"أم الحيران" قرية بدوية في النقب لا يزيد تعداد سكانها على الألف نسمة، بدأت تقارع قرار المحكمة العليا الإسرائيلية بهدمها منذ 2002، وما تزال إلى اليوم. تعيش بلا كهرباء ولا طرق معبَّدة، ولا أي خدمات، وتشتري الماء بأضعاف سعره من صهاريج جوالة. عرضت السلطات الإسرائيلية على أهلها نقلهم الى شقق جديدة مشيَّدة لهذه الغاية في قرية أخرى، فرفضوا قائلين إن ذلك لا يُغريهم... لا شيء مغرياً في أم الحيران، ولكن سكانها يتمسكون ببيوتهم وبمراعيهم شبه القاحلة: "هَجَّرتنا إسرائيل في نكبة 1948 من قريتنا الأصلية، وأسكنتْنا هنا، فصارت مكاننا، وتهجيرنا منه نكبة ثانية". منطق "غير عقلاني" بالكامل، ولاسيما أن المحكمة عادت فثبتت "نهائياً" منذ شهر قرارها بالهدم. نستعيد هنا أسطورة قرية العراقيب، البدوية هي الأخرى، التي هُدمت 82 مرة (!) ليعيد السكان في كل مرة "بناءها"، وفي الحقيقة ينصبون خياماً يأوون إليها.
تتوفّر من فلسطين ومن سواها روايات تعاكس تماماً مقولة إن العين لا تقاوم المخرز، وفي نسختها المودرن أن لكل شيء ثمناً والشاطر مَن يتدبّر أمره بأفضل الشروط. لماذا إذاً يقاوم هؤلاء؟ لماذا يخرج عراقيون، شباباً وشيباً، ليعلنوا أنهم يرفضون الطائفية رغم اكتساحها للمشهد كبلدوزر إسرائيل ذاك، ويقيمون "بيت الشعر العراقي" ومهرجانات ومعارض رسم وحفلات موسيقى بينما تتطاير الأشلاء في الشوارع. منطق "غير عقلاني" بالكامل!
ذلك أن السوق، بعكس ما يُظَنّ، ليس كل شيء. السوق قويّ بالطبع والأنذال كثر ومتكاثرون، ولاسيما في أزمنة الهزائم والنكبات، يتولّون خطاباً عدَمياً إحباطياً فيما يبحثون عن الأكتاف ليأكلوها، يُعلون صوتهم أن كفى أحلاماً وكلاماً معسولاً عن الحرية والكرامة والقيم والحقوق. اقبلوا بالواقع. فيجيبهم أهالي "أم الحيران"، وفلاحون من الأرياف المصرية يقاومون حتى الموت انتزاع أراضيهم منهم لإعادتها إلى أصحابها "الشرعيين" (الذين ربما كانوا أصحابها قبل الإصلاح الزراعي، أو ربما هم متنفّذون حاليون)، وآخرون من ريف العراق، وألف حالة يومية تقع في أحياء المدن والقرى المسحوقة في طول المنطقة وعرضها: لولا الحلم، لولا مقاومتنا واعتقادنا بالإمكان، لَمُتْنا جوعاً وبرداً وتعذيباً وقهراً من زمان. المقاومة شرط للحياة، للقدرة على الاستمرار، خصوصاً حين يكون "توازن القوى" مختلاً لغير مصلحتنا.. وهو دوماً كذلك. نحن بشرٌ ولسنا صراصير.