تتصرف المصارف بأموال الناس كما يحلو لها. تعطي ثم تمتنع. تتقلب قراراتها بناءً على تعاميم داخلية يعتدّ بها موظفوها حين يعترضهم المودِع مذكّراً: "ولكن البارحة قلتم لي؟". كل يوم بيومه. ولا أحد يعرف ما الذي يخبئه الغد، بالمعنى المباشر للكلمة، أيّ ما كان يحق له من ماله ومعاملاته، وصار لا يحق له بعد 24 ساعة من آخر زيارة له للمصرف. صار الغموض هنا ميتافيزيقياً، تماماً مثلما هو القدر.
وهكذا تتزاحم الشائعات / الخرافات: بعد 1-1-20 سيصير كذا وكيت. وكما هو معروف، ففي أوقات القلق تكثر الروايات السوداء، ويطغى التشاؤم. ولولا تسليم ما، ميتافيزيقي هو الآخر، لانقضّ المودعون الصغار، وهم حوالي مليونين وثمانمئة ألف، على البنوك. ما زالوا ينتظرون حلولاً قد تخرج في أيّة لحظة، أو يعتبرون ما يرونه كابوساً مرعباً سيفيقون منه. ويقول بعضهم في سرّه أن كل هذه قد تكون مناورات سياسية من الأمريكان لإخافة لبنان – كل لبنان - ليضغط على حزب الله.. وهلمَّ جرا. ما زالوا يأملون بالرحمة.
يدافع عن نفسه كل من تصادفه في الطريق أو في مكان عام، أو في ردهة المصرف المكتظ بالمنتظرين بالدور للوصول إلى الصندوق: ثلاثون سنة من الشقاء في إفريقيا. قصصٌ عن حرمان الآباء والأمهات لانفسهن للحفاظ على ما يمكنهم توريثه للأبناء. ادخارٌ للزواج. ادخارٌ لضمان تعليم الأولاد. ادخارٌ لليوم الأسود. ادخارٌ لتوفير بعض الترفيه أو السفر.. وكأنما يبررون ادخاراتهم، تضرّعاً، وأنهم لا يستحقون العقاب!
يكتظ المصرف بالناس. وجوه جديدة غير مالوفة. بعضهم في عمر الشباب، ولكن أغلبهم ممن أثقلتهم السنين ولم يعتادوا هذه الزيارة. ذلك أنه عليهم الحضور بانفسهم لسحب ما يمكن من مالهم. بعضهم يتكئ على كل انواع العكازات الممكنة وبعضهم على ذراع رفيق أصغر سناً. رجال ونساء.. نساء خصوصاً. هذا جمهور المعبد الجديد.
في كيف أديرت عملية النهب والافتراس في لبنان
07-12-2019
لكن صفات الألوهة تلك لم تتشكل بناءً على مسلك طرف واحد، طرف المستضعَفين الذين ظنوا أنهم يخبئون نقودهم القليلة في مكان آمن، فوجدوا أنفسهم عراةً كدود الأرض. هي المصارف من اتخذت من نفسها آلهة. تلك المفلسة تماماً أو تكاد، وتلك المتعسّرة، كما الأخرى المتينة، وهي نادرة. كلها تُصدِر أحكامها من علياءَ مجالسٍ عُليا، لا يعرفها ولا يراها أحد. ويتلقى المدراء والموظفون المقيمون في أروقة المصرف، بين الناس، غضب هؤلاء أو توسلاتهم. فيديرونها بالتي هي أحسن، زجراً أو لطفاً، تماماً كما يفعل الكهنة والمشايخ في هذه الدنيا.
ويعتدُّ كل مصرف بما صدر من قرارات عن جمعية المصارف، أو بما حدده المصرف المركزي، فنبدو في جاهلية تعدد الآلهة وتفاوت مراتبها. ولكنها كلها، مع ذلك، آلهة وليست من صنف البشر. فالمصرف المفلس والذي توقف عن السماح لمودعيه بأيّة سحوبات، إنما يحافظ على تعاليه، فلا يشرح لهم مصيرهم. ولما يفعل؟ سيعرفونه يوم يقع المقدور. وهل سوى المجانين يمكنهم الادعاء بأن إلهاً كلّمهم؟ وأما الإله الأعلى – المصرف المركزي وصاحبه – فمتوارون خلف حُجُب.
إلا أنه ثمة حلقة مفقودة في كل هذا. ما يقال لها "الدولة". ولنسمِّها السلطة السياسية في البلاد، طالما أنه لا دولة بمعنى "المؤسسات الموضوعية المستديمة" المشتغلة وفق لوائح وقوانين. أو البيروقراطية. وبما أن الإله "المصرف" (بالمطلق، وهو لذا يَرِدُ بالمفرد هنا)، يتصرف بالعباد على هواه، وبلا رجوع لقانون معلن ومعروف – والإعلان هو الشرط الأول لصحة القانون، بغض النظر عن عدله أو حكمته أو جوره – فأين الدولة / السلطة؟ وهي تبدو وكأنها تخلت كلياً عن حصتها من أيّة مسؤولية عن مصائر البشر، وأوكلت المهمة للمصرف الإله. فأيُّ تقاسم جهنميٍّ هذا؟ وهل يفسره تواطؤ أصلي مع الإله المصرف، شراكة في الافتراس الذي جرى ويجري، أم هو خضوع له ولمغرياته. فالعجز هنا غير قابل للتصديق.
انطقوا يا هؤلاء، إلا إذا صدّقتم فعلاً أنكم آلهة أيضاً.
قولوا ما عندكم، وما الذي تُرتّبونه. قولوا روايتكم لما جرى، فما حلَّ بالناس ليس كارثة طبيعية، وإنما بفعل فاعل. وقولوا ما الذي تتصورونه وتنوون القيام به في مقبل الأيام. خطتكم. وهو الأمر الوحيد الذي يهم الناس المستباحين. لا تهمهم تهريجاتكم التي تسمونها "سياسة"، ولا صراعاتكم. وهم لن يعودوا إلى حظائر اللعبة الطائفية. انطقوا! فقد ثرثرتم بكل شيء ما عدا ب"الموضوع"، فإذا بالاعتباط التام (التقلب + الغموض + انعدام الرؤيا) الذي رافق "الموضوع" منذ اللحظة الأولى يتحول إلى ما يشبه القدر. يا لكفركم!