ليس ما يجري اليوم هو "الصراع على سوريا" كما كُتب منذ عقود وباستفاضة، ولا حتى "الصراع على السلطة في سوريا" الذي كتب عنه كثيراً هو الآخر.. بل هو صراع إقليمي ودولي يتخذ من سوريا ميداناً له، أو منصة انطلاق. يحدث ذلك بحكم التفكّك الذي طال البلاد طوال سنوات الحرب الأخيرة، وأيضا بحكم استجابتها "البنيوية" لمثل هذه التجاذبات، كمكان امتاز دوماً بـ"رخاوة" أصلية في التشكّل، جرت لملمتها بالقوة أحياناً، وبالتحايل عليها في أحيان أخرى..
وإن كان قد ولّى زمن التناحر القديم بين قطبي دمشق وحلب على الزعامة أو الاستقلال (وبينهما حمص تؤدي دور "بيضة القبان"، وهو الذي شوهد آخر مرة في أزمة 1979 - 1982)، فلا يمكن تفسير مقدار "السيولة" التي طبعت هذه الحرب الأخيرة (ومنها أن نصف مواطني البلد قد نزحوا من بيوتهم ومناطقهم، وأن تشكيلات المعارضة المسلحة ومجموعاتها قد جاوزت المئات..) بالركون فحسب الى فظاعة السلطة الاستبدادية، والى شراسة التدخلات الاقليمية والدولية على الارض، وهما فعليان. بل لا بد أيضاً من استحضار عناصر تلك الخاصية وقدرتها المستمرة على الفعل.
وبهذا المعنى، فلعل تلك الصراعات الدولية الغابرة على سوريا أو على سلطتها، ليست مناقضة بالعمق لمنطق ما نشهده اليوم. فبينهما، كمشترك، إمكان استخدام المنصة السورية لأغراض النفوذ بخصوص ما يتعداها. وإنما تغيرت الشروط في العالم وفي الإقليم. فها الولايات المتحدة تفاوض تركيا على عناصر سلوكها في سوريا لو سحبت واشنطن قواتها منها، بل ويقول مستشار الرئيس الامريكي للامن القومي أنه لا خطة انسحاب ولا جدول له قبل خضوع تركيا لشرطَي عدم المس بالاكراد، والالتزام بتنسيق مسبق وكامل مع واشنطن قبل أي تدخل ميداني في سوريا، بينما كان الرئيس ترامب نفسه قد قال لأروغان قبل أقل من شهر "حسناً، هي كلها لك" (Ok, its all yours)، فسكر الأخير وصَدّق. وحين استفاق على تصريحات بولتون من اسرائيل، قبل ساعات من وصوله الى تركيا، أصيب بخيبة كبيرة دفعته الى الغاء لقائه بالمسئول الامريكي، والى اعتباره "قد أخطأ"، والى التصريح بأن هناك "تناقضات" في السياسة الامريكية، وأن هناك من "شوّش على الاتفاق الشفاف" مع ترامب.. ثم اعقبت ذلك تصريحات بومبيو، وزير الخارجية الامريكي الذي يزور ثماني دول عربية هذه الايام، إذ يبدو مما قال في مصر، حيث افتتحها (فزيارة العراق كانت خاطفة وأقرب الى غير الرسمية) أن واشنطن تبحث عن تنسيق استراتيجي يخص المنطقة، وهو تنسيق تقع إسرائيل في القلب منه، وفي جانبه الايجابي بالطبع، بينما هو موجه ضد إيران.. وضد تركيا!
ارتفعت نبرة ردة الفعل التركية، فراح وزير خارجيتها داوود جاويش أوغلو يهدِّد قائلاً انهم "حاسمون على الطاولة وعلى الأرض"، وأنهم "سيستعيدون خطة الهجوم" على منبج ومناطق الشمال الشرقي من سوريا "بغض النظر عن الامريكان"، وأن "قوات حماية الشعب" الكردية منظمة ارهابية و"من غير اللائق" أن تكون حليفة الولايات المتحدة، وأن تأخير الانسحاب الامريكي "يجري بذرائع مختلَقة"، بل وأن "تركيا لا تطلب إذناً من أحد"! ومع أن بولتون وبومبيو هما ألد أعداء طهران في الادارة الاميركية، إلا أن الاشتباك هنا يجري مع أنقرة. وهذه حليفة واشنطن التاريخية في المنطقة والعضو الفعال في حلف الناتو حيث كانت مهمتها تسهيل مراقبة روسيا وإزعاجها.
وروسيا هذه – التي لم تعد الاتحاد السوفياتي، إلا أن الايديولوجيا تبدو ضعيفة الشأن في الاعتبار هنا – تسرح وتمرح في سوريا، وهي التي حسمت وبشكل فعلي إتجاه الأمور فيها، وهي تشرف على مفاوضات (آستانة) وصلت الى حد الإعداد للدستور الجديد لسوريا، وتملك قواعد عسكرية متنوعة في البلاد، ويتجه اليها الأكراد (قوات سوريا الديمقراطية منذ أيام) والاتراك (أردوغان بعد أيام) للتفاهم على شؤون سوريا وعلى أوضاعهم فيها. مع أن هناك تفارق يصعب تصور كيفية التعامل معه في هذا الشأن. فالأُول راحوا ليعرضوا على موسكو خطتهم لتسليم مناطقهم للنظام السوري على أن تُحكَم بشكل لا مركزي وبالاشتراك بين دمشق و"الادارة الذاتية" التي انشأوها هناك، وأن يتم استيعاب مسلحيهم في الجيش النظامي (وأن تعتبر الكردية لغة البلاد الثانية تيمناً بالعراق الذي أقر ذلك منذ عقود)، وأن تضمن موسكو (كـ"قوة عظمى" موجودة في الميدان، على ما قالوا) عدم تغول أحد عليهم: لا السلطة في دمشق ولا الاتراك الذين يريدون تصفيتهم. وأردوغان سيعاود محاولة اقناع روسيا بمنحه منطقة عازلة بعمق 20 الى 30 كلمترا في شمال شرقي سوريا وبالسماح له بغطاء جوي كامل فيها. وسيصعب التوفيق بين الحلّين والطموحين، ونوايا الطرفين.
وهكذا، ومن زاوية أخرى، تبدو روسيا، التي حققت مكاسب كبيرة في سوريا والمنطقة مؤخراً، أمام مفارقات يصعب تصور كيفية تدبرها لها بلا توترات، بينما الولايات المتحدة الامريكية غارقة فيها. والدول الاقليمية كلها، على الخلافات بينها، تتلاطم وسط المعمعة.