صار خبر القبض على صحافي في مصر أو حجب موقع أو تغريم صحيفة من الأخبار العادية، اليومية، ما أدى إلى انتشار هاشتاغ # الصحافة_ليست_جريمة. ومنذ أن قال الرئيس عبد الفتاح السيسي عام 2014 - خلال احتفالية إعلان تدشين محور تنمية قناة السويس - "عبد الناصر كان محظوط، لأنه كان بيتكلم والإعلام كان معاه"، تجري محاولات لإعادة تشكيل خريطة الإعلام المصري من جديد بوضع سقف محدّد للحرية المسموح بها في وسائل الإعلام.. في الوقت الذي تتنافس فيه وسائل الإعلام العالمية لإلغاء أي سقف للحرية يحد من عملها. كما أن هناك جهداً ضخماً لإعادة الرقابة على ما يتم نشره أو تداوله من معلومات.. في الوقت الذي سهلت فيه التكنولوجيا الحديثة إمكانية الحصول على المعلومة من مختلف المنصات الصحافية الالكترونية - عربية أو غربية - ومن وسائل التواصل الاجتماعي، فيتمكن عموم الناس من المقارنة بينها. وهناك سعي حثيث لإعادة الزمن للوراء بحيث يكون هناك مصدر واحد للمعلومة هي المؤسسات الحكومية بكل أشكالها.. في الوقت الذي تتيح سرعة تداول المعلومات، انتشارها الكبير.
وبعد مرور "اليوم العالمي لحرية الصحافة" مؤخراً بصمت، فها هي أهم ملامح المشهد الإعلامي المصري:
حجب المواقع
وصل عدد المواقع المحجوبة إلى ما يقارب 496 موقعا حتى الاول من شباط/ فبراير 2018، بحسب "مؤسسة حرية الفكر والتعبير"، ما جعل عدداً من هذه المواقع يلجأ إلى وسائل بديلة لتقديم محتواها وتسهيل الاطلاع عليه، مثل صفحته على "فايسبوك" كما فعل موقع "مدى مصر"، أو تقديم رابط "بروكسي" يسهل فتح الموقع مثلما فعل "اضاءات"، وهناك من لجأ لتأسيس موقع جديد مثل "عربي بوست" والذي كان في السابق يظهر باسم "هافنغتون بوست"، والسبب هو سحب رخصة استخدام الاسم باللغة العربية من "هافنغتون بوست" الأجنبية.
أما آخر تلك المواقع المحجوبة فكان "المنصّة" و"مصر العربية"، وكذلك موقع جريدة "المصري اليوم" - لعدة أيام فقط - ولم يذكر أي سبب لحجب أي موقع سوى "مصر العربية" (عدم وجود ترخيص).
المفارقة أن بعض المواقع المحجوبة ليس لها انتماء سياسي. "نون" النسائي مثلاً، و"إضاءات"، و"صوت الأمة"، ويبدو أن الحجب حدث عن طريق الخطأ ثم عادت تلك المواقع للظهور بعد بضعة أيام، فصار الأمر "نكتة".
محاولة حجب المواقع هدفها الوحيد هو ضمان عدم وصول أي معلومة للجمهور، سوى ما تبثه وسائل الإعلام الحكومية، ووسائل الإعلام الخاصة - المسموح لها بالعمل بشروط - لضمان السيطرة على المشهد الاعلامي .
غياب حرية الرأي
من الصحف المصرية المهمة في مجال الصحافة الخاصة، هي صحيفة "المصري اليوم" التي بدأت منذ 2004 وقدمت مفهوماً جديداً للصحافة الخاصة يركز على المواطن وقضاياه، مع عرض كافة وجهات النظر بما فيها تلك المعارضة.
بدأت أزمة "المصري اليوم" بعد نشرها "مانشيت" خلال الانتخابات الرئاسية بعنوان "مصر تحشد الناخبين في آخر أيام الانتخابات". وعلى الرغم من بساطة العنوان إلا أنه كان سبباً في إقالة مدير تحريرها وتغريمه 150 ألف جنيه من قبل "المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام" بعد تقديم "الهيئة الوطنية للانتخابات" شكوى ضد الصحيفة تضمنت "نشرت أخبار وبيانات كاذبة بهدف الإساءة إلى الانتخابات الرئاسية والهيئة المشرفة على إدارتها والتشكيك في نزاهة العملية الانتخابية برمتها".
بحسب "لجنة حماية الصحافيين الدولية" تحتلّ مصر المركز الثالث عالمياً من حيث أكبر عدد من السجناء الصحافيين، بعد تركيا والصين.
وعلى الرغم من اعتذار الصحيفة وسحب الطبعة الثانية من الأسواق، إلا إن كل ذلك لم يوقف الحملة شرسة ضدها. وحاول رئيس لجنة حقوق الإنسان بمجلس النواب تقديم بلاغ للنائب العام ضد الصحيفة، بينما قدّم أحد المحامين بالفعل بلاغاً للنائب العام، وقام الأخير بإحالته لنيابة أمن الدولة العليا.
الاتهامات المتبادلة بين العاملين في الصحيفة بين مؤيد ومعارض لموقفها من الأزمة، ودعوة البعض للمهادنة باعتبار أن المزاج الحكومي لا يسمح بأي تجاوزات لسقف الحرية المحدد، كانت النتيجة التي تابعها الكثيرون. أما المختلف هذه المرة فهو قيام رئيس التحرير بكتابة مقال يقدم فيه اعتذاراً عاماً، ولكنه كان من دون فائدة لأن الحملة لم تتوقف إلا بإقالته.
والمفارقة هنا أيضاً أن الهجوم الذي تعرضت له الصحيفة لم ينطلق من أبواق إعلامية مملوكة للدولة فحسب، سواء كانت قنوات تليفزيونية أو صحف، ولكن من صحف خاصة، كلها تلعب دور "حارس البوابة" التي يدرسها أي طالب في مجال الإعلام وتعتمد على الدعوة لوجود رقابة ذاتية.
القبض على الصحافيين
هناك تعبير في العامية المصرية هو "بيعمل الشيء الفلاني كأنه يشرب كوب مياه"، وهو تعبير يوحى بأهمية فعل معين مع استهتار الشخص الذي يقوم بهذا الفعل، وهو التعبير الأنسب لوصف القبض على الصحافيين الذي صار يتم بشكل عشوائي وشبه يومي، ويناقض نص المادة "65" والمادة "70" من الدستور التي تكفل حرية الرأي والتعبير.
لم يعد هناك شكل أو حدود واضحة لمهمة الصحافي، يمكن بعدها القول إنه تخطى حدود النشر أو التعبير الخاص بالأمن القومي أو بهيبة الدولة، ما جعل صحافية مثل مي الصباغ والمصور أحمد مصطفى (كانا يجهزان لتقرير عن ترام الإسكندرية) يتعرضان للقبض عليهما وحبسهما 15 يوماً في أحد السجون في دمنهور.
وبحسب "لجنة حماية الصحافيين الدولية" في نيويورك، فإن مصر تحتل المركز الثالث من حيث أكبر عدد من السجناء الصحافيين فيها، بعد تركيا والصين. وبلغ عدد الصحافيين الذين تمّ القبض عليهم في مصر - بحسب اللجنة - 12 صحافياً حتى 17 كانون الاول/ ديسمبر 2017. ولكن وبعد مرور 5 أشهر على هذا التاريخ، فقد وصل الرقم إلى 20 شخصاً، والتهم متنوعة وأحياناً لا توجد تهمة، فيصبح الاحتجاز من دون تحقيق، مثلما هو حال المصور محمد أبو زيد الشهير بـ"شوكان".. ويعتبر المصورون أكثر فئة تتعرض للقبض بعد الصحافيين.
المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام
على الرغم من مرور عام على إنشائه في 12 نيسان/ أبريل 2017، مع "الهيئة الوطنية للإعلام" و"الهيئة الوطنية للصحافة"، إلا أن المجلس (بالإضافة إلى الهيئتين السابقتين) لم يناقش حتى الآن قانون الصحافة الذي ينظم عمله مع الصحف ورؤساء تحريرها من جهة، ونقابة الصحافيين من جهة أخرى، بل انشغل بقضايا فرعية مثل ضبط الألفاظ التي تصدر في الإعلام وخصوصاً على القنوات الفضائية، أو الاهتمام بأن تكون لغة الدراما التلفزيونية "غير خادشة للحياء" - في الوقت الذي قال فيه رئيس المجلس لفظاً خادشاً للحياء على الهواء في أحد اللقاءات - وكذلك الاهتمام بملابس الصحافيين بعد أن أكد رئيس المجلس ضرورة عدم ارتداء الصحافي لـ"الجينز" عند مقابلة وزير أو مسؤول، كجزء من احترام مهنة الصحافة!
صحافيون بلا ضمانات أو حماية
كانت أكبر معاناة للصحافيين في مصر حتى فترة قريبة هي عدم الاعتراف بصفتهم الصحافية إذا لم يكن واحدهم حاملاً لـ"بطاقة" نقابة الصحافيين. ولكن صارت تلك المعاناة حالياً مجرد نقطة في بحر الأزمات التي تحيط بالصحافي من كل جانب، وتجعل قيامه بعمله أشبه بمعجزة.
فضعف الرواتب الحاد وتأخيرها، بل وتسليمها على مراحل - كما يحدث في إحدى الصحف الخاصة - في ظل الغلاء الطاحن، جعل البعض يقرر ترك المهنة لاستكمال الدراسة الأكاديمية، أو للحصول على وظيفة حكومية، بينما قرر البعض الآخر البحث عن عمل آخر بجانب العمل الصحافي مثل التجارة، أو بيع الملابس أو الأحذية وفتح محال تجارية أو صنع الاطعمة المنزلية..
بعض المواقع المحجوبة ليس لها انتماء سياسي. "نون" النسائي مثلاً، و"إضاءات"، و"صوت الأمة".. ويبدو أن الحجب حدث عن طريق الخطأ ثم عادت تلك المواقع للظهور بعد بضعة أيام، فصار الأمر "نكتة".
أما الأزمة الاخرى، فهي الفصل التعسفي بدون مبرر – حتى لو كان الصحافي مسجلاً بنقابة الصحافيين ولديه تأمين وظيفي. وكانت أبرز الامثلة ما حدث في صحيفة "المصري اليوم" في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2016 حين تمّ إجبار الصحافيين على الاستقالة لقاء المساومة على الحصول على جزء من الأرباح السنوية وإلا فتعرضهم للفصل التعسفي، وكذلك ما حدث في صحيفة "اليوم السابع" في آب/ أغسطس 2017، بعد أن تم فصل 18 شخصا بسبب آرائهم السياسية التي أفصحوا عنها على مواقع التواصل الاجتماعى - حين أعلنوا رفضهم لاتفاقية تيران وصنافير. وبعد تدخل نقابة الصحافيين في الأمر، أعيد منهم 15 شخصاً بينما رفضت إعادة ثلاثة منهم بسبب إصرارهم على عدم التنازل عن آرائهم وتقديم شكاوى في النقابة.
وخلال العام المنصرم، تعرض عدد من الصحافيين للفصل التعسفي بدون مبرر في جرائد مثل "الأنباء الدولية" و"الدستور"، وقد أعلن حماد الرميحىي اعتصامه في النقابة اعتراضاً على التعسف معه من جانب الإدارة.
هناك تهديد دائم بأن يترك الصحافي عمله أما بالفصل التعسفي، أو لغياب التمويل أو حتى لتعرض الصحيفة للإفلاس.. فلم يعد الفيصل هو العمل الصحافي الجيد أو القوانين التي تسنها الدولة وتنفذها نقابة الصحلفيين بل أصبح الأمر خاضعاً كثيراً للهوى. وبالطبع أصبح تقديم أي تدريب مهني داخل المؤسسات الصحافية بهدف تطوير العمل أمراً نادراً، ويعتمد كثير من الصحافيين على المنح الخارجية التي تقدمها جهات أجنبية أو عربية، والاستثناء الوحيد في ذلك هي صحيفة "الوطن" التي حرصت على تقديم تدريبات صحافية للعاملين فيها في كافة المجالات، وبشكل مجاني.
وفي النهاية، يحتاج الوضع الصحافي في مصر إلى التطوير من حيث القوانين المنظمة للعمل وتلك التي تحمي الصحافيين أو التي تعيد تشكيل العلاقة بين الصحافي والمؤسسة التي يعمل بها، بالإضافة إلى التركيز على العنصر البشري من حيث توفير بيئة آمنة لعمل الصحافيين، ومناخ ملائم لممارسة العمل الصحافي من دون خوف، بعد أن صارت الصحافة تعامل وكأنها "جريمة".