نشأت اللاذقية كأغلب مدن الشرق، معمدة بطقس الدم كما تهمس حفريات الأسطورة، فقدمت أجمل بناتها (أغافي) قرباناً لتأسيسها. في منطق الأسطورة نفسه، تجاوزت المدينة عمر الطفولة لتدخل عهد الحكمة. ثمانية آلاف عام مضت منذ تحولت من قرية فينيقية صغيرة حملت اسم يرموتي إلى مدينة حقيقية وضع حجر أساسها "سلوقس نيكاتور" اليوناني مسمياً إياها على اسم أمه (لاواديسا) بعد واقعة درامية قدمت فيها الآلهة توصياتها بشأن المكان الأنسب للبناء، وهو المكان الذي تتربع عليه الآن على قمة رأس بحري.
تكفي هذه السنوات مع ما تلاها، افتراضياً، كي ينتهي البنيان وتفيض الهوية بأثرها، هنا الأمر لا يصح. ما تزال الهوية موضع تبدل دائم مع ما يورثه ذلك من تغير في البنية السكانية والعمرانية والثقافية. تاريخياً، عرفت المدينة كل شعوب العالم القديم غزواً وعمراناً واستيطاناً، فكانت منصة تجارية رئيسية للفينيقيين، فيما أعاد الرومان تأسيسها معمارياً ثم دينياً بعد أن سووها بالأرض مما لا يزال أثره واضحاً في شوارعها المستقيمة وقوس النصر بالقرب من "الصليبة". لم يتأخر المسلمون بتدميرها وبنائها مرات عديدة لتتوج لعنتها بزلازل كثيرة آخرها زلزال آذار/مارس من العام 1287، قلبها رأساً على عقب مدمراً أسوارها التي لم تبن بعد ذلك.
مطلع القرن العشرين، بلغ عدد سكان المدينة 70 ألف نسمة، ثلثهم من المسيحيين بمختلف طوائفهم. في حقبة الاحتلال الفرنسي، وقعت تحت إغراء فكرة التحول إلى عاصمة "دولة العلويين" التي عاشت قرابة العقد في الثلاثينيات. وقتها ظهرت السينما والصحف المستقلة لأول مرة، وغنت أم كلثوم وعبد الوهاب في مقهى "شناتا" الباقي لحد الآن، فكرة الدولة المستقلة للساحل السوري (تشبهاً بلبنان) سيعاد اللعب عليها في الأزمة الراهنة من قبل كثيرين.. دون نجاح.
عدم اكتمال الهوية المستمر، والانفتاح على المتوسط وتأثيراته، أبقاها مفتوحة متحركة على التغيير دوماً. من يزورها يقارنها بكبريات المدن في حداثتها وطقوسها وثقافتها اليومية. لا يرتبط التفسير هنا بالعولمة وتأثيراتها، فلطالما ابتلعت مختلف التناقضات بيسر وسهولة. عندما زارها الرئيس جمال عبد الناصر أيّام الوحدة، دهش لوجود 36 جريدة ومجلة منها صحف فرنسية، اختفت كلها بعد استلام البعث السلطة في سوريا.
استقبلت المدينة طيلة القرن هجرات متعددة غيرت بنيتها الديموغرافية عدة مرات. فلسطينيون وأرمن وأكراد وتركمان.. لكن الهجرة الأبرز بدأت بعد السبعينيات بزيادة هبوط العلويين إليها من معاقلهم التاريخية (الجبال القريبة) إلى جوار أحيائهم التاريخية (بسنادا ودمسرخو)، مشكلين منتصف التسعينيات أكثر من نصف السكان (55 في المئة من 306 آلاف نسمة)، ومنشئين أحياء جديدة تحولت لمركز ثقل جديد للمدينة ("الزراعة" و "منطقة الجامعة") أضعفت المراكز التقليدية القديمة ("الشيخ ضاهر").
يحضر فيها عموماً قرابة العشرين طائفة دينية وقومية. بعض عائلاتها من أصول إيطالية ويونانية وتركية. أما الوجود الإسلامي طويل الأمد فيها (دخلها أولاً عبادة بن الصامت الأنصاري) فلم يستطع طبع المدينة بطابعه رغم انتشاره السكاني في الواجهة البحرية للمدينة التي اختفى معظمها في توسع المرفأ الأخير نهاية السبعينيات، مزيلا آخر المقاهي الشعبية، تلك التي شكلت عالم "حنا مينه" الروائي بمعظمه.
لم تنل المدينة حظوة في ظل اعتبارها «مدينة السيد الرئيس» (السابق والحالي، كما عرفها السوريون بعد 1970). أما صفتها كمدينة "سياحية" فهي خادعة، أقصى تمثلاتها صناعة الفطائر على الطرقات.. وتنطبق عشوائية التنمية عليها كغيرها من شقيقاتها.
إلى جانب البحر وأعماله، ما زال العمل الأثير للغالبية هو التجارة مع حلب التي اعتمدت على اللاذقية كثيراً بعد سلخ لواء اسكندرون لتكون نافذتها على العالم، فأحيتها سابقاً، كما تفعل اليوم بعد هجرة آلاف الحلبيين إليها، مفضلين إياها على غيرها، وناقلين إلى أهلها ("اللوادقة") ثقافة عمل جديدة لم يعرفوها سابقاً: بع كثيراً واربح قليلاً.
شهدت المدينة في سنوات الأزمة ــ وما قبلها ــ انتشاراً محموماً لعشوائيات سكنية ابتلعت أراضيها الزراعية شمالاً (الدعتور، دمسرخو) حيث تقطن غالبية علوية، وتحولت جنوباً في عشوائياتها ذات الغالبية السنية المهاجرة أيضاً (الرمل الجنوبي، السكنتوري) إلى مركز رئيسي للتظاهرات التي لم تستطع تكوين ثقل مرجّح في ظل ضعف نسبتها العددية قياساً بكل السكان وقتها. اليوم تتناصف النسبة العددية تقريباً بين السنة والعلويين وفق الإحصاءات المتداولة.
التدفق الكبير للمهجرين (وغالبيتهم من السنة) ساهم في تفكيك الغيتوهات السكنية التقليدية ذات الطابع الطائفي والقومي، مما جعلها مزدحمة بشكل لا يطاق مترافقاً مع ضعف البنى التحتية المزمن. وقد اضطر القادمون لسكن أحياء جديدة أنشأها تجار الحرب غالباً بسرعة فوق البقية الباقية من الغطاء الأخضر للمدينة، وبتواطؤ صريح مع الجهات الرسمية. اليوم هناك أحياء جديدة في مناطق علوية تاريخياً (سنجوان، سقوبين) تحمل اسم (حلب الجديدة وإدلب الجديدة) يختلط فيها الجميع بانتظار نهاية الحرب، يتزاوجون ويتاجرون ويحلمون أيضاً.
عرفت المدينة ظواهر متناقضة سوسيولوجياً فُسِّرت على عتبات الطوائف غالباً تفسيراً قاصراً مرتبطاً بإرث تاريخي دون المرور في فلاتر السلطة ومفاعيلها المجتمعية، خاصة ما ارتبط منها بريفية وفلاحية بنية السلطة نفسها. فكما انطلقت أول معارضة علمانية للنظام منها (ما زال بعض معتقليها في السجون)، فقد انطلقت منها ظاهرة التشبيح، التي كوتها بنارها قبل غيرها، وآخر آثارها قضية قتل العقيد حسّان الشيخ على يد أحد أبرز رموز التشبيح في السنوات الأخيرة.
لم تحدث أية أعمال عنف ضد المهجرين. يفسر البعض الأمر بأن المحافظة ككل، رغم كونها خزان النظام البشري ومعقله الأساسي، إلا أنها تعتبر فعلها تمسكاً بفكرة الدولة ومؤسساتها لا بالنظام وأجهزته الأمنية، رغم أن أجهزة الدولة لم تقم سوى بجهد طفيف لإيقاف ظاهرة التشبيح التي طبعت المدينة باسمها.
كذلك، لم تعش المدينة رعب الحرب بمعناه التدميري، لكنها دفعت جزءاً ليس يسيراً من فاتورتها: مئة ألف نعوة أو أكثر تضيق بها جدرانها، عدا عن المعتقلين والمخطوفين والمفقودين. وفيما يعرف الجميع أزمات معاشية كثيرة مع انخفاض القيمة الشرائية لليرة عشرة أضعاف، تستمر الحياة هنا دون وجود رؤى واضحة للمستقبل، ككل المدن السورية الأخرى.