"بطل واحد هو الشعب!"، ردد الجزائريون في انتفاضتهم عام 2019، حين نزلوا إلى الشوارع لتتدفق أجسامهم كأنها كيان واحد ينساب إلى الساحات فيملأ الأماكن. فهل جمعت الانتفاضة شتات الجسد / البطل الواحد؟ يبدو السؤال المعاصر إحالة إلى انتفاضة أعتق، كانت منعطفاً أساساً في تاريخ البلاد، كما كانت أول زمان إطلاق الشعار الذي عاد ليرتدد بعد أكثر من 59 عاماً في الشوارع الجزائرية: "بطل واحد هو الشعب".
يتخذ الفيلم الوثائقي* لعالِم الاجتماع الفرنسي، ماتيو ريغوست، من هذا الشعار عنواناً (بالفرنسية: Un Seul Héros le Peuple). ويبدو أنه وجد في لحظة 2019 مناسبة لاستعادة مظاهرات العام 1960، اللحظة الثورية التي حوّلت الشعب الجزائري إلى قوة سياسية فاعلة بحقّ... ففي الحادي عشر من كانون الأول / ديسمبر 1960، وبعد 130 عاماً من الاستعمار، قام الشعب الجزائري بكسر شوكة القمع العسكري الفرنسي والدخول إلى "المناطق المحرّمة" عليهم في المدن الجزائرية الكبرى. في الخطوط الأمامية، ارتصفت النساء والشيوخ والأطفال في مظاهرات ممتدة من آلافٍ مؤلّفة من الجزائريين الذين استعادوا الشوارع ونظّموا مقاصف شعبية لتوزيع الطعام وأنشأوا مشافٍ ميدانية. والانتفاضة التي بدأها الشعب ضد سياسة شارل ديغول ومن أجل تقرير مصير الشعب الجزائري واستقلاله واستعادة سيادته، كانت تحركات بدأها الشعب عفوياً، ثمّ التحقت به جبهة التحرير الوطنية باندفاعٍ، تنظيمياً.
يستعيد ريغوست في فيلمه ما يسميه "قصة انتصارٍ شعبي منسي"، لا يعرف عنه الفرنسيون الكثير نتيجة "قوانين العفو" التي منحتها فرنسا لنفسها لتجاوز ذاكرة جرائمها (استشهد أكثر من 250 جزائرياً خلال ثلاثة أسابيع في تظاهرات 1960)، كما أن الجيل الشاب في الجزائر يعرف عن القصة نتفاً يحفظها في المقررات المدرسية، وذلك إلى حين اندلاع التظاهرات الأخيرة التي عاد معها التئام الساحات وشعارات المقاومة. وبحسب ريغوست، فإن الاستماع إلى حكايات من أولئك الذين شهدوا الأحداث الفعلية وعايشوها يكتسب أهمية بالغة، لأنه يعيد حكاية التاريخ من وجهة نظر المعنيين المباشرين.
فيديو ترويجي لشريط "بطل واحد هو الشعب".
رواةُ الحكاية في الفيلم، امرأة كانت قد اكتشفت في طفولتها أن أمها التي كانت تعمل خياطة، كانت تحيك سرّاً الأعلام الجزائرية الممنوعة في ظلّ الاستعمار، ورجلٌ يستذكر موت والده بعد تعذيبه لمدة 40 يوماً على يد الجيش الفرنسي، قبل أن يقولوا أنّه مات "انتحاراً".. وآخرون يسترجعون ذهول الجنود الفرنسيين لمرأى النساء الجزائريات المزغردات يدفعن بأجسادهن للأمام، يذرعن الشوارع متخطياتٍ الحواجز العسكرية المدشّمة...
في الحادي عشر من كانون الأول / ديسمبر 1960، وبعد 130 عاماً من الاستعمار، قام الشعب الجزائري بكسر شوكة القمع العسكري الفرنسي والدخول إلى "المناطق المحرّمة" عليهم في المدن الجزائرية الكبرى.
في الفيلم الترويجي القصير المتاح على الانترنت، يبدو واضحاً اهتمام ريغوست بالجسد، وتلاحم الأجساد في الاحتجاج المشترك، حركتها في الشارع، تنسيقها العفوي، أو حتى "رقصها" سوياً. بين شهادة وأخرى، نرى راقصين شباب معاصرين يعبّرون بحركة أجسامهم في الشوارع، لكن الحركة الأكثر إذهالاً نراها في المشاهد الأرشيفية لتظاهرات 1960 الحاشدة وحركة ناسها، حتى في "رقصة" اشتباكهم مع العساكر الفرنسيين. هذا بالإضافة إلى إجراء عدد من المقابلات أثناء التحرك الحالي في الشوارع نفسها التي حوت تلك الأحداث التاريخية، لتتخذ، تلك الشوارع الأليفة بعداً آخر، فتصير طوبوغرافيا مسرحيّة تُعرَض عليها فصول النضال الشعبي من أجل حقّ تقرير المصير.
*الفيلم جزء من مشروع متعدد يتضمن أيضا كتاباً وإنشاءً لموقع الكتروني.