وسط توهج الصراعات، فرانز فانون المتقد راهنية..

بعد سنوات من البحث في الأرشيف وجمع الصور والشهادات والتصوير، نجح حسن مزين في اخراج فيلم غني بالمعلومات وعميق وحساس في آن واحد.
2018-10-13

مروان أندلسي

صحافي جزائري مقيم في كندا


شارك
| fr

الوثائقي "فانون، البارحة واليوم" الذي أخرجه حسن مزين هو مساهمة محفِزة في الإحياء السينمائي لمحارب كبير ناضل من أجل حرية الشعوب. مجاهد بالفكر المُمارَس، تجاهله المنظرون الايديولوجيون الدغمائيون بشكل كبير، ولم يتوقف صناع الدعاية اليمينية عن شيطنته. فرانز فانون أحد رموز النضالات المناهضة للاستعمار، الرجل نفسه الذي تتحاشاه الجامعات النيوكولونيالية إما بالصمت اللاذع أو التحنيط الماكر، يعاود الظهور في هذا الفيلم بكامل وجاهة مواقفه السياسية، بكل استعجاليته. ابن المارتينيك والجزائري، الأممي فانون يعود بيننا كما في الأحلام لكي يذكِّر بأن الاغتراب هو أداة الهيمنة الأكثر خطورة وأن الهيمنة الاستعمارية سيرورة إجرامية وان الكرامة لا يمكن فصلها عن الحرية.

حسن مزين الذي عمل إلى جانب روني فوتيي بنى عمله بصبر، لمسة بعد لمسة، لكي يقدم مساراً يبهر بحدة حيويته الفكرية والطبيعة الجامحة لالتزامه السياسي. بعد سنوات من البحث في الأرشيف وجمع الصور والشهادات والتصوير، نجح حسن مزين في اخراج فيلم غني بالمعلومات وعميق وحساس في آن واحد.

الوثائقي، وهو أبعد من أن يكون مجرد تمرين في البيداغوجيا السياسية، مقسم إلى جزئين ويمازج بين نفَسين: التاريخ والزمن الحاضر. يسلط الجزء الأول الضوء على الالتزامات السياسية الأولى والمسار المتفرد لتلميذ شاب من جزر الأنتيل الفرنسية: التحاقه بالمقاومة ضد النازية ضمن القوات الفرنسية الحرة. لكن حماسة فانون خبت بعدما أدرك سريعاً حقيقة العنصرية حتى في داخل جيش "التحرير" هذا. في رسالة موجهة لوالديه، يعترف فانون دون أدنى لبس بأنه انساق إلى معركة ليست معركته. هذه التجربة المؤلمة كانت على الأرجح واحدة من العناصر المؤسِّسة لفكره المستقبلي. الفكر الذي سيظهر بكل عنفوانه وجرأته في "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء"، العمل الذي سيدشن كتاباته حول صدمات العنصرية.

ثم تأتي تجربة التزامه، المعروفة أكثر، في جبهة التحرير الوطني الجزائرية. تمت إعادة تشكيل هذا الجزء من حياته القصيرة (توفي في 1961 في سن السادسة والثلاثين) عبر شهادات لشخصيات جزائرية وفرنسية وافريقية التقته أو كانت على علاقة دائمة به. شهادات حية ومؤثرة تظهر أبعاداً من شخصية فرانز فانون، صرامته المتناهية وحبه للحياة، تعلقه الثابت بالقضية الجزائرية وانتمائه الافريقي.

يمكننا مثلاً أن نشاهد، من بين إسهامات أخرى، الشهادات الرصينة والقوية التي قدمها الجزائري عبد الحميد مهري والنيجيري عثمان دان غالاديما وليليان كستلوت (أكاديمية قليلة الظهور لكنها تحظى بالتقدير في مجالها) التي التقت فانون في روما سنة 1959 في مرحلة حاسمة من حياته النضالية. وبالطبع هناك شهادة ماري جان مانويلان صاحبة الشخصية الأخّاذة - هي ذاتها صاحبة كتاب "بإملاء من فانون" - التي عملت إلى جوار الطبيب النفساني خلال إقامته بمدينة تونس ورقنت جزء من كتاباته ومن بينها العمل الخالد "المعذبون في الأرض".

"نحن لا شيء على الأرض ما لم نكن أولاً عبيدا لقضية، قضية الشعوب وقضية العدالة والحرية" مقتطف من رسالة بعثها فرانز فانون إلى روجيه طيب (1961).

خصص الجزء الثاني من الوثائقي للنضالات المعاصرة التي تقودها نساء ورجال في عدة بلدان. يفتتح رافائيل كونفيان دورة من النظرات النضالية على المقاومات وتأثير فانون على التعبئة السياسية في منطقة الكاريبي وعبر العالم. وهكذا يجعلنا حسن مزين نسافر فوق خطوط الاضطهاد في عالم مجزأ. من مغني الراب الذي يحارب من أجل المهاجرين الذين لا يحملون وثائق إقامة، وضد العنف البوليسي في البرتغال، إلى المناضلين الجنوب افريقيين المناهضين للاستعمار، مروراً بالجزائر والنيجر (حيث يقبع أحد المتدخلين في السجن حاليا)، الى فرنسا، ليختتم الرحلة بفلسطين كما يملي ذلك المنطق السياسي. هناك، تسلط الطبيبة النفسانية الفلسطينية سماح جبر الضوء الفانوني (نسبة لفانون) على المعركة الكبرى ضد الاستعمار في شكله الأكثر اجراماً، ما بين الاستلاب والفصل العنصري.

مع تقدم السرد وتتالي الإضاءات الحميمية أحياناً، كتلك التي يقدمها مثلا ابنه أوليفيه والحديث الحساس عن زوجته جوزي، يظهر فرانز فانون أكثر قرباً بحساسيته وشجاعته الفائقة. هذا الجزء من الفيلم سيظهِر للجمهور أن فكر من كان إيمه سيزار يسميه "المحارب - الصّوان" ما زال حيا وما زال يلهم مناضلين يأتون من آفاق مختلفة، رجالاً ونساء يرفضون الظلم في كامل أرجاء المعمورة. بعيداً عن صورة حامل لواء العنف الصرف كما يتخيله البعض، فإن فانون إنسانوي بشكل مطلق، متضامن مع كل القضايا العادلة. يبقى فانون محرِّراً، بعيدا كل البعد عن الفكر الواحد والهويات المغلقة.

وهكذا نجح المخرج بفضل شريطه في اخراج فرانز فانون من متحف الاحتفالات التذكارية الجوفاء ليعيده إلى الرجال والنساء التواقين للتحرر. "فانون، البارحة واليوم" هو فيلم مقاومة وأمل موجه إلى جمهور عريض يبدأ من هواة الأفلام الوثائقية والسياسية وصولاً إلى الباحثين والطلبة. لكنه ليس فيلماً بيوغرافياً آخراً مخصصاً لوجه بارز في نضالات شعوب العالم الثالث. استطاع حسن مزين أن يلتقط بذكاء وأن يعيد - بقوة - تشكيل روح المحارب الصّوان الوحدوية التحررية، وهذا ما يمنح متعة أكبر للمشاهدين.

عرض فيلم "فانون، البارحة واليوم" في "ملتقى بجاية للسينما"، في الجزائر بداية شهر أيلول / سبتمبر. كما تم عرضه في عدة قاعات سينما في فرنسا وبلجيكا ومدريد. سيواصل الفيلم طريقه قريباً في لندن والمارتينيك والغوادلوب والمكسيك..

فانون، البارحة واليوم، 86 دقيقة، انتاج 2018، من اخراج حسن مزين.
اعلان الفيلم: https://vimeo.com/262526390

مقالات من الجزائر

الذهب الأزرق في الجزائر

يميز الجغرافيا الجزائرية التباين البالغ من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، حيث يتركز تدفق الأمطار في الحافة الشمالية الضيقة للبلاد بينما يكون في المناطق الداخلية ضعيفاً إلى شبه...

للكاتب نفسه

هل تعرفون رينيه فوتييه؟ السينمائي الفرنسي الذي قاتل لتحرير الجزائر

توفي في الخامس من شهر كانون الثاني/يناير  السينمائي والمناضل الفرنسي رونيه فوتييه.  الرجل الذي حورب بل سجن في حياته وتعرّض للرقابة والمنع، انتزع الاعتراف بقيمته مع وفاته، فاذ بالصحف الفرنسية تتسابق...

العمامة وكرة القدم والفساد

مرة جديدة، تهتزّ ولاية كيبيك الكندية بسجال حول الملابس الدينية. سجال حرّكته قصة شاب من الهنود السيخ، يلعب كرة القدم في أحد النوادي الرياضية. وشاءت الصدفة أنّ الفتى يرتدي العمامة...

مصائر مهاجرين عرب في كندا

كان أيمن خبيراً في المعلوماتية، أما اليوم فأصبح وكيل عقارات. كان علي مصمِّماً هندسياً، لكنه اليوم يعمل في غسيل السيارات. كان جمال يدرّس الرياضيات، إلا أنه يعمل حالياً في مركز...