"طرطوس" مدينة الفرص الضائعة

في اللحظات الأولى لانفجار سيارة مفخخة في كراجاتها العامة، فرغت شوارع مدينة طرطوس من مرتاديها وأغلقت محلاتها. كان التفجير الأول في مدينة بقيت على مقاعد الحرب الخلفية طيلة سنوات الأزمة السورية. حوّل التفجير المدينة المنسية إلى مركز استقطاب إعلامي لم تشهده قبلاً
2016-07-13

كمال شاهين

كاتب وصحافي من سوريا


شارك
من دفتر:
مدن سوريا
ريم الجندي - لبنان

في اللحظات الأولى لانفجار سيارة مفخخة في كراجاتها العامة، فرغت شوارع مدينة طرطوس من مرتاديها وأغلقت محلاتها. كان التفجير الأول في مدينة بقيت على مقاعد الحرب الخلفية طيلة سنوات الأزمة السورية. حوّل التفجير المدينة المنسية إلى مركز استقطاب إعلامي لم تشهده قبلاً، على خلفية أخبار تلت الانفجار تتحدث عن هجوم يشنه سكانها (العلويين) على مخيم (الكرنك) للاجئين السوريين (السنّة) بجوار الكراج، محملين إياهم مسؤولية حدوث هذا "الاختراق الأمني الكبير" الذي شقق سوراً افتراضياً يصم المدينة بأنها الغار الآمن المحمي من غوائل الحرب الدائرة حولها. أُوقف الهجوم على المخيم (وكان قليل العدد) من قبل مجموعات شبابية أقامت أسواراً بشرية حول مخيمات اللاجئين، حالت دون تفاقم الأمور، مسجّلة استنفارها بوجه محاولات تفجير المدينة طائفياً. في الأيام التالية للتفجير نجحت المدينة بامتياز في التخلص من ظاهرتين مؤرقتين من ظواهر الحرب السورية: سواد زجاج السيارات (الـ "فيميه") والخط العسكري على الحواجز.

استقبلت المحافظة الصغيرة، التي توصف إلى جوار جارتها (اللاذقية) بأنها خزان بشري ثان للنظام، عدداً كبيراً من المهجرين (قرابة المليون) يفوق عدد سكانها المقيمين (حوالي 800 ألف في إحصاءات 2011) توزعوا بيسر في ريفها ومدينتها على حد سواء، مخلخلين التوزع الطائفي والديموغرافي فيها، حيث يشكل العلويون (أكثر من 60 في المئة) والمسيحيون (حوالي 20 في المئة) والسنة (حوالي 15 في المئة.. والأرقام جميعها تقديرية)، مع تواجد إسماعيلي ملحوظ في ريفها (القدموس ونهر الخوابي)، وآخر تركماني طفيف في عدد من القرى (الحميدية والمتراس)، دون وجود أقليات قومية أخرى.

أُعلنت طرطوس محافظةً عام 1967، ومدينتها الرئيسية طرطوس هي ثاني مدن الساحل أهمية، الاسم اللاتيني لها (أنترادوس) يعني "مقابل أرواد". وأول من ذكرها فيه بطليموس، وقد حرفه العرب إلى (أنطرطوس). بنيت في القرن الثامن قبل الميلاد كمرفأ بحري لخدمة أسطول جزيرتها (أرواد) التي ما تزال تحتضن صناعة السفن بأنواعها المختلفة والصيد والسفر في البحر كثوابت لسكانها إلى اليوم. علاقة المدينة بجزيرتها جزء أساسي من هويتها المعاصرة.

بنت أرواد حواضر أكثر أهمية من المدينة ـ المرافئ، مثل "عمريت" التي يوجد فيها ملعب أولمبي أقدم من ملعب أثينا، إضافة إلى المدافن المغزلية الوحيدة من نوعها في الشرق العربي، وحصن سليمان.. كان ممكناً للمحافظة الغنية جداً بالآثار في ظل دورة اقتصادية غير مشوهة أيديولوجياً أن تتحول إلى أحد محرّكات التنمية الكبرى.
تشغل المدينة كمساحة شريطاً ضيقاً لا يزيد عرضه عن بضعة كيلومترات، امتلأ بالمشاريع السكنية الحديثة متوسعاً على حساب غابات الزيتون والزراعات المحمية التي وسمتها كمحافظة زراعية طويلاً، في الوقت الذي يبقى فيه مرفأها ـ المرفأ الثاني في البلاد ـ دون المعايير العالمية تشغيلياً، وعلى الرغم من ذلك فإن سمعته كمرفأ سوري أفضل بكثير من مرفأ اللاذقية.

للمدينة محطاتها الهامة في تاريخ المسيحية. تقول حكايات شعبية متناقَلة أن السيدة العذراء هي التي بنت كنيستها الأولى في موقعها الحالي، وفيها قدم القديس بطرس ذبيحته الأولى، لتتحول في العهد البيزنطي إلى محجّ مسيحي لقرون، قبل أن تتحول إلى كاتدرائية (لها نمط معماري فريد) ثم إلى متحف وطني يقع بالقرب من قلعة المدينة القديمة.

سجلت هجرات السفر برلك مطلع القرن السابق إلى العالم الجديد في ذاكرتها الشعبية آلام الجوع والفقد، وفي الأربعينيات استقبلت هجرات من الجبل ومن مناطق أخرى شكلت بنيتها السكانية الحالية، فيما بقي فيها سكان أرواد والأحياء القديمة ممن قدموا مع صلاح الدين الأيوبي بعد إخراج الصليبيين منها. لا تنسى الذاكرة المحلية المجازر التي ارتكبها الأخير بحق مختلف الأقليات غير السنية هنا، كما لا تنسى أن عدداً كبيراً من شبابها قضى في معارك الحرب السورية الراهنة.

تقول بعض الدراسات أن العلويين فيها قدِموا مهاجرين من العراق واليمن في حقبة القرن العاشر الميلادي (الطويل والخيّر)، فيما يطرح آخرون أنهم من السكان الأصليين المقيمين هنا منذ قرون في قرى وبلدات ما تزال تحمل أسماء سريانية وأوغاريتية وآرامية حاول البعث تعريبها دون نجاح. الرواية الأخيرة عادت للظهور في سنوات الأزمة الراهنة لدى عينات مثقفة بحثاً عن تفسير إثنولوجي مفارِق يتبرأ من العروبة وأفعالها.

مشكلة وميزة هذه المدينة، في آن واحد، أنها تجاوزت كونها قرية كبيرة دون أن تصل إلى اعتبارها مدينة حقيقية، مثل طرابلس جارتها الجنوبية، أو اللاذقية. فحتى وقت قريب كانت حركتها تنقطع مساء بعد أن يغادرها تجارها إلى الريف القريب، اليوم يغيِّر المهجرون إليها ـ وغالبيتهم من حلب ـ تأرجحها هذا ناقلين إياها خطوة إلى الأمام في تحولها إلى مدينة معاصرة مع ما يخلق ذلك من تفاعلات بدأت بتغيير بنيتها الاقتصادية والاجتماعية، خاصة في ظل ضعف مداخيل أهل المدينة مقارنة ببعض وافديها.

هذا التراوح السوسيولوجي يرتبط بعوامل كثيرة، فعلى الرغم من انفتاحها على العالم كمدينة بحرية عريقة، ووقوعها جغرافياً على مفترق طرق عرّضها لمختلف أنواع التأثيرات، إلا أن تركيبتها السكانية (الفلاحية أساساً) حفظت لها موقعها التحت - مديني دون القدرة على الإفلات من إرثه بغياب السياسات التحديثية.

ما تزال المدينة الخالية من الأمية والعشوائيات السكنية، والأولى تعليمياً في العالم العربي وفقاً لليونيسكو، علمانية الطابع ومنفتحة على الآخر، دون وجود سينما أو مسرح أو حراك ثقافي رغم أنها موطن سعد الله ونوس وحيدر حيدر وفيها تعلم أدونيس، في مدرستها الأشهر ("اللاييك").

في التاريخ المعاصر، شكّلت ثورة الشيخ صالح العلي، وهي أول ثورة انطلقت ضد الفرنسيين غداة هبوطهم على شواطئ أرواد شباط/ فبراير 1919، جزءاً مهماً من ذاكرة أجيال كثيرة. فقد بقيت لوقت قريب تسمى "ثورة العلويين" أو ثورة "جبال العلويين"، حتى في المنهاج التدريسي لما بعد البعث، مع ما يطرح ذلك من هواجس وتساؤلات حول تقييم دورها الوطني، إلى أن استبدلت أوائل الثمانينيات باسم "ثورة الساحل"، وفيما شهدت بعض الأحياء (القديمة بشكل رئيسي) تظاهرات في بداية الحراك بقيت محصورة ولم تلبث أن توقفت بعد وقت قصير، وضح فيه أن الحراك لن يجد له مستقراً هنا لأسباب لا تختلف عن أسباب جارتها اللاذقية بالدرجة الأولى.

مستقبل المدينة والمحافظة ككل مرهون بخطة تنمية شاملة تتيح المحافظة على الهوية المحلية التي تبدو كأنها آخر البقاع ذات الطابع المشرقي الإنساني، في الوقت الذي تندمج فيه مع الحداثة.. وهي مهمة صعبة في ظل تشابك كثير من القضايا المجتمعية والاقتصادية والسياسية.

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه