في ربيع العام 2005، استضاف الرئيس الأميركي السابق جورج بوش ولي العهد السعودي وقتها، الأمير عبد الله بن عبد العزيز، في مزرعته الخاصة في كراوفورد، تكساس. معظم النقاش الذي جرى بين الرجلين، بحضور مسؤولين آخرين وخبراء، تركز حول خطط شركة أرامكو السعودية لرفع طاقتها الإنتاجية من النفط. وقتها كانت أسعار النفط تتجه إلى أعلى، والسعودية، عبر شركتها أرامكو، الأقدر على رفع إنتاجها. وبالفعل تواصل برنامج رفع الطاقة الإنتاجية لتصل الى 12.5 مليون برميل يومياً في الوقت الراهن.
أرامكو عادت إلى شاشة الاهتمام العالمي مؤخراً بعد أن أشارت السعودية، وبدون تفاصيل، أنها تعتزم طرح أسهم الشركة للاكتتاب العام. تهيمن أرامكو على 261 مليار برميل من الاحتياطي العالمي المؤكد من النفط، وتُعتبر أكبر شركة بترول في العالم، وبالتالي فإذا تم طرح أسهمها في أسواق البورصة، فإن ذلك سيعتبر أكبر اكتتاب في التاريخ، إذ تقدر القيمة السوقية للشركة بنحو عشرة ترليونات دولار، وهي بذلك تتجاوز شركة أكسون/موبيل التي تعتبر أكبر شركة نفط في العالم مدرجة في سوق المال بنحو 32 مرة، وأنه إذا تم طرح 5 في المئة فقط من قيمة الشركة، فإن ذلك يعني 500 مليار دولار. ولهذا لم تبعد مجلة الأيكونومست كثيراً عن الحقيقة عندما وصفت الخطوة المتوقعة ــ إذا حدثت ــ بصفقة القرن.
خيارات عديدة
على أنّ الأمر فيما يبدو ليس بتلك البساطة. الإشارة إلى طرح أسهم أرامكو وردت لأول مرة في مقابلة ولي ولي العهد السعودي مع مجلة الإيكونومست، ومن الواضح أن الأمر لا يزال قيد الدراسة التي قد تستغرق بضعة أشهر، وهو ما أكد عليه رئيس مجلس إدارة شركة أرامكو الذي أشار إلى أنهم يدرسون عدة خيارات، ولو أنه جزم أن الاحتياطيات ستكون خارج أي نقاش وستظل بالتالي ملكية للحكومة السعودية. وهذا يحصر النقاش في بعض جوانب أنشطة أرامكو، مثل عمليات المصب النهائي، والمصافي الداخلية التي لأرامكو ثمانٍ منها، أو الخارجية ولها ست تتوزع بين الولايات المتحدة والفيلبين وكوريا الجنوبية وغيرها.. أو خطوط الأنابيب مثلاً.
يعود تاريخ أرامكو، أو "شركة النفط العربية الأميركية" إلى العام 1933 عندما اكتشفت شركة "ستاندراد أويل أوف كاليفورنيا" النفط في المنطقة الشرقية من السعودية، وليتضح بعد ذلك أنها عثرت على أكبر اكتشاف نفطي، لدرجة توصلت معها إلى قناعة أنه لا يمكنها إدارة هذا الاكتشاف الضخم لوحدها. وكان أن فتحت الباب أمام شركات أميركية أخرى تمثلت في العام 1948 في أربع شركات هي أكسون، موبيل، تكساكو وشيفرون التي تقاسمت أسهم الشركة. وفي سبعينيات القرن الماضي، ومع موجة التأميمات والاتجاه للسيطرة على الصناعة النفطية من قبل الدول المنتجة، اعتمدت السعودية أسلوباً متدرجاً هو المشاركة، إذ بدأت بالسيطرة على 25 في المئة من أسهم أرامكو في العام 1975، لترتفع النسبة بعد عام إلى 60 في المئة، ثم لتكتمل سيطرتها عليها في العام 1980. لكنها لم تتدخل في القضايا الإدارية وتركت لمجلس إدارة أرامكو تسيير الأوضاع، برغم تعيين المهندس علي النعيمي، وزير البترول الحالي، كأول سعودي رئيساً لمجلس إدارة أرامكو في العام 1984. ثم أصدرت السعودية أمراً ملكياً بعد ذلك بأربعة أعوام تولت بموجبه مسؤولية أرامكو وجعلت وزير البترول رئيساً لمجلس إدارتها.
واذا كان هذا التأنّي هو أحد ملامح تاريخ أرامكو، فإن استخدام قدراتها الإدارية والتنفيذية في القيام بمهام وإنجاز مشروعات أخرى لمصلحة الحكومة السعودية يعتبر الملمح الثاني الرئيس. إذ قامت الشركة بتشييد خط السكة الحديد الذي يربط الرياض بالدمام، وكهرباء المنطقة الشرقية، كما أدخلت التلفزيون بداية في المنطقة الشرقية حيث عملها، واستُعين بها لإنشاء المنطقة الاقتصادية في جازان، ومدينة الملك عبد الله الاقتصادية، وجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية على الساحل الغربي للسعودية، وغير ذلك من مشاريع. ومع نجاحها في تنفيذ هذه المشروعات بصورة جيدة، إلا أن هذا النوع من النشاط يقع تماماً خارج المجرى الرئيسي لعمل الشركة في ميدان الصناعة النفطية، وبالتالي فلن يكون من الجوانب الجاذبة للمستثمرين المحتملين.
ذراع الدولة
على أن القضية الرئيسية تظل أن أرامكو تمثل ذراع الدولة التي تدير نيابة عنها أهم مصدر للدخل. فوجود ربع الاحتياطيات المؤكدة من النفط في العالم في أراضي السعودية وإتقان إدارة أرامكو لها مقارنة بالشركات الوطنية في الدول الأخرى المنتجة للنفط، منحها أهمية استراتيجية ووفر لها احتلال مقعد في "مجموعة الدول العشرين". وهي تسعى لاستمرار وجود مؤثر لها في السوق الأميركية مثلاً، إذ ظلت تتنافس مع كندا وفنزويلا على تزويد السوق الأميركية بإمدادات تجتهد ألاّ تقل عن المليون برميل يومياً. وأهم من ذلك، الحفاظ على صورتها كمصدر مأمون للإمدادات، والجهة التي يمكنها التدخل للتعويض عن أي نقص بسبب انقطاع الإمدادات من أحد المنتجين لأي سبب من الأسباب. فقامت مثلاً بالتعويض عن الإنتاجين الكويتي والعراقي في العام 1990، إثر قيام صدام حسين بغزو الكويت وصدور قرارات دولية بحظر تجارة النفط مع البلدين. وتكرر الأمر نفسه إثر إطاحة القذافي واضطراب الوضع في ليبيا، وبعد حدوث اضطرابات في نيجيريا وفنزويلا.
فجزء من الإستراتيجية النفطية للسعودية يقوم على الاحتفاظ بطاقة إنتاجية إضافية تتراوح بين مليون إلى مليوني برميل يومياً لاستغلالها عند اللزوم. وهذا إجراء يُفهم في الإطار السياسي والإستراتيجي، لكن يصعب تسويقه تجارياً واقتصادياً، لأنه يتطلب أعباءً مالية، والإنفاق على هذا الجانب لضمان وجود تلك الطاقة الإنتاجية الفائضة، وهو ما لا يمكن تبريره أمام حمَلة الأسهم الذين يهمهم في النهاية العائد من أسهمهم. ولهذا تتجنب الشركات النفطية المدرجة في أسواق المال الإنفاق على مجالات مثل الحفاظ على طاقة إنتاجية فائضة، لأنها تخضع للمساءلة من قبل حمَلة الأسهم.
وبسبب تداخل الجوانب السياسية والإستراتيجية والاقتصادية، فإن أرامكو، بصفتها شركة خاصة أي خارج الاكتتاب العام، ليست مطالبة بتوخي الشفافية، سواء بالإعلان عن أي قوائم مالية لكيفية أدائها أو تقديم تفاصيل عن احتياطياتها ومختلف الحقول العاملة وكيفية تأثر أدائها مع الإنتاج المتواصل منها. وقبل بضع سنوات، ثارت ضجة بسبب بعض المعلومات التي راجت حول أن حقل الغوار، الذي يُعتبر أكبر حقل نفطي في العالم، وصل إلى قمة إنتاجه وهو في طريقه إلى التراجع. ومع أن أرامكو ردت على تلك التقارير وقتها، إلا أن عدم وجود معلومات فنية تفصيلية عن أداء الحقول يبقى مستمراً، وهو اتجاه تفضل الرياض في الغالب الحفاظ عليه، ويعزز هذا بالتالي من احتمال ألاّ تصل الصيغة التي ستعتمد لطرح أسهم أرامكو إلى هذا الجانب.
السياق
فكرة طرح أسهم أرامكو هذه ينبغي النظر إليها في إطار البرنامج العام للخصخصة وكذلك تخفيف الاعتماد على النفط بتنويع القاعدة الاقتصادية. وفكرة التخصيص هذه ليست جديدة، وهي تبرز من وقت لآخر وفي فترات تضعضع أسعار النفط، تلازمها أفكار لرفع الدعم عن العديد من السلع، وتهيئة البيئة أمام القطاع الخاص لتقديم السلع والخدمات وتوفير فرص العمل. لكن لأن مثل هذا التوجه يمس في نهاية المطاف فكرة "دولة الرعاية" وله تبعاته السياسية والاجتماعية، فإن الأمور تعود الى حالتها القديمة مع التحسن في أسعار النفط التي تمر في العادة بدورة هبوط وصعود. هذه المرة تبدو وضعية السوق مختلفة بسبب وجود منتجين كثر من خارج أوبك لا بد من تعاونهم جميعاً لخفض الإنتاج ورفع الأسعار، وهو ما لا يبدو وارداً حتى الآن، هذا إلى جانب دخول تقنية إنتاج النفط الصخري على الخط وهي تمثل تغييراً كيفياً في المشهد النفطي.
يبقى السؤال متعلقاً بقدرة ولي ولي العهد على الدفع في هذا الاتجاه ليصل إلى نهاياته، وهو ما يفارق أسلوب التأني والتريث الذي عُرفت به السعودية من قبل. ويشير بعض المتابعين إلى أن تنفيذ قرار خصخصة 70 في المئة من أسهم الشركة السعودية للصناعات الأساسية ("سابك") سيكون مؤشراً على احتمالات المضي ببرنامج الخصخصة الحالي. و "سابك" شركة حكومية تصدّر نحو 10 في المئة من صادرات العالم من البتروكيماويات. وفي العام 1985 تم طرح 30 في المئة من أسهمها إلى الجمهور، وذلك على أساس أن تتصاعد تلك النسبة لتصل إلى 70 في المئة مقابل الإبقاء على 30 في المئة بيد الحكومة.. الأمر الذي لم يحصل حتى اليوم.