السعودية: ليبرالية وحداثية.. استبدادية!

الغرض جلي من اعتقال المناضلين السعوديين نساء ورجالاً: التأكيد على أن التدابير "المتحررة" منحة من الحاكم، وملك له يعطيها أو يأخذها وفق أهوائه وحساباته ومصالحه. مِنَّة من السلطان وليست حقاً.
2018-06-30

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
ملصق نشرته صحف سعودية لناشطات وناشطين اعتقلتهم السلطات السعودية..

الأمير بن سلمان الساعي إلى العرش، ليبرالي وحداثي كما يرى نفسه ويقدّمها، وهو متفلّت من الضوابط التي صانها أسلافه، بما فيها مراعاة عدم "الاندلاق" في المحبة على إسرائيل. فهو يصدر التصريح تلو التالي عن "المصالح المشتركة" بينهما (بما يرغب ان يكون تعبيراً عن عقلانية مودرن!)، وهو أحد أقطاب "صفقة القرن"، وصديق مقرب لجاريد كوشنر الذي لا يُعرف بالضبط إن كان صهر ترامب ومستشاره للشرق الاوسط أم بيدق نتنياهو في الإدارة الأميركية (ولو أنها لا تحتاج إليه للتعبير عن صهيونيتها).

ويستغرب محمد بن سلمان ربط السلطة في السعودية بالوهابية الموصومة بالتشدد والتزمت، منكراً سياق نشوء مملكة أجداده على صفقة معلومة بين محمد آل سعود ومحمد بن عبد الوهاب، أتاحت للأول الانتصار في حروبه على سائر العشائر وإخضاعها، ومنحت الثاني مكانة حامل صك الشرعية حيال الأقوال والأفعال. والأمير اتخذ اجراءات اجتماعية عديدة في باب إباحة الترفيه للذكور والإناث (مع الحفاظ على الضوابط الشرعية!)، كفتح قاعات سينما في البلاد (كان المترفون يمتلكونها في قصورهم بينما يكتفي العاديون بالتلفزيون)، والتوقف عن اعتبار الأفلام والموسيقى والمسرح وسائر الفنون رجس من عمل الشيطان.. كما هو لا يرى في النساء مجرد "فتنة" يجب الحجر عليها في أضيق مجال حتى لا تتسبب بالمصائب، ولا يرى فيهن مجرد رمز للتملّك الذكوري الأبوي بمعناه الضيق.. فأجاز لهن قيادة السيارات. وكل هذا تغيّر كبير في بلاده.

ولكن لا بد - وللحق - من القول أن عمه الملك السابق عبد الله قد أقدم على ما يشابه هذه الوجهة في ميدان أكثر أهمية هو تعميم تعليم البنات وإدخالهن الى الجامعات المميّزة (وليس فحسب المخصصة لهن)، وتوسيع ابتعاثهن، بل هو أشرك نسبة منهن في مجلس الشورى، وأعطاهن الحق بالتصويت في انتخابات الجالس البلدية (المجال الوحيد الذي تجري فيه انتخابات، فلا برلمان في السعودية)، وبالترشح الى هذه المجالس.. ولو أن عدد الفائزات في الدورة التي جرت عام 2015 كان 20 امرأة من أكثر من 2000 منتخَب، واعقبه جدل واسع وحيرة حول أصول مشاركتهن، وهل تتم مباشرة أم من خلف حُجب..

لكن المجالات الاستعراضية لإجراءات الأمير أكثر إثارة بالتأكيد من هذه المواضيع الجادة والمضجرة، وهي جعلت له شعبية بين الفئات الشابة وخاصة في المدن، التي كانت تختنق بالمعنى الحرفي للكلمة من ذلك التزمّت الشاذ، وتخترع متنفسات شتى، ومتناقضة. وقد مرر الأمير تلك القرارات مع إجراءات ليبرالية في الاقتصاد، ومع ما عرف بـ"رؤيا 2030" التي جَهّزها له وفق ما بات معروفاً مكتب استشارات أميركي مشهور ("ماكنزي وشركاه"، وإن نفى هذا الاخير ذلك بطريقة ملتبسة..).

كانت تلك التدابير التي قررها الأمير هي العنوان الأكثر شهرة للتحديث الذي ينوي القيام به. وقد نُفذت بسرعة قياسية لو أخذنا بالاعتبار مرور كل الزمن السابق في التفنن بتحريمها. ولكنها حملت معها في الوقت نفسه نقائضها. وهذا أمر متوقع، حيث الامير مستعجل لإثبات سلطته هنا بعدما صفى منافسيه، ولكنه يعرف يقيناً حدود هذه السلطة وخطر أن تفلت عن السيطرة، وأن تؤلب مثلاً التيار الديني الوهابي ومؤسساته المتنفذة، أو أن يوظفها ضده خصومه من أبناء عمه وما أكثرهم، فراح "يضرب مرة على الحافر ومرة على المسمار" كما يقول المثل. ولعل حادثة فرقة الباليه الروسية الشهيرة التي استُقدمت الى الرياض تعبِّر عن الحال، فالراقصات لم يكن محتشمات بما فيه الكفاية في بلاد العباءة الالزامية بل والنقاب، مما جعل الفارق بين الحالتين شيزوفرينياً، وأطاح برئيس هيئة الترفيه.

لكن دعونا من المزاح!

المظهر الأبرز للحظة الراهنة هو اعتقال الناشطين الحقوقيين بما فيهم النسويات، وهؤلاء جميعاً ليسوا من الصنف المنفلت من كل عقال، بل يجيدون مراعاة الأصول المعمول بها ويعرفون السقف المطلوب لتجنّب انفلات القمع الشديد. وقد صرّح مؤخراً النائب العام السعودي بأن "السلطات ألقت القبض على 17 شخصاً إجمالاً ثم أطلقت سراح 8 منهم، موجهة لهم تهماً بإجراء اتصالات مريبة مع جهات خارجية"، وهو أضاف أن "السلطات تسعى للقبض على المزيد من المشتبه بهم"، من الذين وصفتهم وسائل الإعلام المحلية بـ"الخونة".. وقد كان آخر المعتقلين منذ يومين هتون أجواد الفاسي وهي استاذة تاريخ معروفة وكاتبة وباحثة كثيراً ما استضافتها القنوات التلفزيونية، بما فيها تلك السعودية. والفاسي سيدة في منتصف الخمسينات من عمرها (كأغلب المعتقَلات أصلاً)، اشتهرت بتحليلاتها المميزة والصارمة للاوضاع، وإن بهدوء في النبرة، وهي تحليلات تتجاوز الشأن النسوي - مع كونها إحدى رائداته - الى الشأن العام، ومنه مثلاً تناول حدود "رؤيا 2030" تلك، والتشديد على مكامن الضعف فيها، والسؤال عن مصير الخطط التي سبقتها. وتتميز السيدة بارتدائها اللباس التقليدي لمنطقة الحجاز، بما فيه غطاء رأس أبيض وثياب عادية، بعكس العباءة السوداء الشائعة...

الغرض جلي: أولاً وقبل كل شيء التأكيد على أن التدابير "المتحررة" هي منحة من السلطات، وهي ملك لها تعطيها أو تأخذها ساعة تشاء ووفق أهواء وقناعات رأسها وحساباته ومصالحه. أي انها مِنَّة من السلطان وليست حقاً. ولذا فهي استهدفت رموز المطالبة بحق النساء بقيادة السيارات قبيل تطبيق الاجراء وفي الأيام التي تلته، من دون أن يتفاخر أي من المناضلين بأنه ثمرة نضالهم ومطالباتهم، بل هم امتدحوا "المنحة" واشادوا بها، وحتى فسروا فائدتها للبلاد حيث ستوفر 10 آلاف وظيفة اضافية للنساء وستختصر نفقات كثيرة على الأسر أبرزها كلفة توظيف سواقين، بل وصل بعضهم للقول انها توفر مزيداً من المنعة للمرأة عوض عن أن تكون بصحبة رجل غريب..

ولعل السبب الثاني الذي قد يفسر السلوك السلطوي هو التهيوء للمعركة التالية، وهي أكبر بكثير وأعمق معنى من اتاحة قيادة السيارة للنساء: الولاية. إذ تطالب هذه الحركة، بنسائها ورجالها، بالغاء ولاية الرجل (أباً أو زوجاً أو أخاً.. أو إبناً) على المرأة والاعتراف بولايتها على نفسها عوض أن تبقى قاصراً مدى الحياة. وهذه معركة تمس أسس بناء المنظومة الذكورية الأبوية كما هي قائمة في السعودية. وهي مطروحة منذ سنوات وسجنت بسببها في السابق مناضلات نسويات سعوديات.

مقالات من السعودية

خيبة م ب س الاقتصادية

كان النزاع المدمر على سوق النفط، ودور السعودية - وبخاصة محمد بن سلمان- في تأجيجه، مقامرة وحماقة في آن. فإن كانت السعودية تخسر 12 مليون دولار يومياً مقابل كل دولار...

للكاتب نفسه

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...