نواعير الذكريات في حماه

لم أظن يوما ان قلمي سيفيض بهذه الذكريات. كيف لي ان انسى رائحة الخبز الطازج الخارج من فرنه، وانا اقف فتاة صغيرة في الشارع المجاور لشارع "المرأة العربية" القريب من محطة القطار في مدينة حماه حيث بيت جدي لأبي. لم اعد اذكر أسم الفرن لكني لا انسى الشارع الذي قضيت فيه بصحبة اهلي واخوتي شهورا هاربين من ويلات الحرب الاهلية في لبنان.. غادرنا طرابلس بصحبة جدي لأمي الذي كان يحمل عقلية خاصة صعبة،

لم أظن يوما ان قلمي سيفيض بهذه الذكريات. كيف لي ان انسى رائحة الخبز الطازج الخارج من فرنه، وانا اقف فتاة صغيرة في الشارع المجاور لشارع "المرأة العربية" القريب من محطة القطار في مدينة حماه حيث بيت جدي لأبي. لم اعد اذكر أسم الفرن لكني لا انسى الشارع الذي قضيت فيه بصحبة اهلي واخوتي شهورا هاربين من ويلات الحرب الاهلية في لبنان.. غادرنا طرابلس بصحبة جدي لأمي الذي كان يحمل عقلية خاصة صعبة، مع حنان يحيط العالم باتساعه. لم يكن يحب النظام في سوريا ولا طاغيته، وهو لم يكن يريد ان نبتعد عنه ونغادر لبنان، لكن للظروف احكاما حيث قام بإيصالنا بسيارته الى مدينتنا، "مسقط رأسي" ومرتع نشأة والدي رحمه الله.
رائحة الخبز تلك وطعمه لهما وقع خاص عندي، خاصة وانني كنت تلقيت قبلة على رأسي من الصبي الذي كان يقف في الصف ورائي... سر لم ابح به قبل اليوم. اخذت الخبز ومشيت عائدة الى بيت جدي وانا افكر في الصبي الذي كان اصغر مني.
كنا سعداء مع اهل ابي... احبهم جميعا رغم اننا لم نكن نلتقي الا نادرا، لكن الحرب الاهلية في لبنان والاحداث المرافقة لها في طرابلس جمعتنا لفترة. ماذا اذكر من حماه، وهي مدينتي الثانية التي احببتها بعد طرابلس، حيث كانت بيروت ممنوعة منا ايام الحرب.
في حماه عرفت اجمل حديقة عامة اسمها حديقة "ام الحُسْن" (اسم على مسمى)بتصميمها ونظافتها وحميميتها، وخاصة بنواعيرها "الطاعنة في السن"، التي كانت ما تزال تدور وتعيد معها دورة الذكريات والتاريخ المجيد، مع حديقة الحيوانات الموجودة فيها التي كانت رائدة بتنظيمها، مع امتداد العقود الحجرية التي تحمل سواقي الري الموغلة في القدم والمرتفعة زهواً فوق رؤوسنا عند مدخل الحديقة، مترافقة مع مجرى نهرالعاصي الذي تقوم وتمتد "أم الحسن" على ضفتيه، والتي تشهد على حضارة عريقة عرفتها المدينة. كذلك متحف الشمع القريب من الحديقة الذي زرناه ونحن اطفال في السبعينيات والقائم داخل بناء اثري هو الاخر، وكان اول متحف شمع ازوره وقد ادهشتني دقة تمثيل الاشخاص ونحتهم، فهو ينقل عبر شخصياته صورة الحياة السورية، لا سيما الحموية القديمة... وفيه الحمام العربي القديم حيث جفلت عند دخولي الردهة التي تمثل الحمام مع رجلين (من الشمع) الزبون والمدلك وهما نصف عاريين .
اذكر اننا كنا نسمع اصوات النواعير في الليل تتوارد الينا في حارة بيت جدي، اليوم لم تعد النواعير تنتج الذكريات، فالجفاف يصيب العاصي لوقت طويل خلال السنة فتتوقف النواعير عن الدوران وكأنها توقف معها دورة الحياة.
كذلك اذكر صوت صفير القطار المار امام محطته القريبة منا، خاصة في الليل حيث تعلو وتيرته ويصبح سماعه طقسا مميزا. كان هذا القطار الاول والوحيد الذي اراه في لبنان وسوريا.
بيت جدي مصطفى كان من هندسة مميزة، ننزل درجتين تحت الارض حيث غرفتين، المطبخ المعتم كما اذكره الى اليمين واخرى الى اليسار وعلى باب المطبخ جرة الماء تضعها جدتي ومعها كأس من الالمنيوم صغيرة لنشرب ماء بارداً ومنعشاً بطعم خاص.
أذكر من جدي الآن الصورة الوحيدة العالقة في ذهني عنه، قفطانه العربي بني اللون، زناره الجلدي كأنه من شيوخ قبائل العرب، قامته النحيلة الشامخة ووجهه الصغير بعينين زرقاوين، واقفاً على رأس الدرجات الثلاث التي تدخلنا الى الفناء الخارجي للبيت الذي يجمع غرفتين اخريين واحدة للشباب (اعمامي غير المتزوجين)، والثانية لعمي المتزوج مع عائلته.
سهراتنا المميزة على سطح البيت القديم لم تكن تنتهي. اهمها عندما كان الجيران يحتفلون بزفاف احد ابنائهم او بناتهم فنصعد الى السطح ومعنا عمتي الصغيرة العزباء، نأخذ البزر والعصير والفواكه ونمضي السهرات نتابع وقائع العرس "الحموي" بامتياز .
ثم كيف انسى قلقنا جميعا على اعمامي الشباب عندما تم استدعاؤهم الى حرب 1973، كل الشباب والجند الخاضعين لمرحلة الاحتياط عليهم الذهاب، كان البيت يعجب جميع افراد العائلة ويضج بالقلق والفوضى.
عاد اعمامي من تلك الحرب، لكن احدهم لم يعد من الحرب/ المعركة في العام 1982.
في اثناء اقامتنا خلال فترة الحرب اللبنانية، بدأنا نمارس الحياة اليومية في حماه ونعتاد عليها بل نحبها. فالكل يحتضننا هنا، عماتي، اعمامي وزوجاتهم اللطيفات، خاصة اننا كنا فقط مع والدتنا لان ابي كان يعمل في الكويت.
تسجلنا انا واخوتي في المدارس في حماه، وتعرفنا الى التلامذة وتصادقنا معهم، اكثر من علق في ذهني زميلة صف مسيحية من آل سيوفي (ربما كان اسمها رولا) احببتها وكنا تبادلنا الزيارات .. رولا اذا قرأت هذه الكلمات، اعلمي ان المحبة باقية في قلبي ...كما اذكر وقوفنا في الصف لتأدية النشيد الوطني وتحية العلم باللباس المدرسي الخاص بالفتوة في المرحلة الابتدائية.
كنا نزرع الحارة جيئة وذهابا فبيت جدتي الجديد بعد رحيل جدي تقابله بيوت اعمامي...
فوق بيت حنان، زوجة عمي العروس الصبية الجميلة، التي كانت تتولى "تغنيجنا" بشكل مميز، تسكن عائلة لبنانية مسيحية استقرت منذ فترة طويلة في حماه بسبب الحرب اللبنانية. وكنا نعلم انه على بعد امتار من الحارة التي نسكنها هناك الحارة المسيحية القديمة بكنائسها الاثرية العريقة.
احببت في حماه سوقها الطويلة القديمة قبل هدمها عام 1982، والذي كنا نفضل الذهاب اليه سيرا على الاقدام والنزول في "نزلة الجزدان" كما تسمى، واتذكر جيدا من السوق بيت "خالتو" آسيا خالة والدي، حيث كان يتميز بدرج حجري نصعد عليه بصعوبة فهو بيت عربي قديم، وقد هدم مع السوق، يتطابق في تفاصيله مع بيت "ام سعد" خالة جدتي لأمي في سوق العطارين في طرابلس... وكما البيوت، قارنت الشبه بين الاثنتين، بمحبتهما ورقتهما، فضلا عن المحيا، إذ كانتا ذوات بشرة بيضاء ناصعة وعينين زرقاوين حنونتين، ويدين شققتهما الهموم وجار عليهما الزمن.
أذكر كيف منعتني زوجة عمي من تقبيل صديقتها ام حسام عندما التقيناها في السوق، كما اعتدنا عليه في طرابلس، فالتحية بهذه الطريقة غير محببة في حماه، ام حسام الصبية، فقدت وزوجها وابنها ذا الـ16 ربيعا في العام 82. كنا نلقب باللبنانيات (باللهجة الحموية) انا واخواتي عندما كنا ندخل المحال التجارية في اسواق حماه، لاننا نتكلم باللهجة العامية اللبنانية، فيما في لبنان (خاصة في فترة الحرب الاهلية)ودخول الجيش السوري، يعرفنا الجميع باننا سوريات لان والدي من حماه. تناقض يحمل دلالات المعنى، ومعنى يخبئ الشعور بأننا آخر.
غادرنا مدينة النواعير عائدين الى طرابلس. وما زلت اشتهي طعم "الشعيبيات" الحموية المحشوة بالجوز او بالقشطة والمحلاة بالقطر والسكر التي كنا نتلهف لتناولها بدل وجبة الافطار.
وما زلت اشم رائحة التربة البيضاء المفروشة في طرقاتها وصور الحجر الابيض الذي يغطي ابنيتها وعماراتها التي تشتهر به حماه ومعرة النعمان المجاورة لها.
 

للكاتب نفسه

وحيدة في المحكمة الشرعيّة

ربما يسكنني بعض من لطيفة، واكيد انني ازيد عنها ببعض آخر وببعض من نسوة مطلقات او يسعين الى الطلاق دون جدوى. أين أقف من الطلاق؟  أقف على مفترقات طرق متعددة...