مسلسل لبنان: 1- علاقة شعبان برمضان

قد يجد عموم الناس أن لا علاقة بين المنظومة القيمية والنفسية السائدة، أو ما يقال له بأدب "ثقافة تدوير الزوايا"، وبين ما حلّ بنا. ولكننا لم نكن لنؤخذ "رهائن" لأمريكا وإيران، لولا أننا تمادينا في "التطنيش" عن كل ممارسات المتنفذين، بل في اعتبارها طبيعية بحكم أن "الواقع هكذا"، وفي التواطؤ معها!
2020-07-16

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
"الرجل الغاضب"، ضياء العزاوي - العراق

لأن لبنان بلد التسويات، تأسيساً وتعريفاً، ولأنه هناك دوماً حلٌ يأتي في نهاية المطاف (أو في منتصفه أحياناً، ومن الخارج، وهذه خاصية مهمة)، حتى ولو كان أعوجاً، ترقيعياً أو ظالماً، حتى لو كان مؤقتاً.. لذا يجد اللبنانيون صعوبة في فهم هذا الذي يجري لهم. يبدون منتظرين شيئاً ما، "علامة"، فيؤولون رقصة أسعار الدولار غير المفهومة مثلاً باعتبارها ألغازاً، رسائل "مورس" سرية ينبغي على الشطّار فك شيفرتها. واللبنانيون "شطار" كما هو معروف، وهي قناعة من فرط رسوخها، وما يبدو من بديهيتها، تصبح ساذجة. فتنتشر روايات مدهشة. وبما أنها لا تطابق الواقع ولا تفسره، يجري اللجوء إلى الفرضية الأسهل: نحن رهائن صراع أمريكي-إيراني، وهو ككل صراع سينتهي بشكل ما، فلا بأس من الانتظار، أو لا بأس من الانخراط فيه لتعجيل النهاية، التي يراها - أو يتمناها - كلٌ بحسب أهوائه.

تعفي هذه الفرضية البلد وأهله من أي مسؤولية عن الحال البائس الذي وصلوا اليه، والذي يصبح نتاج قوة قهرية لا يدَ لهم فيها. ولكنك لو سألت عما أتاح جعلنا رهائن، لحدث ارتباك خفيف، ينتهي غالباً بـ"ما علينا" تجاوزاً للرد وللتفكير.. تعود إلى السؤال: لماذا حدث هدرٌ "مرح" للميزانيات المتتالية ولم يأبه أحد. لماذا افترضنا أن القروض المهولة، والديون المتراكمة هي هدايا تكافئ عبقريتنا، ولم نسأل عن يوم السداد. لماذا ظنّ اللبنانيون أن البنوك تعرض عليهم فوائد على ودائعهم مرتفعة إلى حد لا مثيل له في العالم، هكذا مجاناً أو تواطؤاً معهم، ولم يقلقوا لمعرفة بنود التواطؤ. لماذا سرق المتنفذون بعلنية صادمة، مرفقة بتبريرات من "حواضر البيت" – من مثل أن كل واحد من السرّاق يعتد ب"حقوق بيئته" التي تنتهي بأن تتلخص بشخصه الكريم. كيف اعتبر الجميع أن نهب زعمائهم للمال العام هو تفصيل طريف، يستدعي الإعجاب بشطارة الناهِب وحسن تدبره لأحواله، وربما التندّر أحياناً، أو السخرية في أشد الأحوال، ولكن من دون أن تترتب على ذلك قناعات ولا نتائج... وأما ثقلاء الظل من المثقفين (بعض) أو المناضلين النقديين، فهم قلة أصلاً، وهم مضجِرون بالتأكيد، وبكل الأحوال فهم لا يؤخَذون على محمل الجد، لأن "الأمور هكذا"، وكأنها قدرٌ هي الأخرى.

تغلب المحاباة على الأخلاق العامة في لبنان. ما يقال له بأدب "ثقافة تدوير الزوايا" هي السائدة (باعتزاز بها) على مستوى منظومة القيم، وبما يخص التركيب النفسي لأهل البلاد. أي نوع من الصراحة، أو من المواجهة ولو بموقف، يعتبر جلافة تثير الاستنكار. شهدتُ مرةً قصة: سيدات من قريباتي ذهبن لتهنئة صديقة لهن ببيتها الجديد. من أصبحتْ زوجة وزير (بعدما حدث "تجديد" في "النخب" بعد الحرب الأهلية واتفاق الطائف) قالت لهن وكأنها تبرر المال المدفوع - باعتبار زوجها ليس من الأثرياء، أو من أبناء كبار الوجهاء - أن الشقة الفارهة وباهظة الثمن مشتراةٌ بقرض من "مصرف الإسكان" باسم أحد أبنائها. لم يخطر ببال أي منهن لومها، أو الشرح لها أن مصرف الإسكان ليس مخصصاً لإقراض أمثالها، بل هو لأصحاب الدخل المحدود. لم يخطر ببال أي منهن أن تقول لها أن هذا المصرف عجز في 2019 عن تلبية طلبات المستحقين لقروضه، لأن ميزانيته أُفرغت تماماً من قبل زوجها وأقرانه وأشباهه. ولم تدرك السيدة أن ما ترويه عيب كبير، مثلها في ذلك مثل مستمعاتها. وأنه علاوة على العيب، فهو يقع تحت طائلة القانون (لا أحد يأخذ ذلك على محمل الجد طبعاً، عدا "منظمة الشفافية العالمية"!).

وقد استمرت التهاني على وقع الحلويات والضيافات الأنيقة. وحين خرجن، تناولن الواقعة، ليس اعتراضاً أو استنكاراً، بل ربما ببعض الدهشة، ومن ضمن رواية "خبرية" الزيارة ومنها هذه المعلومة التي بقي حضورها عرضياً. وهكذا آلاف القصص.. بعضها شخصي وفردي، وليس له معنًى متصل بالشأن العام. هكذا هي كل السلوكيات، كبرت أم صغرت، فبأي آلاء ربكما تكذّبان.

وقد يجد عموم الناس أن لا علاقة بين المنظومة القيمية والنفسية تلك، وبين ما حلّ بنا. ولكننا لم نكن لنؤخذ "رهائن" لأمريكا وإيران، لولا أننا تمادينا في "التطنيش" عن كل ممارسات المتنفذين، بل في اعتبارها طبيعية بحكم أن "الواقع هكذا"، وأنه لا يفترض أن نكون سذّجاً أو مثاليين (ويقال أحياناً بنهرٍ ضجر "بلا تفلسف"!)، وفي تغليب الحرتقات بين المجموعات المذهبية حول من هو "الأفحش" (الآخر طبعاً)، وفي سعي "المؤهلين" - أي ممن ليسوا مسحوقين تماماً - لالتقاط الفتات من هذه الحالة.. التي اسمها الفساد وعدم المساءلة.

وأما المسحوقون، فقد كانوا منذ زمن أمام خطر الموت جوعاً، فصار كثيرون من بينهم "أكتافاً للإيجار"، تحمل البنادق "غب الطلب"، أو تحمل في المناسبات صور الزعماء أو مؤخراتهم. وراحت نساؤهم تستجدين علب المساعدات الغذائية من مكاتب الزعماء أو الجمعيات الخيرية.. وهذه أيضاً منظومة كاملة. ويصعب سؤال كل هؤلاء عن سبب عدم تمردهم وتحطيمهم لكل شيء. فبما أن العطب شائع إلى حد يبدو معه وكأنه مطلق، فلم يكن التمرد وارداً، وكان تدبر الحال ولو ببؤس، هو القاعدة.

إلى أن حلّ الاستعصاء الحالي...

مقالات من لبنان

للكاتب نفسه

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...