خلصت هذه الابحاث التي ستصدر قريباً في ثلاث كتب باللغات العربية والانجليزية والفرنسية، كما ستُنشر الكترونياً على موقع "السفير العربي"، الى أن الفساد ليس عرَضاً يمكن معالجته بذاته وبتدابير تخصه، بل هو موظّف لتمكين الحاكم /الحكام، ولاستدامة سلطتهم وهيمنتهم. وهو قد يكون أشد فعالية من القمع، متنوع الاشكال، الذي ينهال على المجتمع، ومن الاخضاع بالتدجين، وبتيئيس الناس من التغيير، كما بافقارهم. يتغلغل الفساد في كل مكان ويُشرِك معه بدرجات متفاوتة عدد واسع من الناس، أو يقودهم الى التواطؤ معه، أو على الاقل الى القبول به لتيسير حياتهم. كما توجد شرائح اجتماعية تستفيد منه بشكل خاص لأنها مستمالة الى السلطات القائمة بفضل اعتبارات ايديولوجية أحياناً، أو لانتماءات قبلية أو مذهبية.
تناولت ابحاث – كثيرة - مسألة الفساد باعتبارها مؤشراً على الحكم غير الرشيد، وعلى انعدام الشفافية، وكإخفاق في نظم المراقبة والمحاسبة، أو كضعف في سلطة القانون. وقد شاع تأطير مسألة الفساد داخل الخطوط النظرية والمعايير الدولية التي رسمتها منظمات مثل البنك وصندوق النقد الدوليان، أو منظمة "الشفافية العالمية" الخ.. التي ركزت على المحسوبية والسرقة وملء جيوب المتنفذين، أو اقترحت اجراءات لحماية المبلّغين عن الفساد، وتحسين القدرة على الوصول للمعلومات، وإفساح المجال للمجتمع المدني، وإرساء المحاسبة المجتمعية... وقدم ذلك كله قاعدة بيانات كبيرة ومفيدة.
لكن ذلك لوحده قاصر، لأنه لا يلتقط دينامية الفساد ووظيفته. فلا بد أن لكل تلك المظاهر صلة فيما بينها، ما يعطيها معنىً، ويجعلها "نُظْمة". سعت هذه الابحاث لتفحص هذه الفرضية وكذلك لتعيين الظروف التي تجعل الفساد مزدهراً. وهناك بالطبع علاقة طردية بين استشراء الفساد وانهيار مشروع التحرر الوطني – أو هزيمته – والذي لا يمكن اعتبار منجَز التخلص من الاستعمار القديم تحققاً مكتملاً له. وقد ترافق هذا النكوص مع الخصخصات الواسعة، التي كانت باباً جديداً للفساد.
وكذلك يلاحَظ تواري آليات اتخاذ القرار الحقيقية خلف الإخراج الشكلي للقرارات، في ما نراه مجالس وزراء أو برلمانات. أو اللجوء الى المراسيم. وهي التغطيات القانونية للممارسات الفاسدة.
يقول دحو جربال (1) في ورقته عن الجزائر المعنونة "الفساد كمنظومة سلطة"، أن الفساد لا يعتبر مؤسساتياً عندما يكون معمّماً فحسب، وإنما حين يكون منظماً على أساس شبكات زبائنَ اجتماعية واقتصادية مُثبّتة في أجهزة الدولة، تعمل على نشره في المجتمع من خلال أوساط تناوبٍ متفاوتة. وأنه ظهر بقوة حيث عمدت الدولة إلى احتكار الاقتصاد، سواء في النموذج الرأسمالي أو الاشتراكي.
وهو منظومة ريع بدت كنظام ضبط سياسي واقتصادي، حيث تخضع ضمنه علاقات الدولة بمؤسساتها، والشركات بشركائها، والمجتمع المدني بمنظماته، عن طيب خاطر أو بالقوة، إلى منطق تحكم ريعي يحدد حصص جميع الموارد الوطنية (البشرية، الطبيعية، المالية، التقنية والتنظيمية)، وطرق تنميتها وتوزيع الدخل الناتج عنها. وقد أصبح الفساد مرحلة "ضرورية" للحصول على العديد من الخدمات العمومية.
الفساد في سوريا بنية أم "ظاهرة"؟
29-11-2018
وأما المراسيم فقد وضعت لتجنب مناقشة الخيارات الرئيسية من قبل المجالس المنتخبة والسلطات المفوضة ديمقراطياً. وهي أدوات مبتكرة لضمان توسيع رقعة منظومة الكسب الجديد، وللسماح للسلطة التنفيذية بالانفراد لوحدها بتقييم القضايا الاقتصادية، ولإيجاد آليات تحكيم بين المصالح المتناقضة بهدف إنتاج ريوع أكثر وتنظيم حصص توزيعها. ويعتبر جربال أن هناك علاقة بين الفساد والديمقراطية. فظهور "ممارسات براغماتية" للسلطة يستند الى نظام المبالغ المقطوعة، وتوزيع الهبات، وتقسيم الفضاءات والأمكنة، والجهات الفاعلة فيما يتعلق بإدراك ما هو قانوني وما هو غير قانوني، ما هو أخلاقي أو غير أخلاقي، وما هو شرعي أو غير شرعي...
وهو يقدم أمثلة عديدة من واقع الجزائر على مقاربته تلك، فيحلل "الفضائح" التي انكشفت، ومنطق المحاكمات التي احاطت بها ثم الاحكام الصادرة بحق ابطالها.
ويتساءل رشيد سيدي بومدين (2) ، في تقصيه للفساد في الجزائر، عما يُعتبر فساداً، ملاحِظاً أن هناك تفرقة ثقافية بين الفساد و"الرشوة" المعروفة عامة باسم "التشيبا" أو "القهوة"، وهي مبالغ من المال يدفعها المواطن العادي للحصول على الخدمات (البسيطة أحياناً) أو أي حاجات أخرى، على الرغم من أن القانون يخول له ذلك.
وتظهر خاصية النظام الزبائني في السماح بغزارة للتراخيص بالتجاوز، بدءاً من أعلى مراتب هرم السلطة، ما يضع في الوقت نفسه الفئات الدنيا تحت رحمة الدوائر الحاكمة التي يمكنها أن تنزل بها العقوبات بقدر ما يلزم، بحجة مخالفة القانون المكتوب.
وقد لاحظ بومدين كبف أن شبكات الريع تعمل "داخلياً" كأنها في علاقة أسرية (الأسرة، القرية، مجتمع الانتماء). وتُكَوِّن أنساق تبادل التبرعات والهدايا المعهودة، والمتميزة بطابعها الإلزامي وقوّة وقعها، منظومة من الحقوق والواجبات محبَّذة من قبل المجتمع. تُقوي هذه القاعدة تماسك النظام الزبائني من خلال إنشاء التزامات متبادلة بين أعضائه، والحفاظ عليها وعلى ديمومتها. وهو يعتبر أن النظام في الجزائر صار "نيو باتريمونالياً"، (ينتمي الى الدولة الغنائمية المعاصرة).
ومنظومة النهب والفساد هذه تستمد ديمومتها من قبول المجتمع لها، حيث هي لا تُعتبر - جزئيًا على الأقل - سرقة على حساب الجماعة.
هكذا يصبح المخطط الأيديولوجي - الذي يجعل من النهب فعلاً مشروعاً، لأنه موجه في نهاية الأمر ضد دولة مجهولة، غير محددة، ويكرهها الناس منذ فترة طويلة - منفذاً لنموذج اجتماعي جديد. ويعطي مثالاً على ذلك العمليات الدورية لتوزيع مساعدات "للمعوزين"، أو تلك التي تخص تسليم مساكن على أساس قوائم تكون محل اعتراض دائم، لأن الجميع يعتبرها موضوعة وفق شروط غامضة. ولكن هذه العمليات تساهم في انغماس المستفيدين في وحل هذا القبول لنظام ظالم بشكل واضح، ولكنه مفيد لمن يعرف كيف يحافظ على علاقات جيدة مع وكلاء الشبكات، حتى يضمن وجوده على تلك القوائم.
وأما بخصوص العراق، فيعتبر الباحثان محسن أحمد علي (3) وعبد الرحمن المشهداني (4) ، اللذان عملا على نصٍ موحد راجعه ودققه الكاتب عمر الجفال (5) ، أن احتلال القوات الأمريكية للبلاد في عام 2003، وإسقاط النظام السياسي، ثم تفكيك معظم مفاصل الدولة العراقية، ومن ثم إعادة تشكيلها وفق رؤية الاحتلال الامريكي وإدارة "الحاكم الأمريكي المدني للعراق"، بول بريمر، كل ذلك أدى إلى تحوّل الفساد من ظاهرة يُمكن محاربتها والسيطرة عليها، إلى نظام محمي بقوانين وتشريعات، أو ممارسة يوميّة محميّة بقوّة السلاح والإعلام والمنابر والفتاوى الدينية.
وأن تدمير القطاع العام جعَل الوظائف مضمونة الدخل محتكرة لدى السلطة وأحزابها. وهي تُستعمل كورقة لشراء أصوات الناس في الانتخابات البرلمانية، فتعِدُ الأحزاب مناصريها والعشائر بالوظائف مقابل التصويت لها في الانتخابات. وقد بلغ عدد العاملين في الوظائف الحكومية أكثر من 4.5 مليون شخص بعد أن كان 880 ألف موظف في عام 2003. ويقول الباحثان أن تنامي الفساد وتحوله إلى ظاهرة اجتماعية "مقبولة" بعد عام 2003 ترافق مع تحوّل النظام السياسي نحو اقتصاد سوق تقوده أحزاب سياسية جاءت مع المحتل و/ أو ظهرت بعد عام 2003. وهي أحزاب ترتكز أجنداتها على أسس طائفيّة وعرقيّة. وأقرّت هذه الأحزاب نظماً وقوانين لصالحها كقوانين "الخدمة الجهادية" للأشخاص الذين أسسوا تنظيمات مسلّحة ضد نظام صدّام حسين، و"السجناء السياسيين". ولذا فلسنا بصدد نوع من أنواع الفساد فحسب، يحدث من خلال الرشوة، ضمن الأنشطة غير القانونية، بل أمام صور للفساد المحمي بإطار قانوني يتضمن نطاقاً أوسع من الأنشطة الاقتصادية المختلفة، ما جعل ثروات البلاد نهباً لذوي النفوذ والسيطرة داخل العراق وخارجه. وقد سجلت المخالفات المالية أرقاماً غير مسبوقة، وبلغت قيمة الهدر المالي ما بين 2003-2018 مبلغاً يزيد عن 350 مليار دولار. ويؤكد الباحثان أن هناك علاقة وثيقة بين استشراء الفساد وتفاقمه، وبين العوامل الخارجية المحرِّضة عليه والداعمة له، إذ ترتبط العديد من حالات الفساد بتحقيق أهداف استراتيجية لدول أخرى.
ويتناول النص مظاهر الفساد في العراق وقطاعاته، وكذلك الأدوات التي تستخدمها السلطة لتأمين استمرارها في حكم البلاد، وتلك التي توظفها لمحاولة ارضاء المجتمع.
تواجه الابحاث في موضوعة الفساد خصوصاً صعوبات مختلفة، بعضها معرقلٌ فعلاً، منها عدم وجود معطيات منشورة، وعدم السماح بالوصول الى الوثائق، وعدم التوثيق أصلاً، والارتياب بمن يبحث، والأذى الذي يمكن أن يلحق به حتى قبل أن ينشر بحثه. هذا علاوة على صعوبات تتعلق بالباحثين أنفسهم، من الاعتياد على منهج هو الشائع، ومحاكاته، الى ضعف وجود المؤسسات التي تحيط بالباحثين وتسندهم، أو انعدامها، الى التنافس على القليل المتوفر، الى تراجع المستوى الثقافي والمعرفي بشكل عام الخ..
وفي خلاصة الأمر، ينتمي هذا الجهد الى هاجس لم يستوفِ بعد حقه من البحث والمحاولة، سؤاله هو: كيف تحكم السلطات القائمة في بلداننا؟
1- استاذ التاريخ المعاصر في جامعة الجزائر 2 في العاصمة الجزائر.
2- عالم اجتماع من الجزائر
3- بروفيسور في الاقتصاد السياسي من جامعة البصرة في العراق
4- استاذ في "الجامعة العراقية"
5- كاتب وباحث من العراق