأن منظومة الكرة في مصر لا تخدم إلا مصالحه، لأنه نادي الدولة المفضّل. وربما يمثل "الأهلي" بالفعل مركز نفوذ داخل الدولة اجتماعياً وسياسياً، نظراً لامتلاكه قاعدة جماهيرية هي الأكبر، ولعلنا ندلل على نفوذ "الأهلي"، بواقعة رفض صالح سليم رئيس النادي استقبال مبارك عقب هبوط الطائرة الرئاسية في أرض النادي على غير رغبته، ثم رفضه توجيهات رئاسية بإقامة مباراة بين القطبين عقب حادث قطار الصعيد في العام 2002.

ولكن العداء بين "الأهلي" و"الزمالك" ليس الوحيد، فهناك بعض الأندية الشعبية في الأقاليم التي تحمل جماهيرها عداء تجاه "الأهلي" مثل نادي "الإسماعيلي" (تأسس في العام 1924) و"المصري البورسعيدي" (أول نادٍ للمصريين في مدن القناة في العام 1920). وقد نتجت عن ذلك بعض التحيزات من قبل الجماهير لصالح غريم "الأهلي" التقليدي "الزمالك" كرهاً في "الأهلي". في المقابل يظهر تزايد مشجعي "الأهلي" في محافظات الوجه البحري والصعيد.

الكرة بوصفها لعبة طبقية

فكرة لعبة كرة القدم منذ بدايتها كانت لعبة الكادحين، فقد سهل انتقالها من جنود الاحتلال الفقراء إلى قاطني الحارات والأزقة من المصريين الفقراء الذين وجدوا فيها متعتهم بعد عقود طويلة من الحرمان. ولم يكن ذلك غريباً على اللعبة التي لاقت الإنكار الرسمي في الجزر البريطانية نفسها طوال قرون، ووصفت بأنها "رذيلة اجتماعية يمارسها الرعاع وحدهم"، وذلك حسبما وثق الكاتب "إدوارد غاليانو" في كتابه "كرة القدم بين الشمس والظل". فقد نظرت الطبقة المترفة (البريطانية والمصرية) إلى كرة القدم نظرة يشوبها الخجل وزهدت بها باعتبارها تخص الفقراء. وقد أعاد قرار وزير المعارف بإدراجها في المدارس في العام 1892، رسم الخريطة الاجتماعية للكرة في مصر. فالمعتمد البريطاني ألغى مجانية التعليم ولم يبق فى المدارس إلا التلاميذ الذين تستطيع عائلاتهم سداد مصروفاتهم، وبالتالي سنحت الفرصة أمام أبناء الطبقة الثرية لممارسة اللعبة أيضاً، لكن المنظور اختلف لدى كليهما. فالأغنياء رأوها بمثابة تسلية بينما اعتنقها الفقراء كتعبير عن الذات. 

تأسس "نادي قصر النيل" في العام 1911، وعرف لاحقاً باسم "نادي القاهرة المختلط" لأنه سمح للأوروبيين والمصريين معاً بالحصول على عضويته. وكان، بخلاف "الأهلي"، نادياً للطبقة المترفة والمفضل لدى ملك مصر فاروق الذي أعاد تسميته بـ"نادي الفاروق". وظل مقترناً بالملكية حتى نجاح حركة "الضباط الأحرار" في الاستحواذ على الحكم في العام 1952. ومنذ تلك اللحظة تبدل اسمه إلى "الزمالك" ولقبه إلى "الملكي".

وظلت كرة القدم متنفساً خاصة لدى الشباب الذين يعانون من الفقر والإقصاء والتهميش الاجتماعي. ولكنها تحولت منذ تطبيق نظام الاحتراف في مصر إلى وسيلة لارتقاء السلم الاجتماعي. ففي أندية مثل "الأهلي" و"الزمالك" يحصل اللاعبون بداية على 7 ملايين جنيه فأكثر للموسم الواحد في مقابل ما يقارب 500 ألف جنيه أو يزيد قليلاً للاعبين في أندية الدرجة الأولى الأقل جماهيرية.

لكن ذلك لم يمنع من أن يبقى تشجيع وممارسة كرة القدم شكلاً من أشكال التمرد الاجتماعي على الأوضاع الناجمة عن التفاوت في الدخول وتوزيع الثروة وتآكل الطبقة الوسطى بسبب تخلي الدولة عن مسؤولياتها الاجتماعية تجاه مواطنيها، فضلاً عن المناخ القمعي واحتكار المجال العام الذي تميز به حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك وافتقار النظام للطموح والموارد والمؤسسات اللازمة لاحتضان هؤلاء الشباب الذين شعروا بخيبات وإحباط. وربما يظهر هذا التمرد جلياً في حركات الألتراس التي بزغت في مصر منذ العام 2007، وامتلكت القدرات التعبوية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي أو التواصل الشبكي لأعضاء المجموعات. وقد سعت تلك الحركات لامتلاك حيز من المجال العام وكسر الحظر السلطوي سواء أكان من النظام نفسه أو من إدارات الأندية. وظهرت كبديل غير تقليدي للتظاهرات وللتعبير علناً في المدرجات، من خلال تبني خطابات متعددة بدأت رياضية وضد "الرأسمالية الكروية" ثم تحولت إلى ثورية احتجاجية (مشاركات ألتراس أهلاوي وزملكاوي في أحداث ثورة 2011)، فسياسية ودينية (انضمام بعض من ألتراس زملكاوي لجماعات الإسلام السياسي وتكوين مجموعة "حازمون وأحرار").

بانر مرفوع في المدرجات بعد مجزرة بورسعيد بحق جمهور "الأهلي"

وشهدت بطولة الأمم الأفريقية في نسختها للعام 2006، نقطة تحول نوعي جديد داخل المجتمع، حين اجتذبت جماهير جديدة من الطبقة المتوسطة العليا والنساء. ومن الممكن القول إن تلك البطولة تحديداً ساهمت في فتح المجال العام أمام المصريين حين سمحت بتواجد ملايين منهم في المدرجات والشوارع عقب كل مباراة، في وقت منعت فيه التجمعات من الأساس، كما كان من نتائجها ظهور الألتراس في العام التالي. وتحولت كرة القدم بعد ثورة العام 2011 إلى أداة حشد سياسي وتعبئة جماهيرية من خلال فعاليات الألتراس نفسه في مناطق متفرقة. وفي هذا يقول الباحث زياد عقل إن كرة القدم خلقت انتماءً وطنياً لدى المصريين لم تخلقه القوالب السياسية المعتادة، وإن استخدام كرة القدم كأحد آليات صياغة الانتماء الوطني يحدث نظراً لغياب ما يكفي من كيانات جمعية قادرة على التعبير عن هوية محددة.

من لعبة إلى صناعة

سرعان ما أدركت الأنظمة السياسية قدرة الساحرة المستديرة على صرف الانتباه عن المظالم السياسية والاجتماعية وتنامي الاستياء من الأزمات الاقتصادية والعنف البوليسي. كمثال، اهتم نظام مبارك بحضور الرئيس إلى المدرجات في المباراة النهائية للمنتخب في بطولة أمم أفريقيا 2006، لإلهاء الشعب عقب حادثة غرق عبّارة السلام 98. أيضاً وُظفت مباراتا مصر والجزائر في العام 2010، لشرعنة الفعل السياسي للدولة. كما استخدمها النظام في الذكرى الأولى لموقعة الجمل (شهدت دفاع الألتراس عن ميدان التحرير والمتظاهرين)، للانتقام من الألتراس في مذبحة بورسعيد شباط/فبراير 2012 (2). وفي التوقيت نفسه من العام 2015، وقعت مذبحة أخرى لألتراس "الزمالك" لتنتهي معها ظاهرة الألتراس المصرية، بل ويختفي تواجد جماهير الكرة في المدرجات والساحات العامة، وذلك حتى اللحظة.

وعلى المستوى الاقتصادي، تحولت كرة القدم من لعبة إلى صناعة بعد تطبيق نظام الاحتراف في تسعينيات القرن الماضي، ليؤذن ذلك بولادة جديدة للعبة كمجال جماهيري اختلفت فيه أنماط وقيم التشجيع ومزاجات الاستهلاك الكروي، اعتماداً على الشباب كجمهور مستهلكين وعناصر عاملة تمتلك أدوات العصر الكروي الجديد.

شهدت بطولة الأمم الأفريقية في نسختها للعام 2006، نقطة تحول نوعي جديد داخل المجتمع، حين اجتذبت جماهير جديدة من الطبقة الوسطى العليا والنساء. وتلك البطولة تحديداً ساهمت في فتح المجال العام أمام المصريين، حين سمحت بتواجد الملايين منهم في المدرجات والشوارع عقب كل مباراة، في وقت مُنعت فيه التجمعات من الأساس، كما كان من نتائجها ظهور الألتراس في العام التالي.

تحولت كرة القدم من لعبة إلى صناعة بعد تطبيق نظام الاحتراف في تسعينيات القرن الماضي، ليؤذَن ذلك بولادة جديدة للعبة كمجال جماهيري اختلفت فيه أنماط وقيم التشجيع ومزاجات الاستهلاك الكروي، اعتماداً على الشباب كجمهور مستهلكين وعناصر عاملة تمتلك أدوات العصر الكروي الجديد. لكن صعود الاقتصاد الرياضي مهّد لظهور الألتراس في مصر، الذين رفضوا كُلية سيطرة رأس المال على لعبتهم الشعبية. 

وكان صعود الاقتصاد الرياضي قد مهّد لظهور الألتراس في مصر، الذين رفضوا كُلية سيطرة رأس المال على لعبتهم الشعبية. وهم امتداد لمجموعات لتشجيع الأهلي من خارج مصر ظهرت منذ العام 1996، وتبع الظهور تدشين موقع إلكتروني في العام 2005 ورابطة "إيه إف سي" (3). وفي الوقت نفسه، ظهرت رابطة من مشجعي "الزمالك"، لكن الذي أثار حفيظة الشاب عمرو فهمي (4)  ودفعه إلى التفكير في استلهام تجربة "إيطاليا" وتعميم تجربة الألتراس في مصر، هو أن الروابط لم تنجُ من فخ التبعية لقيادات الأندية، وبرزت مصالح مرتبطة بأنشطة ربحية وغير ربحية خارج نطاق الملاعب، ليصبح ظهور الألتراس نوعاً من التمرد على التبعية والأبوية الممارسَين من مجالس إدارة الناديين على الجمهور، الذين رفعوا شعارات "الكرة للجماهير- ضد الشرطة ورأس المال ووسائل الإعلام".

مقالات ذات صلة

ومنذ العام 2006، ازدادت الاستثمارات في الإعلام الرياضي وارتفع ثمن الدوري المصري لدى الشركات الراعية (في العام 2020 حل الدوري المصري وصيفاً في قائمة أغلى الدوريات الأفريقية بواقع ما يقارب 138 مليون يورو، بينما قدرت حجم اقتصاديات كرة القدم في مصر بنحو 1.250 مليار جنيه في العام 2012)، وأرغِم المشجعون على شراء تذاكر بأسعار متزايدة لحضور المباريات.

تريد السلطة الحالية الاستفادة مالياً من كرة القدم، ففتحت الباب أمام الاستثمار الأجنبي. اشترى "تركي آل شيخ" - رئيس الهيئة العامة للرياضة في المملكة العربية السعودية – نادي "الأسيوطي" وحوله إلى نادي "بيراميدز"، ودشن قناة تلفزية في العام 2018. شارك النادي الجديد في الدوري لكن مالكه السعودي خاض صراعاً كبيراً مع "الأهلي" وجماهيره انتهى بسحبه كافة استثماراته ومغادرة مصر. 

ودشنت السلطات في العام 2019 منظومة "تذكرتي" للتحكم بنوعية الجمهور، وإعداد قوائم دقيقة بهويات الحاضرين، وأيضاً السيطرة على سوق الملابس والأدوات الرياضية عن طريق احتكار بعض الشركات. وفي وقت سابق، استحدثت بطاقات الاشتراك التلفزيوني لمتابعة المباريات من المنزل عقب احتكار قنوات "إيه آر تي" السعودية لحقوق البث الفضائي لسنوات، ثم انتقل ذلك إلى قنوات بي إن سبورت القطرية، ما تسبب في حرمان الفقراء من متابعة البطولات.

المدرجات خالية من الجمهور في المباريات المحلية

ورغم التوسع الرأسمالي في أنشطة كرة القدم وتحولها إلى سوق يجتذب مستثمرين محليين وأجانب، إلا أن الفوائد المرجوة من ذلك السوق على الاقتصاد المصري ما زالت منخفضة، فعوائد تلك الأنشطة لا تسهم بأكثر من 2 في المئة من الموارد المالية للدولة. وربما يرجع ذلك إلى قانون الرياضة والذي منح الأندية في السابق حق الحصول على تسهيلات وإعفاءات ضريبية كبرى دون مقابل يُذكر.

أرادت السلطة الحالية استثمار كرة القدم لتحصيل أموال جديدة، مما فتح الباب أمام الاستثمار الأجنبي في كرة القدم المصرية، من خلال تجربة "تركي آل شيخ" - رئيس الهيئة العامة للرياضة في المملكة العربية السعودية - حين اشترى نادي "الأسيوطي" (نادٍ خاص) وحوله إلى نادي "بيراميدز"، ثم دشن قناة تحمل الاسم نفسه في العام 2018. وسرعان ما شارك النادي الجديد في الدوري ونافس على المربع الذهبي. لكن مالكه السعودي خاض صراعاً كبيراً مع "الأهلي" وجماهيره، انتهى بسحبه كافة استثماراته ومغادرة مصر بعد أن أغرق الدوري المصري بأموال طائلة "أفسدته" وعقد صفقات بأرقام خيالية. لكن تجربته فشلت في النهاية.

دشنت السلطات في 2019 منظومة "تذكرتي" للتحكم بنوعية الجمهور وإعداد قوائم دقيقة بهويات الحاضرين، وأيضاً السيطرة على سوق الملابس والأدوات الرياضية عن طريق احتكار بعض الشركات. وفي وقت سابق، استحدثت بطاقات الاشتراك التلفزيوني لمتابعة المباريات من المنزل، عقب احتكار قنوات "إيه آر تي" السعودية لحقوق البث الفضائي، ثم "بي إن سبورت" القطرية... ما تسبب في حرمان الفقراء من متابعة البطولات.

وعاد ملف الاستثمار الرياضي في مصر إلى الواجهة بعدما أعلن الإماراتي "سالم الشامسي"، المالك الحالي لنادي "بيراميدز"، خلال بيان أصدره مطلع نيسان/أبريل 2023، سحب استثماراته الرياضية من مصر اعتراضاً على ما أسماه "ظلم تحكيمي"، ليعلن فشل التجربة الرياضية الاستثمارية الخليجية للمرة الثانية في مصر . 

السلطة القائمة التي ترغب في جذب استثمارات وحصاد أموال لتسهيل إقامة مشروعاتها الكبرى، تنظر الآن إلى كرة القدم بوصفها صناعة. وقد عبّر السيسي نفسه عن ذلك في مؤتمر للشباب في العام 2019، ما يعني وضع كرة القدم نصب عيني السلطة، كهدف استثماري جديد، متغاضيةً عن أنها متعة الفقراء الوحيدة والدائمة. 

محتوى هذا المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

______________________

1  - صدر القرار بتعديل خطة الدراسة فى المدارس المصرية، بقصد إقرار تدريس الجغرافيا والتاريخ والعلوم الطبيعية باللغة الإنجليزية، وإلغاء الوقت المخصص لدراسة اللغة التركية ثم إضافة ساعتين كل أسبوع للرياضة البدنية. وكانت خطة بريطانية بالفعل لتقليل عدد ساعات التعليم المعتمدة، ما دفع بـ"مجلس شورى القوانين" لأن يعترض بعد سنتين من صدور القرار على الوزارة التي أهملت شئون التعليم.  
 2  - تفاصيل مذبحة بورسعيد: مقال في "السفير العربي" لإسلام ضيف https://bit.ly/3oiBGi1 ، وأيضا "مذبحة بورسعيد.. الكل نسوها وأبو تريكة أحياها". https://bit.ly/3o4MP64  
3 - إيه. إف. سي. الأهلي، رابطة مشجعي النادي الأهلي وقد تكونت في العام 2005، ودعمتها إدارة النادي بشكل رسمي حينذاك.
4 - كان مدير كرة قدم مصري، شغل منصب السكرتير العام للاتحاد الأفريقي لكرة القدم من 2017 إلى 2019. ثم استقال لاكتشافه فساد ضخم في ال"كاف"، وعُرف كأحد مؤسسي "نادي مشجعي الأهلي" أو ألتراس "الأهلي"، وقد توفي في 2020 شاباً بسبب المرض.

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...