"والله من ساعة ما المعلم نخنوخ، الله يفكّ سجنه، اتّاخد والعيال مش لاقيه يللي يلمها". كيف تحول أحد البلطجية وشبكاته إلى أدوات ضبط اجتماعي؟ وكيف تحول إلى مؤسسة كبيرة يمتد نشاطها في عوالم مختلفة من السياسة إلى الاقتصاد والاجتماع؟
في إحدى جولات البحث الميدانية ببني سويف، التقيتُ بأحد البلطجية الكبار. كان الرجل يحظى باحترام شديد. التقيت به في إحدى أمسيات الوجهاء ليلاً. كان رجلاً شديد الأدب واللباقة. وكان يلقب بالحج. كان الحضور يتنوع بين التكنوقراط الذين ينحدرون من الطبقة الوسطى (دكتور زراعي ورئيس أحد مراكز البحوث) ضابط بالجيش ورجل متقدم بالسن كان يعمل في مديرية أمن بني سويف وأحد التجار من أصحاب الأراضي. كان خليطاً فريداً جداً، وكانوا جميعهم على علم بطبيعة بحثي الذي أثار في بعض الأوقات جوانب من التحفظ الوطني لدى الجميع: "ألا ترى خطورة على سمعة مصر من أبحاث كهذه؟"!
الرجل المحترم
تحدث الرجل بفخر كبير عن دوره الإيجابي في منع شباب شارعه وعائلته من الانحراف والبطالة، وكيف يوظفهم في أعمال مختلفة، سواء تضمنت عنفاً مباشراً، أو بعض المقاولات، أو تخليص بعض المصالح التي تطلب وجود عزوة كبيرة. كان يرى نفسه، وكذلك يراه الآخرون، كرجل يعمل على حلّ المشاكل وجلب الحقوق وتخليص المصالح المختلفة. كما يقوم بدور تفاوضي كبير في إنهاء الخلافات، ويُستدعى لمجالسها المختلفة، سواء كانت عرفية أو مجرد جلسات للتفاوض حول بعض الأمور. وتطرّق الحديث إلى طبيعة علاقته بـ "الداخلية"، وكان كثير التضرر منها. وعلى الرغم من صيته الكبير، إلا أن الرجل أبدى امتعاضاً شديداً منها وقال "الناس دي ملهومش عزيز". واستكمل أنه على الرغم من عدم مضايقته للحكومة إلا أنهم كانوا دائمي الهجوم عليه وعلى شقته ولا يراعون حرمة المنازل، "ويخْشّوا على الناس البيوت والنسوان قالعة.. وقلّة أدب".
قام الرجل بتصنيف أنواع وأنماط البلطجية بشكل شديد الدقة. فقال هناك الشبكات الكبرى، مثل المعلم نخنوخ، وهؤلاء مؤسسات كبيرة ولها أدوار متنوعة مثل حماية الملاهي الليلية، التأمين الشخصي للفنانين والفنانات، العمل في الانتخابات، سواء لمصلحة أحد المرشحين أو لترتيبات أمنية وسياسية أوسع لضبط عملية الانتخابات مع الحزب الوطني وأمن الدولة مثلما حدث في 2005 و2010، حل النزاعات بين العائلات الكبيرة التي تعمل بالإجرام، إنهاء وحسم نزاعات الأراضي والعقارات الكبيرة.. وقص عليّ رواية عن نخنوخ ودوره في حل إحدى النزاعات بين عائلتين من البلطجية هناك، وهي الرواية نفسها التي سمعتها من أحد المنتمين إلى السلفية الجهادية، وهو أيضاً أحد تجار الملابس الكبار بالمطرية. والاثنان كالا المديح للدور البطولي والأخلاقي للنخنوخ، وكيف حقن دماء الأبرياء في المنطقة ومن العائلتين.
ثم أشار إلى وجود أنواع وأنماط أخرى، مثل العائلات التي تعمل بالبلطجة، وضرب مثل شهير عن امرأة بلطجية شهيرة بمنطقة الدخيلة بالإسكندرية، تعمل هي وأولادها في هذا المجال. وأشار إلى أن طبيعة الأفعال دوماً ما ترتبط بطبيعة المنطقة التي يتواجد فيها البلطجي، وإلى الفرق بين البلطجة والعصابات المتخصصة في سرقة السيارات مثلاً أو نهب الأموال أو قطع الطرق. فهذه كلها "اختصاصات" مختلفة.
وأشار إلى نوع آخر من البلطجية كنت التقيتُ بعضهم قبل زيارتي له وبعدها، وهم "العيال الأشقياء". الأشقياء طبقاً لسعيد عز الدين، المؤرخ الشاب بجامعة نيويورك، مفهوم ظهر مع الاستعمار وارتبط ايضاً بالمناطق العشوائية التي كانت أحد هموم الحكم أثناء الفترة الاستعمارية. وهو أيضاً مفهوم قانوني يعرِّف به المشرع المصري معتادي الإجرام، وهناك قانون شهير أخذ في التطور عبر مراحل متعاقبة في التاريخ المصري وهو "قانون الأشقياء والمسجلين خطِر". والمفهوم على المستوى الاجتماعي يشار به لهؤلاء الشباب الذين يودون الالتحاق بعالم البلطجة والتحول من مجرد شقي صغير يشترك في بعض الأعمال الإجرامية مقابل أموال قليلة، أو يقوم بتوزيع بعض المخدرات، وبالطبع الاشتباك الجسدي العنيف مع أقرانه لبناء سمعة وصيت له بالمنطقة. ويسعى بعض هؤلاء الأشقياء إلى افتعال المشاكل مع قسم البوليس بمنطقته حتى يذيع صيته ويقال إنه "مدوِّخ الحكومة". وربما يفتح بعض المجال لنفسه للتفاوض مع معاون المباحث أو رئيس المباحث ليوكِل له بعض المهام في المنطقة وإشراكه في أعمال أكبر مقابل التغاضي عن جرائمه.
هذه نقطة شائكة للغاية، وخاصة في المدن، حيث يقوم قسم الشرطة بتحويل أغلب شباب المناطق الشعبية والعشوائية لـ "مسجلين خطِر"، بالتعبير الشعبي "يعمله كارتة". هذه العملية تشمل الأشقياء وغير الأشقياء، وربما تلعب الصدفة دورا كبيرا فيها. فوجود أحد الأشخاص في مقهى أثناء حملة بوليسية أو اعتراضه على سلوك أحد الضباط أو الأمناء تجاهه أو تجاه أسرته (وهكذا عدد كبير آخر من الاحتمالات السخيفة)، قد يلقي به في هذا المصير ليصبح مسجلاً خطِراً أو شقيا "صاحب كارتة" بالقسم. ومثلما يسعى بعض الأشقياء لبناء أو خلق علاقة مع مباحث القسم، يحمل قطاع كبير منهم ضغينة شديدة تجاهه، لأنهم أجبروا على القيام بأعمال إجرامية لمصلحة السلطة، مثل قمع التظاهرات أو استخدام العنف في الانتخابات، أو أحياناً أعمال فساد شخصية لمصلحة الضباط أو الأمناء أو أحد معارفهم.
القصة الحزينة للزناتي وقصص أخرى
وهناك نوع آخر من البلطجية وهو أقرب للمفهوم القديم لـ "الفتوّة" (أو "القبضاي")، وهو بلطجي يحاول إثبات سطوته الجسدية والمعنوية بمنطقته فيشتبك مع بلطجية المناطق الأخرى. ولا يذيع صيت هؤلاء البلطجية إلا بقتله أو ضربه لأحد البلطجية الكبار من نوعيته نفسها في المنطقة الأخرى. ولعل أبرز مثال هو مرسي الزناتي، أحد أبرز بلطجية منطقة "الرمل" في الثمانينيات الذي كان يقطن بـ "باكوس"، إحدى أقدم وأبرز المناطق الشعبية بالإسكندرية. وكانت نهايته درامية بعض الشيء حيث تمكن عفيفي كامل، أحد أبرز رجال المباحث في تاريخ قسم الرمل في ذلك الوقت، من إلقاء القبض عليه وأتى به إلى منتصف شارع السينما بقلب باكوس، ثم ألقاه على وجهه وقام بربط جسده على مقدمة سيارة الشرطة وصاح في مكبر صوت على بقية المنطقة ليشهدوا لحظة الإيقاع والتنكيل (بفضل قوة الحكومة) بأهم بلطجي ظهر فيها وهو ملقى على بطنه أمام الجميع، وصاح عفيفي كامل في أهالي المنطقة وظل يسبهم ويسب مرسي الزناتي بأقذع الألفاظ، ثم انتهى المشهد بإدخال عصا خشبية غليظة في مؤخرة مرسي الزناتي وسجنه، ليخرج بعد عدة أعوام ويتحول من بلطجي كبير إلى "تائب" يعمل بالجزارة ويصلي طوال الوقت. لم يكن للزناتي دور كبير في تأمين المنطقة وضبط إيقاعها مثلما كانت الحال4 مع الفتوات قديماً. ولكنه أيضاً كان يمثل رمزاً للردع النسبي وأحياناً يتم التباهي به في مقابل المناطق الأخرى.
وترتبط أعمال البلطجة ارتباطا كبيرا بأعمال الدعارة وتتقاطع معها في عدة نقاط أبرزها التأمين وضبط عدم تداخل المناطق مع بعضها البعض، وهي تتراوح بين الشبكات الكبرى وحتى العمل الفردي الصغير. ويلعب البلطجي دوراً مهماً في تأمين الفتيات وحمايتهن من اعتداء الزبائن عليهن أو من البلطجية الآخرين، ويلعب دوراً مهماً في حمايتهن من المجتمع الرافض ظاهرياً لسلوكهن على المستوى المعياري والأخلاقي. وأحياناً يكون الأمر مأساوياً، حيث يفرض البلطجي على أخته العمل في الدعارة للتخديم على بعض مصالحه ويقوم بابتزازها وتهديدها بالمجتمع نفسه، وبفضحها أو قتلها إذا لم تستجب لأوامره، ثم يبرر فعلته كـ "جريمة شرف". وهو ما حدث مع أحد بلطجية "الرمل" البارزين.
حضور عام.. وتغيّر هام
إن أي باحث يود تسجيل تاريخ المناطق الشعبية أو العشوائية سيكون أمام سردية البلطجية والأشقياء وقديماً "الفتوّات"، وسيجد صعوبة شديدة جداً في تفكيك هذه السردية وفضح ما بها من مبالغات شديدة وإضافات شعبية توضع على الحكاية لتعطيها مزيداً من الإثارة والإبهار. والجميع سيكون إما قريبا أو صديقا أو زميلا لأحد أبطال الرواية من البلطجية والأشقياء. ولكن النقطة المركزية في هذا هي حضور عالم البلطجة وظله الكثيف على كل ما هو اجتماعي وسياسي في المناطق الشعبية والعشوائية. وهي ظاهرة ضاربة في قدم الدولة الحديثة في مصر.
ولكن ما نراه اليوم هو أمر مختلف بالكلية. ويمكن تحديد تاريخ مهم تغيّر معه عالم البلطجة بالكلية وهو مطلع القرن الجديد. وهو ما يقود للحظة 2011 وما تلى بعدها من ظهور وحضور مكثف للبلطجي في المجال العام. في التسعينيات شهدت مصر ثلاثة أمور حولت المجتمع بالكلية: 1- توحش الخصخصة والشروع في المشروع النيوليبرالي، 2- اشتداد الحرب على الإرهاب ونهايتها، 3- توسع المناطق العشوائية. ما نعرفه اليوم عن ظاهرة البلطجة ينقسم إلى قسمين: ظاهرة مدينية، وظاهرة تختص ببعض مناطق الصعيد وتحديداً الدلتا. والاثنتان تعودان إلى إفراط مؤسسة "الداخلية" في استخدام الأشكال اللا - مؤسسية في مواجهة الإرهاب ومحاولة الضبط الاجتماعي. وهى الفترة نفسها التي شهدت توسعا في أعداد أمناء الشرطة ثم توحشهم. فالداخلية قامت بعمل ما يسمى بـ "الروابط" في الصعيد، وهي عائلات أو مجموعة من الأفراد يقومون بالسيطرة على قراهم ومناطقهم والطرق المؤدية لها، لدحر الجماعات الإسلامية في مقابل مزيد من مد نفوذهم الاجتماعي والاقتصادي (اقتصاد المخدرات والسلاح تحديداً). وهنا بدأت تحدث إزاحات اجتماعية وتشكّل اقتصادا سياسيا جديدا لهذه المناطق مرتبطا بالأمن والجريمة في آن واحد. وقطاع كبير من سكان هذه المناطق يعيش على هذه الأنواع من التجارة. ووجودها أصبح شرطاً من شروط حياة وتنمية هذه المناطق، من توظيف إلى سكن، وخاصة بعد انقطاع العمل في العراق. فكثير من بيوت قرى الصعيد التي نعرفها الآن تم تشييدها لا بأموال الخليج العربي وتحديداً السعودية، بل من عمالة الصعيد في العراق في أيام صدام قبل غزو الكويت.
أما المدن فعرفت الأمر نفسه ولكن من خلال الأفراد والشبكات لا عائلات في معظم الأوقات. وكان عصر مبارك قد شهد نمو ظاهرة البلطجة ونمو اقتصاد سياسي كامل للجريمة، مع توسع وتغلغل للإسلام السياسي في النسيج المجتمعي لمصر. وتجاور الاثنان لعقود. ولكن السلطة كانت قد دخلت حرباً ضروسا مع الجماعات الإرهابية، كما رفع كل من الإخوان والسلفية العلمية والسلفية المدخلية (التي ظهرت في التسعينيات) أيديها عن تلك الجماعات. وحرّضت "الداخلية" عليهم شبكات البلطجة التي تعرف مناطقها معرفة أفضل. وهذه الشبكات تم بناؤها أو توسعها أثناء الصراع مع الجماعات الإرهابية. انتصرت الدولة على الإرهاب، وكذلك الشبكات الإجرامية أيضاً. كان هناك بطلان للقصة: الداخلية والبلطجية! وكلتاهما ستظهران كثيراً على مسرح الأحداث في العقد الأول من الألفية الجديدة. كان المسرح الاجتماعي يشهد استكمال التحول النيوليبرالي. وهُمِّشت قطاعات واسعة من الشباب من سوق العمل والتوظيف، وفي الوقت نفسه، وبحكم اقتصاد السوق الجديد، بدأت المصالح الاقتصادية في التوسع. وكان هناك ضعف مؤسسي شديد في تطبيق القانون وفي حضور "الداخلية" الانضباطي. هنا وُجدت مصالح جديدة تستحق الاستماتة في الدفاع عنها، وهي لم تعد فقط صراعات العائلات الكبرى على الأرض، في الصعيد والدلتا، بل سوق عقاري جديد، وشركات وتجارة مع أنماط جديدة من الاستهلاك ترجع أصولها للانفتاح، مع فائض بشري كبير يتمثل في قوة الشباب العاطل من العمل. وبدأ احتياج الطبقة الوسطى والتجار وكثير من رجال الأعمال لمن ينجز لهم "المهام القذرة" الذي يصعب إتمامها، أو أخذ الحقوق من خلال القنوات القانونية المباشرة. لا يعني هذا أن البلطجة أصبحت دائرة خارج أو ضد حيز العدالة والإجراءات الجنائية. بل المشكلة هي أنها أصبحت جزءاً مكملاً لها وربما إحدى خطواتها. كما أصبحت أحد أذرع الدولة اللا - مؤسسية التي تحميها وتعفيها من المسؤولية الجنائية والفضيحة السياسية، مثلما حدث في 2005، سواء في الانتخابات آنذاك أو في فضّ التظاهرات من خلال تزاوج الأمن المركزي مع البلطجية لترويع الخصوم. أضف إلى ذلك أن السلطة بدأت تواجه قطاعات جديدة من أبناء الطبقة الوسطى ومجالا سياسيا تشكل في 2005. وبالفعل شهدنا أحداث "الأربعاء الأسود" في 25 أيار/ مايو 2005، حيث تحرش البلطجية أمام رجال الأمن بالمتظاهرات أمام نقابة الصحافيين اللواتي تجمعن للاعتراض على تعديل المادة 76 من الدستور.
والعقد نفسه شهد تفشي ظاهرة احتلال المساحات العامة والاستيلاء على الأراضي. فأصبحت مساحات ركن السيارات في المناطق المختلفة محل نزاع، ومصدر دخل ريعي لمن يستطيع السيطرة عليه وبسط نفوذه على المكان بالتنسيق مع رجال الأمن.. بالعمل لمصلحتهم كمرشدين. وهو العقد الذي لم يشهد انهيار المواصلات العامة (فهي كانت منهارة أصلاً)، بل تلاشيها والإغراق في أشكال أخرى للمواصلات، وتوسع مواقف النقل الأهلي والخاص. وهذه المواقف تحتاج لإدارة لفرض السيطرة والأمن عليها. وهنا بدأ ظهور أشكال جديدة من البلطجة. وكانت المواقف تمثّل أحياناً منفذاً لتدوير وإصلاح "المسجلين خطِر" من خلال رجال المباحث أو حتى مديري الأمن. فمثلاً إذا أحب أحد رجال المباحث الكبار أحد الأشقياء واقتنع بتوبته بعد انقضاء عقوبته في السجن، يمكن أن يحيله لإدارة أحد المواقف. فمن ناحية هي مصدر عمل شريف بالنسبة له، ومن ناحية هي زرع لرجل موال للأمن في هذه المساحة التي تشهد نزاعات شخصية وجماعية في ما يتعلق بإدارة هذه الأموال وترتيب الصفوف وأولوية السير والتحرك... ويمكن ملاحظة الشيء نفسه في شواطئ الإسكندرية التي تمت خصخصة معظمها. فبعض الفنادق الكبيرة التي استحوذت على الشواطئ قادرة على تأمين نفسها من خلال شركات الأمن الخاصة، بالإضافة إلي حماية "الداخلية" لها. أما الباقي، الذي يتوزع بين بعض صغار رجال الأعمال أو القلة المتبقية من الشواطئ العامة، فشهدت دوراً أكبر للبلطجة فيها، سواء من خلال السيطرة عليها بالكلية أو لتوفير الأمن لها.
خلاصات
هناك تحولات جذرية في المجتمع بسبب الخصخصة والنيوليبرالية وظهور أنماط جديدة من الاقتصاد والمصالح والحقوق الاجتماعية والاقتصادية في ظل ضعف القنوات القانونية والقضائية، ووجود للمال السياسي تمثل في الحزب الوطني، وإدارة أمنية. ثلاثي كبير تسبب في توحش واستفحال ظاهرة البلطجة كما نعرفها اليوم.. حتى صارت بعض الإحصاءات تقدر أعداد البلطجية بما يتراوح بين 200 ألف و500 ألف بلطجي في عموم مصر، وهي أعداد يصعب التأكد من صحتها، ولكنها تشير بالتأكيد إلى ضخامة الظاهرة. لقد صارت بعض شبكات البلطجة إحدى وسائل الضبط والتوظيف الاجتماعي للشباب. وهكذا انفرط العقد بعد القبض على المعلم نخنوخ!
كانت الثورة لحظة صراع كبرى اشترك فيه معظم قطاعات وطبقات المجتمع، وهى بطبيعتها لحظة انفلات كلي. تعاظمت الظاهرة، وكان اللقب في انتظار كل من يسرق أو يقوم بنهب أحد على الطريق. الأهم هو أن اللحظة شهدت انقلاباً كبيراً في عالم البلطجة، فالبعض كان يدافع عن مصالحه التي تضمن بقاء نظام مبارك ورجاله والحالة الاجتماعية العامة، بكل ما تحمل من تراتبية وتقسيم للعمل وأنماطه والواقع اليومي. وهؤلاء كانوا على علاقة وثيقة برجال النظام وبالداخلية، وهم من شكلوا وقوداً حقيقياً لمعاداة الثورة. البعض الآخر استغل لحظة الانفلات لبناء قوته وشبكاته الجديدة. وآخرون كان يئنّون تحت وطأة الفقر، وأغلبهم من أصحاب "الكاراتات"، وهؤلاء كانوا يخضعون لتهديدات الداخلية أو لإغواء المال (ولو كان مجرد 50 جنيهاً ووجبة طعام) للمعركة، وتمّ استخدامهم من قبل الجميع.
ويجب ألا ننسى مشهد هؤلاء النساء اللواتي حاصرن نقابة الصحافيين، أو ملأنَ ميدان التحرير للتهليل للسيسي. فلعقد كامل من عقود مبارك، كانت هؤلاء النساء يبعن قوتهن الجسدية وقدراتهن الشعبية في السباب والضرب. وكثير منهن أمهات هؤلاء الأشقياء، فإن لم يكن لهن كارتات بالقسم، فلأولادهن وأزواجهن، وما أسهل الضغط عليهن لارتكاب أي شيء. وهن أنفسهن النسوة اللواتي يتعرضن لكل أنواع التنكيل والإذلال والاستخدام المتبادَل مقابل العفو أو المال أو بسط النفوذ في مناطقهن.
.. البلطجة عموما في مصر هي خليط من إرادة القوة وبسط النفوذ، والرضوخ لابتزاز المال، أو الخوف من البطش والعقاب من قبل رجال الأمن.