تعد ثورة «25 يناير» من ناحية أو أخرى، صراعاً بين جموع الثوار وقيمهم وتصوراتهم للدولة والمجتمع، وبين الدولة والمجتمع القديميْن البالييْن. وكان قد فات الأوان على مبارك وجماعته لأن يديروا نزاع الثورة أو يحتووا مطالبها، بعد أن تباطأ بالاستجابة وزاد في الصلف والاستعلاء. وبعدها فشل المجلس العسكري، القرص الصلب في دولة العسكر منذ 1952، في التفاوض مع الحراك الثوري، فتورط في مزيد من الدماء، وعجز عن تسيير الأمور المعيشية والحياتية. ولأن احتمالات إدارة الثورة/النزاع أو حله تهافتت، فصار واضحاً لما تبقى من أبنية سلطة متماسكة، من مؤسسات الدولة القديمة، أن مواجهة الثورة أو التفاوض معها قد ولّى أوانه، ولم يعد من مجال سوى لتغيير مضاد في مضمون العلاقات والبنى والخطاب والبيئة.
حين ناقضت الأطراف الثورية نفسها
أظهرت ممارسات الإخوان، في كثير من جوانبها، أن سلطتهم لم تكن سوى الوجه الآخر لسلطة مبارك والمجلس العسكري، من حيث التعطش للهيمنة، والممارسات السلطوية القمعية، والرغبة في مصادرة المجال العام، والنزعة لضبط السلوك الفردي للمواطنين والإشراف على ما يعتنقونه من معتقدات وما يتبنونه من أفكار، والنص على الوصاية العسكرية على السلطة المدنية المنتخبة دستورياً وقانونياً... وحين تأزم المشهد السياسي والاجتماعي بسبب أداء سلطة الإخوان، وترددها، ومهادنتها لمراكز القوى في هياكل سلطة المجتمع القديم وبــِناه البيروقراطية والعسكرية والأمنية والقضائية، راحت الأطراف الثورية تناقض نفسها. فبعد أن كان مطلبها عزل النائب العام، بل محاسبته أيضاً، انجرفت الى موقع المعارضة الآلية لعزله من قبل الرئيس محمد مرسي. وتحول هتاف الثوار، المطالب بتطهير القضاء، إلى تمجيدٍ لنزاهة القضاء المصري وشموخه! في هذه الأثناء، اجتهد من حاول التحرر من الاستقطاب الأيديولوجي والهوياتي في إطلاق بعض المبادرات الفكرية والاجتماعية والسياسية التي تهدف إلى ما يمكن أن نسميه «تحويل النزاع» مع المجتمع القديم بما يضمن انتصار المضمون الثوري ومراد المجتمع الجنين.
حلم ينتهي بكابوس
كان الحلم يقضي بأن تتم استعادة الحشد الجماهيري السائل، المستعصي على استيعاب المؤسسات البالية والتنظيمات الهرمية، ليضغط على السلطة ويفرض إرادة الجماهير، جنباً إلى جنب مع بناء كيانات مدنية قوية أحزاب ومؤسسات تحمل قيم الثورة ومطالبها العليا، والانصراف إلى بناء كوادر شابة تنافس في الانتخابات البرلمانية والمحلية المقبلة، مع دعم انخراط الكفاءات الثورية في الإطار البيروقراطي للدولة العتيقة، على أن يكون هذا بالتوازي مع المعارك التشريعية الضامنة لحماية البيئة القانونية المحيطة بالنضالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وبالتوازي، صبّ بعض الفاعلين الثوريين اهتمامهم على التشبيك الأفقي المتجاوز للاختلافات المهنية والعمرية والجغرافية، وكان الرجاء أن تلتقي المكونات الاجتماعية المختلفة والمجتمعات المحلية المتنوعة في حوار متعدد الأشكال والفاعليات، يهدف إلى تقويم طريقة نظر كل طرف إلى مصالحه وفرصه وتهديداتها، لإعادة صياغة الأولويات الخاصة والعامة، ومحاولة ترتيب الأجندة.
وهكذا انطلقت الدعوات إلى موجة ثورية رابعة، للتمرد على سلطة الإخوان ممثلة برئيس الجمهورية، والمطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة، كرفض قاطع لنية الإسلاميين الاستمرار في الحكم وتطبيق مشروعهم. وكانت حركة «تمرد» في بدايتها، باستمارتها التي حازت ملايين التوقيعات، أداة من أدوات تحويل حفلات العنف الأسبوعي وحرق مقرات الإخوان عصر كل جمعة، إلى وسيلة احتجاج سلمي وحشد متصاعد تدريجياً ضد سلطة الإخوان وسلطويتهم. لكن آلياتٍ جبارة كانت تسعى لما هو أعمق من تحويل العنف الظاهر إلى سلم سياسي. فقد سُحب البساط من تحت أقدام ثورة يناير التي اندلعت في يوم عيد الشرطة احتجاجاً على القمع والتنكيل والمهانة، واندلعت الموجة الثانية منها مطالبة بإسقاط حكم العسكر، وإذا بهتاف «جيش وشرطة وشعب إيد واحدة» يعلو في سماء مصر في 30 حزيران/يونيو وما تلاه، بعد أن كان الهتاف الثوري هو «الداخلية بلطجية» و«يسقط حكم العسكر». وإذا بضباط الشرطة يُحمَلون على الأكتاف وتعزف فرقة الشرطة الموسيقية ألحانها على منصة ميدان التحرير في الذكرى الحادية والستين لانقلاب يوليو/تموز 1952. الركون إلى التفسيرات التآمرية الاختزالية سيئ، لكن استبعادها بالكلية اختزال مضاد. فإذا كان هتاف «الجيش والشعب إيد واحدة» قد انطلق من «الشؤون المعنوية للقوات المسلحة»، وهتف به فوق الدبابات مع بداية حظر التجوال في الثامن والعشرين من كانون الثاني/يناير 2011، فلا يمكن استبعاد علاقة صناعة هتافات تذيب الفوارق بين المجتمع الجنين ودولة المجتمع القديم عن الأجهزة الاستخبارية.
كيف يتم التحوير/التحويل
وبتجاوز مشهد الحشود والتباساته، نجد أن خطاب العدالة الاجتماعية والحرية يكاد يختفي، بل يُهاجَم من رفعوه ابتداء، وسط صرخات الحرب على الإرهاب. وبعد أن تجاهلت «ثورة 25 يناير» كافة الأطراف الخارجية، فلم تكترث بها ولم تهتف ضدها، نرى الآن إقحاماً لأطراف خارجية في المشهد الداخلي بادّعاءات واتهامات بالتآمر والضلوع بأدوار أكبر بكثير مما يمكن لهذه الأطراف أن تقوم به. أما ثورة الجماهير الغفيرة التي لم يكن لها قائد ولا زعيم، فبدأت تتوارى أمام صور وزير الدفاع الذي يجري «تزعيمه». والخطاب الرسمي بدأ يتجاهل ثورة 25 يناير، مثنياً على ثورة 30 يونيو، بالتوازي مع تخوين ثوار يناير، وتكفيرهم وطنياً بشكل غير رسمي، بل تصوير «أحداث يناير» كمؤامرة إخوانية للقفز على الحكم.
كان عدو الثورة الأول هو القمع والسلطوية، فإذا به يتحول إلى الإخوان وتيار الإسلام السياسي ودوائر المتعاطفين معهم أو المشابهين لهم في الهيئة الخارجية والملبس. وكان محرك الثورة هو الكرامة والإصرار على القصاص، فصار الخوف من «الإرهاب المحتمل»، وفق تعبير وزير الدفاع في خطاب التفويض الشهير. كانت الشرطة التي لم يدركها التطهير ولا الإصلاح، غريمَ الثورة الأول، فإذا بالرئيس الإخواني المعزول يجعلها «في قلب الثورة»، وفق تعبيره، و«يحتضنها الشعب» في ثورة 30 يونيو، وفق تعبير وزير الداخلية. وقد ضاعت كثير من مكتسبات ثورة يناير وحقوق ثوارها بسبب الحرص على المسار القانوني بكل عقمه وإشكالياته الهيكلية والإجرائية، وزهد الثوار بالمحاكمات الثورية والاستثنائية حرصاً على بعض التوازنات الخارجية. ثم إذا بالزعيم العسكري يطلب من الجماهير أمراً ليس له أي توصيف قانوني، أسماه «تفويضاً»، لمواجهة شيء بلا تعريف، أسماه «الإرهاب المحتمل».
غايات انقلاب 3 تموز/يوليو
يقول الإخوان ومناصروهم إن ما حدث هو انقلاب عسكري على حكم الرئيس المدني المنتخب. لكنه احتواء للموجة الثورية الرابعة التي انطلقت في 30 حزيران/ يونيو2013، والقفز عليها بانقلاب عسكري في 3 تموز/ يوليو. فالأكيد أن الجماهير التي استجابت لدعوة حركة «تمرد» ووقعت على استمارتها/وثيقتها بالملايين لم يكن في نص ما احتشدت من أجله العزل الفوري لمحمد مرسي، ولا احتجازه بشكل غير قانوني في مكان سري، ولا تعطيل الدستور المستفتى عليه شعبياً، ولا حل مجلس الشورى، ولا إغلاق القنوات والصحف المحسوبة على التيار الإسلامي. المطلب الذي انتفضت الجماهير من أجله في 30 حزيران/يونيو قد تم إلقاؤه في ذيل خريطة الطريق التي فرضها القائد العام للقوات المسلحة، من دون وجود أفق لتغيير الخريطة المدعومة بشرعية الطائرات المقاتلة، تلك التي ترسم القلوب فوق رؤوس مؤيدي العسكر وتنثر المنشورات التحذيرية فوق رؤوس مؤيدي عودة المعزول، قبل أن تشارك شقيقاتها المروحية في قتل المعتصمين والمتظاهرين. وهكذا يتضح أن مشكلة المشهد السياسي هي أعمق مما يبدو. فإعادة كتابة الدستور من قبل لجنة غير ممثلة للشعب، على سبيل المثال، يهدف لخلق بنية تشريعية وقانونية جديدة/قديمة تحكم وتؤكد تحويل مسار «ثورة 25 يناير» جذرياً إلى ما يمكن أن يكون امتداداً لما قبل هذا التاريخ. ولكن عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء، وقد ينتقل مبارك بضعة عشر كيلومتراً من مستشفى سجن طرة إلى اقامة جبرية أو خلافه، لكن عمر سليمان لن يعود من الدار الآخرة، ومجلس طنطاوي العسكري لن يعود للحكم، وعلاقة الشرطة بالشعب لن تعود كما كانت... على أنها قد تكون أسوأ. فهناك علامات على صفقة ضمنية تجسد التواطؤ بين الشرطة وبعض الفئات الشعبية من البلطجية، الأكثر قدرة جسدية على الاشتباك وتكوين شبكات سلطة جديدة.
التحدي الآن ليس في منع الماضي من القفز إلى المستقبل، لأن ذلك لن يحدث، بل هو في منع تحويل ثورة يناير وحلمها بالعيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية إلى ماضٍ راحل. وكي تعود ثورة يناير إلى مجراها، فيحتاج الامر الى احتشاد إرادة جمعية قاهرة... قد تكون فرصتها في التحقق بيد ممارسات تحالف «3 يوليو» الحاكم وسلطويته.