هل الشيطان هو سعود القحطاني الذي أشرف على تصفية جمال خاشقجي، ويشرف على تعذيب لجين الهذلول في معتقل الحائر في السعودية؟ هل المشكل أصلاً أمني؟ الشابة الصحافية الحلوة التي درست في جامعة معروفة في الخارج ورفيقاتها، وهن حسب آخر الأنباء حوالي ثمانية عشر إمرأة، بينهن سيدات تقدم بهن العمر، وأكاديميات معروفات، معتقلات منذ حملة أيار/ مايو الماضي ضد المناضلات النسويات، ويتعرضن لصنوف بشعة وقاسية من التعذيب والتحرش الجنسي والتهديد بالتصفية الجسدية أو حتى بالإعدام (بالنسبة لمعتقلات ناشطات سياسياً)، وتطالب منظمات حقوق الانسان العالمية بإطلاق سراحهن.. بلا طائل.
ولكن حتى هذا لا يكفي. ولا يفيد. العطب في مكان آخر: ليس في القمع وحده، وهو طبعا بشع، ليس في الاعتباط وهو أبشع - وكلاهما ينطبقان على الجميع، رجالاً ونساء - وليس في محاولة كسر شوكة المرأة التي يَفترض جلاديها انها أقل شأناً فيصبح مستفِزاً لهم بشكل مضاعف أن تصمد وتعاند وترفع صوتها وتتمسك بحقوقها.. بل هو في استمرار بنى قانونية معتمدة والتمسك بمعتقدات تجاوزها تماماً الواقع.
وكمثال على ما هو مفوّت تماماً بالنظر إلى الواقع في السعودية مسألة ولاية الذكر على المرأة. وهناك في هذا الصدد ما يثير السخرية. فلو أن السلطات قررت اطلاق سراح إمرأة معتقلة لأي سبب، فهي لا تخرج من السجن إلا إذا وافق وليها، وقام بتسلمها وكفلها. فإن لمْ.. بقيت هناك!
السلطات الهرمية متعددة في البلاد، وتندرج فيها سلطة ولي المرأة الذكر، حتى لو كانت في الخمسين وحتى لو كانت تحمل أعلى الشهادات من أرقى جامعات العالم، وتعمل في أدق الوظائف.. وهي أصلاً لا يمكنها أن تصل الى ذلك بدون موافقة الولي في كل مرحلة من مسارها. هذا ما شرحته للعالم أخيراً وللمرة الألف، الفتاة رهف القنون التي نجحت منذ أيام، بفضل شجاعتها الفائقة، في الهرب من عائلتها والتجأت الى كندا. أغلب أولئك النساء المعتقلات لديهن عائلات تساندهن، إلا من رمى بهن ولي أمرهن بنفسه في السجن بتهمة "العقوق"، أي عدم طاعته حتى في ما يضر بهن!
وبالطبع، فحملة الغاء الولاية الذكرية على النساء (شعارها "# انا ولية نفسي") أكثر أهمية وعمقاً من تلك التي اشتهرت بشكل طاغٍ (وشبه اكزوتيكي) وتخص حق النساء بقيادة السيارة، ما نلنه أخيراً. ومقاومة الغاء ولاية الرجل شرسة للغاية.. وهي شراسة مفهومة بالنظر الى المعنى الرمزي والفعلي للتدبير. واستطراداً، فالغاؤه لن يكفي لحصول النساء على المساواة، فهناك أولاً التقاليد الاجتماعية وهناك العنف اليومي الممارس عليهن، وهناك ألف تدبير آخر ينتمي الى عالم الحفاظ على تلك البنية الهرمية، الابوية - الذكورية، التي تستند إليها السلطات في بلادنا. وبعضها قد يدهش.
والمثال التالي ليس مهماً بذاته، وانما لتوضيح الفكرة فحسب (فهو يتعلق بقلة من الناس ممن يتعاملون مع البنوك!): في لبنان، المتشبِه بالغرب والمعتد بحرياته، لا يمكن مثلاً لأم أن تفتح حساباً بنكياً لإبنها. يمكنها أن تكون مديرة بنك وتهتم بادارة حسابات الزبائن التي تصل الى مليارات الليرات (والدولارات)، ولكنها تحتاج لزوجها لكي يفتح حساباً لابنه أو ابنته. والويل لها لو لم يكن موجوداً. يلزم ساعتها السلطات (الدينية! فقانون الاحوال الشخصية في لبنان يتبع الطوائف والمذاهب) أن تحدد الوصي الشرعي على القاصر، وهو من يمكنه القيام بالخطوة الجبارة. لماذا؟ لأن إدارة شؤون القاصر تعود الى ابيه وليس الى أمه.. وليس الى كليهما معاً!
وقد أزيلت من القوانين التجارية اللبنانية منذ وقت قريب سائر التمييزات ضد المرأة.. لكن هذه بقيت. وهي معبرة عما نتناوله. ليست عقلانية ولا متسقة مع واقع النساء اللواتي وصلن الى أعلى مراحل التعليم بنسب راحت تفوق نسب الذكور، ويعملن في كل المهن من أبسطها الى أعقدها، ويتحملن مسئوليات كبيرة، وينفقن على أنفسهن وعلى عائلاتهن الخ.. ولكن "العائلة" مرموزاً لها بالذرية تبقى "ملك" الرجل حصراً.
وأما في السودان المنتفض اليوم، فاللنساء دور رائد وقيادي، وهو يثير اعتزاز المنتفضين وقد أسمينهن "المهيرات" تيمناً بمهيرة بنت عبود التي اشتهرت في مطلع القرن التاسع عشر وكانت تقول الشعر، وهي التي دفعت رجال قبيلتها لمواجهة الجيش التركي وهزيمته. أو هم يكنينهن بـ"الكندكيات" تيمناً بالملكة أمنيرناس المشهورة بـ"الكنداكة"، التي حكمت في القرن الأول قبل الميلاد وعرفت بـ"الملكة المحاربة"، إذ تصدت لجيوش الامبراطور الروماني وهزمتها وأجبرتها على الانسحاب من جميع أراضي النوبة. وتبرز في السودان النساء المسئولات كلياً أو جزئياً عن عوائلهن، يشتغلن في كل مجال ممكن، من أبسطه كبائعات الشاي الى ما يتطلب أعلى المهارات والمؤهلات. وهناك قياديات سياسيات بارزات، لعل أشهرهن هي الشيوعية فاطمة إبراهيم التي توفيت منذ عام ونيف.
توقف السلطات السودانية اليوم "المهيرات" و"الكنداكيات" اللواتي يشاركن بكثافة ملفتة في التظاهرات أو يقدنها أحياناً، ثم تسارع الى إطلاق سراحهن خشية تأجيج الغضب العام.
.. وكل ذلك لم يلغِ مواداً تسللت الى النظام العام في القانون الجنائي منذ استلام "الانقاذ" للسلطة، وهي تطال النساء وتُستخدم لضبطهن، ترهيباً وإخضاعاً، عناوينها "الأفعال الفاضحة" و"الزي الفاضح"، وقد يكون ارتداء البنطال الذي اعتقلت بموجبه صحافية منذ سنوات..
تبقى طبعاً قوانين الأحوال الشخصية التي هي فعلاً "أفعال فاضحة"، تتناقض بشكل مثير للسخرية مع واقع النساء ومكانتهن ودورهن في مجتمعاتهن. وهو ما ينطبق على كل المنطقة العربية إجمالاً.
العطب هو في استمرار بنى قانونية ومعها معتقدات تجاوزها الواقع تماماً. هناك حضور هائل للنساء في كل ميادين الحياة، ودور ومساهمة جدية في أسرهن وفي المجتمع. هذا هو الواقع. لقد فقد النظام الابوي الذكوري – هنا كما في كل مكان - أسسه المادية، ولكنه ما زال يعاند.. الى حين!