بعد الثورة.. لماذا تأخرت العدالة في السودان؟

لم يتوقف الحراك الجماهيري في السودان، منذ سقوط نظام عمر البشير في نيسان/ أبريل 2019 وحتى اليوم. ولم تكبح جائحة كورونا هذا الحراك متعدد أشكال التعبير الاحتجاجي الشعبي، والذي يطالب في خلاصته الحكومة الانتقالية المشكّلة في أيلول/ سبتمبر 2019 بالإجابة على الأسئلة الملحة، ويعيد التذكير المستمر بمطالب الثورة، التي تأتي قضية "المحاسبة والعدالة" على رأسها.
2021-02-03

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
ابراهيم الصلحي - السودان

كان المتوقع أن ينشط ملف "العدالة" فوراً، عقب زيارة المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودا، للخرطوم في تشرين الأول / أكتوبر الماضي، لبحث مسألة المطلوبين للمحكمة وعلى رأسهم الرئيس المخلوع، عمر البشير. لكن المدعية العامة قالت في كانون الأول / ديسمبر الماضي إن مكتبها لم يتلق أي تأكيد رسمي من الحكومة الانتقالية في السودان، وحثت إثر ذلك مجلس الأمن الدولي لمساعدتها في الأمر. لم تصدر الحكومة السودانية حتى اليوم أيَّ تعليق أو تأكيد على جديتها في تسليم المطلوبين للمحكمة الدولية، أو محاكمتهم داخلياً في التهم الموجهة إليهم في حرب دارفور التي تفجرت في العام 2003. وكانت الجنائية الدولية أصدرت مذكرات توقيف بحق عدد من قيادات النظام السابق في تهم تتعلق بجرائم حرب، وجرائمَ ضد الإنسانية.

لم يتوقف الحراك الجماهيري في السودان منذ سقوط نظام عمر البشير في نيسان/ أبريل 2019 وحتى اليوم، ولم تكبح جائحة كورونا هذا الحراك متعدد أشكال التعبير الاحتجاجي الشعبي، والذي يطالب في خلاصته الحكومة الانتقالية المشكّلة في أيلول/ سبتمبر 2019 بالإجابة على الأسئلة الملحة، وإعادة التذكير المستمر بمطالب الثورة، والتي تأتي قضية المحاسبة والعدالة على رأسها. وقد شغلت هذه القضية حيزاً واسعاً من شعارات الثورة والفعل المطلبي المستمر قبل، أثناء، وبعد الثورة.

لعل الشارع السوداني المتلهف للتغيير، يلتمس العذر للحكومة التي ورثت حملاً ثقيلا من الفشل فيما يتعلق بالاقتصاد والسلام، أو بإصلاح الخدمة المدنية وإصلاح القوانين، وقضايا علمانية الدولة.. والتي تستغرق بالضرورة زمناً لإنجازها. لكن الشارع، بالمقابل، مرتابٌ تجاه تلكؤ السلطات في إحراز حد أدنى من التقدم في ملف العدالة، ومحاسبة رموز النظام السابق القابعين في السجون، ولا يجد عذراً لهذا البطء غير المبرر، أو على أقل تقدير، لا يعلم أسبابه.

من المهم جداً الانتباه لترقب الشارع، وعلى وجه خاص ضحايا حرب دارفور، الذين كان في اعتقادهم أن البشير سوف يُساق إلى المحكمة الجنائية الدولية صبيحة سقوط نظامه، إذ لا سبب يمنع ذلك. لكن السودانيين وجدوا أنفسهم مضطرين لمتابعة أول محاكمة للرئيس المخلوع، المعروفة إعلامياً بقضية "حيازة نقد أجنبي"، وكانت مثار تعجب وسخرية من الكثيرين. ربما استطاع أحد لاجئي حرب دارفور في أحد معسكرات شرق تشاد التعبير عنها بعبارة وردت في تقرير صحافي "رئيس قتل المواطنين في كل مكان، يحاكم في سرقة؟".

في خضم أسئلة الشارع الملحة حول تأخر المحاسبة - باستثناء محاكمة رموز انقلاب الإنقاذ 1989، والذي جاء بالنظام السابق عنوةً إلى السلطة - تتصاعد المخاوف من تسويات تمت أو تجري حالياً، تضرب مطالب العدالة.

وقد عبّر هذا اللاجئ عن ملايين السودانيين الذين ينتظرون المحاكمات الحقيقية المتعلقة بجرائم "الإنقاذ" الشهيرة، أي القتل، والتعذيب والاغتصابات، عطفاً على جرائم المال العام التي قادت إلى تدهور الاقتصاد، وتبديد المشاريع الوطنية الكبرى، وعلى رأسها مشروع الجزيرة الزراعي الذي كان يمثل عصب اقتصاد السودان، فكانت النتيجة هي ماعليه الوضع الاقتصادي اليوم.

أعادت وفاة شقيق الرئيس السوداني المخلوع، المتهم اللواء طبيب عبد الله البشير أواخر تشرين الثاني / نوفمبر الماضي الجدلَ مجدداً حول بطء سير العدالة. وعبد الله البشير الذي مات بمحبسه كان موقوفاً على ذمة قضايا فساد، أبرزها بيع مصنع حديد يتبع للقوات المسلحة السودانية. وهو المتهم الثاني الذي يفارق الحياة داخل محبسه، فقد سبقه، القيادي الإسلامي، الشريف أحمد عمر بدر، المتهم في بيع خط "الخرطوم – هيثرو" إبّان توليه رئاسة مجلس إدارة الشركة السودانية للخطوط الجوية، وهي أحد خطوط الطيران التي كانت تدرُّ دخلاً كبيراً لسلطات الطيران المدني.

والجدل طبعاً ليس من منطلق حقوقي فقط حول أوضاع وحقوق المتهميَن، إذ أوضحت النيابة العامة حيثيات وفاتهما بعدما وفرت لهما العناية الطبية المطلوبة. لكن الجدل هو حول مصير محاكمة رموز النظام السابق، والخشية تتسع يوماً بعد يوم من ألا تطال العدالة مرتكبي الجرائم. وفي خضم أسئلة الشارع الملحة حول تأخر المحاسبة، باستثناء محاكمة رموز انقلاب الإنقاذ 1989، والذي جاء بالنظام السابق عنوةً إلى السلطة، تتصاعدُ المخاوف من تسويات تمت، أو تجري حالياً تضرب مطالب العدالة في مقتل.

ومرد ذلك إلى عدة أسباب:

أولاً: هي طبيعة التغيير التي تمت، وأنتجت شراكةً بين قوى الثورة وعسكريين محسوبين على النظام السابق، ومتورطين في مجزرة فض "اعتصام القيادة"، التي حدثت بعد سقوط البشير في حزيران / يونيو 2019. وتساؤلات الشارع المتصاعدة تستند إلى مسألة واحدة، وهي أن إنفاذ العدالة لا يحتاج إلى ميزانيات صخمة، وبالتالي لا يُمكن انتظار تحققه كما يُنتظر إحداث اختراق في ملف الاقتصاد على سبيل المثال، وإنما تحتاج العدالة فقط إلى "جدية" الحكومة، وهذه ترتبط عند الشارع بالتغيير، وبملف المحاسبة والعدالة، وفي هذا لا تُقبل أي مبررات.

ثانياً: تتصاعد الأصوات المنادية بضرورة مصالحة شاملة، والإصرار المستمر على المصالحة دون الحديث الجاد عن ضرورة المحاسبة وتحقيق العدالة وجبر الضرر، يأتي وسط إطلاق سراح عدد من قيادات النظام السابق الوسيطة دون توضيح أسباب إطلاق سراحهم، أو حتى دواعي اعتقالهم في السابق.

وصل التحقيق في مجزرة فضّ اعتصام القيادة العامة، آخرَ مراحله، إذ بدأت في أواخر 2020 جلسات استجواب الأعضاء العسكريين في الحكومة الانتقالية، والذين كانوا أعضاء "المجلس العسكري الانتقالي" الذي أمر بفض الاعتصام.

ظلت النيابة العامة تتحدث على الدوام عن أن سير البلاغات يمضي كما يُراد له، ولم يشكُ من عراقيل، وكانت تعزي أسباب تأخر وصول البلاغات إلى ساحة المحاكم للإجراءات النيابية والعدلية المعلومة للجميع، قبل أن تتسرب شكوى النائب العام نفسه في اجتماع من تلكوء العسكريين في رفع حصانات منسوبيهم المتهمين في عدد من البلاغات. وتنظر النيابة العامة في عشرات البلاغات المتعلقة بضحايا "ثورة ديسمبر" علاوةً على البلاغات ضد النظام السابق. وتمثل قضية رفع الحصانات عائقاً رئيسياً يعطّل العدالة. والبلاغ الوحيد الذي أكمل دورته، وصولاً لصدور حكم إعدام قتلة المعلم أحمد الخير بشرق السودان، لا يزال ينتظر في مرحلة الاستئناف.

أما مجزرة فض اعتصام القيادة العامة، فقد وصل التحقيق فيها آخر مراحله، إذ بدأت في أواخر العام 2020 جلسات استجواب الأعضاء العسكريين في الحكومة الانتقالية، والذين كانوا أعضاء "المجلس العسكري الانتقالي"، الذي أمر بفض الاعتصام. وعلى الرغم من أن اللجنة يرأسها أبرز المحامين المعروفين بالمدافعة عن حقوق الإنسان، إلا أن ثقة الشارع في اللجنة بدأت تتراجع، ولدى أُسرِ الضحايا على نحو خاص، الذين لوّحوا مراراً بنقل الملف إلى إطار العدالة الدولية.

ظلت النيابة العامة تتحدث على الدوام عن أن سير البلاغات يمضي كما يُراد له، ولا يشكو من عراقيل، وتعزي أسباب تأخر وصول البلاغات إلى تمييع المحاكم للإجراءات النيابية والعدلية المعلومة للجميع، قبل أن تتسرب شكوى النائب العام نفسه في اجتماع من تلكوء العسكريين في رفع حصانات منسوبيهم المتهمين في عدد من البلاغات.

تظل قضية العدالة مطلباً رئيسياً كما الأكل والشرب، وينتظر كثير من اللاجئين والنازحين تحقيق العدالة، بل يضعونها شرطاً للعودة الطوعية إلى ديارهم.. ولا تزال قضية العدالة تشغل الحيز الأكبر في حراك ما بعد الثورة، وقد عادت شعارات العدالة لتسيطر مجدداً في مواكب إحياء الذكرى الثانية للثورة، قبل أيام في محاولة لتأكيد أن الشارع لن يهدأ قبل أن يرى العدالة تتحقق.

مقالات من السودان

للكاتب نفسه