في غرفة مهجورة تفوح منها رائحة الرطوبة، وبين صناديق كرتونية يكسوها الغبار، تعثّرت الإعلامية والكاتبة امتياز دياب بـ "كنز" من ورق "مدفون" في "كرتونة" مهملة. الكنز عبارة عن عشرات الرسائل والصور ومسودات القصائد، تعود للشاعر الكبير محمود درويش، لم يسبق أن اطلع عليها أحد.
الغرفة في بيت محمد ميعاري، حيث كانت دياب تبحث عن محاضر اجتماعات تخص "حركة الأرض". توجهت الكاتبة بالسؤال إلى ميعاري مذهولة بالاكتشاف، فأجاب ببساطة: "سكنت مع الشاعر عدة أعوام، في أكثر من بيت، وعندما رحل عن حيفا وضعت متعلقاته في هذا الصندوق الذي تنقل معي منذ أواخر الستينيات، من بيت إلى آخر".
أصبحت محتويات "الكرتونة" الآن بين دفّتي كتاب صدر حديثا عن "نون للأفلام والنشر"، ووزارة الثقافة الفلسطينية، تحت عنوان "ميلاد الكلمات"، كتاب فريد من نوعه، يشبه معرضاً يتيح لنا التجول مع الشاعر الكبير في شبابه، أو التجول وحدنا في ممرات تلك البدايات.
يحرّر الكتاب الشاعر من جهامة التناول، ويتيح مشاهدة حيوية حياته اليومية، جنباً إلى جنب مع أبطال حكاية الثقافة الفلسطينية: مجموعة رائعة من شباب فلسطين الأذكياء والعنيدين يتحركون كخلية نحل، يتراسلون ويتبادلون التجارب والمعلومات عن الكتب والكتابات، يدخنون ويتمازحون ويراوغون للإفلات من القمع والتضييق والإقامات الجبرية، دون أن يعرفوا تماماً أنهم يصوغون مشروعاً ثقافياً كبيراً ومؤثراً سيترك بصمته على ملامح هوية وطنية بأكملها.
تتيح الأوراق والشهادات إعادة تركيب مشاهد مهمة، فبها يتحول خبر زيارة فدوى طوقان إلى حيفا بعيد "نكسة" 1967 من مجرد خبر إلى مشهد حيّ ينقل بهجة درويش، فنراه يحشد الأصدقاء لاستقبالها، ونحس بالحزن العميق في حديثهم معها هناك، في الغرفة ذاتها التي جمعت درويش ومحمد ميعاري معاً، حيث كبرت الحكايات وولدت القصائد ووصلت الرسائل.
الكتاب مقسّم إلى مقدمة تسرد حكاية الأوراق، تليها فصول تنقل نصوص رسائل متعددة المصادر إلى محمود درويش، ورسائل قليلة منه إلى آخرين، وأحاديث عن خصوصية الرسائل ومضامينها وسياقها، ثم جولة في مطبخ درويش الشعري تتصفح دفاتره، خصوصا دفتر "معسياهو"، وفيه القصائد التي كتبها محمود في حبسه الأول في سجن "معسياهو" في الرملة حيث سجن في العام 1965. وفي إحدى صفحات الدفتر كًتب محمود، وتحت عنوان "السجن الأول": "سجني الأول قاسٍ مثل حبي الأول".
يعرف قرّاء درويش أن غسان كنفاني أسهم منذ البدايات في نقل تجربة درويش وتجربة "شعراء المقاومة" - بعد أن صك تسميتهم - إلى العالم، لكن أحداً لم يقرأ رسالة من كنفاني يستحث فيها درويش على إرسال أحدث قصائده، وقصائد مجايليه:
"أحييك بتقدير وإعجاب وحب، وبعد، أكتب لك باختصار راجياً لو تستطيع أن تؤمن لي أكبر كمية من شعرك الذي لم يُنشر، مع عدد من صورك ورؤوس أقلام كافية عن حياتك.
فكما لا أشك تعلم، فقد أضحيت أنت، نتيجة جهود كان من واجبي أن أبذلها، شاعراً شهيراً للغاية هنا. لقد تُرجمت بعض قصائدك للفرنسية، والآن أنا في سبيل أن أطبع ديوان ضخم [في الأصل] لك ولتوفيق زيّاد ولسميح القاسم فيه أجزاء فرنسية وإنكليزية ولوحات لأفضل فنانينا ودراسات نقدية مطولة عنكم. واحتاج في سبيل ذلك إلى مزيد من الشعر الذي نشر (..) وكذلك إلى نبذة عن حياتكم وقصائدكم التي لم تنشر وصوركم".
نقرأ ماذا كتب سميح القاسم وراشد حسين وتوفيق فياض وغيرهم لدرويش وهو في السجن، وسنحس بحجم الحبّ الذي أحاطوه به. يسأله سميح القاسم:
"ماذا قرأت في المدة الأخيرة؟ وهل ترغب في أن أرسل إليك كتاباً معيناً، أو أي كتاب في موضوع معين؟ هل كتبت شيئا جديداً، إنني ما زلت في انتظار قصيدة تنشرها في عدد "الجديد" القادم، فلا تكن بخيلاً، واعلم أن "الجديد" يضع مسؤولية كبيرة على كتفيك ولا يعنيه إن كنت سجيناً أم طليقاً.. المهم بالنسبة للأوراق أن تطرزها بالحروف".
ويتناول الكتاب ظروف ميلاد قصيدة "سّجل أنا عربي"، القصيدة التي صارت حدثاً، والحدث الذي تحول لواحد من عناوين الثقافة الجمعية كلّها، ويضيء على قصيدة "عاشق من فلسطين"، القصيدة التي كانت ربما "تستعيد فلسطين في الشعر، في اللحظة ذاتها التي كانت منظمة التحرير تستعيدها في السياسة" كما جاء في الكتاب، وقصة تحول عنوانها إلى عنوان الديوان بعد "مؤامرة جماعية" انطلت على الرقيب.
الرقيب كان دائما هناك في الواقع، وحضوره القاسي يظهر في الكتاب، عبر رسائل كثيرة لمحمود درويش، بينها رسالة عن ديوان لسميح القاسم، رسالة غريبة، إذ إن الرقيب يقدّم ست عشرة ملاحظة جوهرية في مضمون الديوان لا تكتفي بالحذف إنما تضيف وتقترح، بعد تقديم ماكر، يحذر الشاعر من التذاكي:
"الموضوع: كتاب شعر بقلم سميح القاسم/ رسالتكم من تاريخ 5/5/1969/
رداً على رسالتك المشار اليها، فإنني أبلغك أنه لا مانع لدينا من نشر كتاب الشعر المذكور أعلاه شرط أن تجرى عليه التعديلات التي أدخلناها إليه عندما تم تقديمه إلينا في المرة الأولى، والتي نعود على ذكرها هنا لإزالة كل التباس. بالإضافة إلى ذلك، نود لفت انتباهك إلى عدم التصرف ببراءة فيما يخص الأمور التي تم الغاؤها، وعدم طباعة الصورة صاحبة شخصية الجسر على غلاف الكتاب".
وبين دفاتر الشعر نقرأ للحاكم العسكري أوامره: "بموجب صلاحياتي (..) ولأنني على يقين بأن الأمر مطلوب لصالح أمن الجماهير في إسرائيل وحماية دولة إسرائيل، فإنني آمر بأن:
محمود سليم درويش –
لا يتواجد في أي منطقة من مناطق إسرائيل باستثناء المنطقة المغلقة، وفي داخل حدودها حسب ما تم تحديده في أمر إغلاق المناطق (منطقة الشمال) و1963، إلا بناء على تعليمات هذا الأمر أو بناء على تصريح شخصي يمنح من خلالي أو من ينوب عني. صلاحية هذا الأمر 15 تشرين الثاني 1965 وحتى 15 تشرين الثاني 1966."
لا تكتفي المؤلفة بما في الصندوق من أوراق، إنما تنقّب حوله عن "ذهب" جديد، فتذهب إلى عدد من أصدقاء درويش ومحبيه بحثاً عن المزيد من الجوانب التي غطت تلك المرحلة لتنقل تفاصيلها وأجواءها، فتجلس - إلى جانب أخيه أحمد درويش- مع محمد ميعاري وحنا أبو حنا وصبري جريس وحنا إبراهيم وفتحي فوراني وأحمد علي طه وحسن أمون، ثم تجمع من تبقى على قيد الحياة من زملائه في المدرسة، تجلس معهم في غرفة الصف ذاتها التي جمعتهم في دير الأسد، وتستعيد عبرهم ملامحه في عيون أناس عاديين يتذكرون شخصاً كان بينهم، ثم كتب شعراً ملأ الدنيا وشغل الناس.
(*) عقدت المؤلفة يوم الخميس 21 آذار/مارس ندوة صحافية لتقديم العمل في المسرح البلدي لمدينة رام الله.