هذا شارع وسط عشرات العمارات المتجهمة في حي سيدي مومن الجديد الذي ظهر بجانب سيدي مومن القديم. ومنه خرج إرهابيو السادس عشر من أيار/مايو 2003. تهب ريح باردة في هذه الظهيرة الشتوية. خمس شبان يقفون حول عمود كهربائي. أنهوا كل المواضيع التي تكلموا فيها. فجأة وقفت سيارة نزلت منها شابة أنيقة ودخلت المصبغة مسرعة (اسمها المصبنة في المغرب). صرخ شاب "أصحاب الدراهم جننونا". تدرك الشابة أنها تحت عشرة عيون. في الجو توتر وخوف. الشابة تسرع لتعود للسيارة. يراقبها شبان نصف متعلمين بلا عمل ولا موارد، وواحد منهم على الأقل في موقف بحث عن فريسة. بينما يلفّ عامل المصبغة الملابس ترجع الشابة قليلا للخلف لترى هل غيّر الشبان طريقة وقوفهم أو هل تحركوا.. ودفعت الحساب. مر شرطي على دراجة نارية فتقدمت الشابة بخطى ثابتة لسيارتها ومضت.
منجم سوسيولوجي
رصد السوسيولوجي البصاص هذه اللقطة بالصدفة. ثم رجع لاحقا للمكان - في حماية السيارة المغلقة من الداخل وزجاج نافذة نصف مفتوح لكي لا يظهر الحاسوب - لتقصي بذور الكارثة القادمة. نحن هنا على بعد خمسمئة متر من خط الترامواي. بسبب الرعي العشوائي للحمير الجوالة، انقرضت المجالات الخضراء وغطتها المزابل. المشهد هنا مختلف عن تلك الواجهة التي يراها ركاب التراموي. فهم يرون واجهات لعمارات فيها شقق تزيد مساحتها عن سبعين مترا، عمارات فيها شقتان أو أربع في كل طابق على الأكثر. مصبوغة بشكل جيد وفي شرفاتها بعض الورد.. على الواجهة أحياء جديدة وشوارع واسعة وأماكن وقوف للسيارات.
وتتمدد هذه الواجهة لأن الدار البيضاء تكبر بسرعة في اتجاه الرباط عبر شريط ساحلي فيه أرض مستوية يمتد فيها طريق سيار ثلاثي في الاتجاهين، قلص مدة التنقل بالسيارة بين العاصمة الإدارية والعاصمة الاقتصادية للمغرب إلى خمس وأربعين دقيقة. حين نبتعد عن واجهة الترامواي، تختفي الرومانسية. فخلف العمارات الأنيقة الملونة منجم سوسيولوجي. هناك مئات العمارات الداكنة. عمارات من ثماني شقق في الطابق الواحد. هنا، ومع ارتفاع الزحام والجريمة تتزايد الحاجة للبوليس. إن لم يظهر الشرطي يمكن للمواطن التجول في الثالثة بعد الظهر بأمان هنا طالما أنه لا يملك شيئا.
الناس يحلمون بالجدران
سابقا بني الناس منازل عشوائية، حسب ما توفر من أرض ومن إمكانيات، وترتبت عن ذلك تجمعات سكنية أشبه بمخيمات اللاجئين، بلا تصميم ولا مرافق أساسية وغير قابلة للمراقبة من طرف البوليس وغير قابلة لإدخال إصلاحات عليها إلا بهدمها أو تركها على حالها. وهذه خيارات صعبة.
بعد تفجيرات 16 أيار/مايو، أرادت الدولة تنقية وجهها ففتحت مجالا مهولا للتعمير وسهّلت الحصول على شقق لسكان أحياء الصفيح. واشدد على "مهول" لأن آلاف الهكتارات عبدت طرقاتها وبنيت فيها عمارات. لكن الطلب أيضا كبير. فحسب الإحصائيات هناك 360 ألف شخص يقطنون دورا آيلة للسقوط في الدار البيضاء. بالنسبة لهؤلاء، فهذه العمارات/الأقفاص فرصة ذهبية طالما أن الترامواي يضمن لهم التنقل بأقل كلفة. والعمارة تعني توفير عملين دائمين على الأقل، بواب وحارس سيارات، ومهن أخرى تجلب سكانا جددا، فيبلغ الاكتظاظ مداه بسرعة البرق.
في الدار البيضاء العقار ملك. في التلفزيون والجرائد وفي المحلات التجارية الكبرى إعلان عن مسابقات بلا حصر والجائزة واحدة مقدسة: "شاركوا وفوزوا بشقة ممتازة مفروشة". الناس يحلمون بالجدران. فكما أن حقيقة الناس في أجسادهم فإن حقيقة المدن في جدرانها.
والدولة تعي ذلك. لذلك تستبق الطلب لتحتويه متجنبة أخطاء الماضي. تريد السلطة هندسة الواقع العقاري وتوجيهه بدل أن يقع على رأسها ويفرض عليها نفسه. لذا تفتح أراضي بكر. تشق شوارع واسعة بسرعة، تفتح محاور طرقية لا توجد حتى في العاصمة. ضواحي الدار البيضاء أكثر جاذبية للعيش من وسط المدينة المزدحم والغالي. هنا ضغط سكاني أقل. يمكن العثور على مكان لركن السيارة نهارا بسهولة. تنبت عمارات محل حقول الفول. مناطق ريفية كبيرة انضمت للمجال العمراني وصارت تسمى "سيدي مومن جديد". هنا الغيتوهات المستقلة بذاتها. هنا يسكن "بوزبال"، وهو المصلح الذي اخترعه سكان الدار البيضاء للتمييز بين من يملكون ومن لا يملكون (لا مالا ولا تعليما)، للتمييز بين المتحضرين وغير المتحضرين. في الأشهر الأولى لإقامتي بالدار البيضاء وجدت هذه التسمية مهينة. وهي كذلك. بعد عام صارت عادية، وحاليا أتعلم الشتم بسهولة، وقد بدأت بعض الكلمات من تحت الحزام تخرج من فمي. طبعا سيغضب الكثيرون حين يقرؤون "بوزبال" هنا، لكنهم لا يستطيعون إنكار استخدامهم لها مئة مرة على الأقل:
- سياسيا، لا يقطن المنتخَبون هنا. المقرات الحزبية مغلقة إلى حين الانتخابات. حسب تصريحات مسنين - أميون منهكون بدنيا - فإنه ينتشر شراء الأصوات بكثافة في الانتخابات. والحجة أن المرشح سيختفي حين ينجح، لذا يجب انتهاز الفرصة "لحَلْبه" الآن. لا ينتظر منه أحد شيئا. يوجد حي اسمه "الرجاء في الله". هكذا سمى الناس الحي. فرجاؤهم في الله فقط وليس في الدولة ولا في الشركات التي تشغلهم في الحي الصناعي. ولصالح هذه الشركات تم التغاضي عن البؤس في حي سيدي مومن بغرض توفير يد عاملة رخيصة جدا. وهذا التمييز مستمر، فشركات الاتصالات لا تستثمر كثيرا في سيدي مومن، لذا فتغطية الشبكة العنكبوتية ضعيفة. يقول الشبان إن بطء الانترنيت سيفجر مرارتهم ويسبب لهم السكري والكولستيرول وهي أمراض تليق بالأغنياء الذين لا تبذل أجسادهم جهدا.. فأشكال الأجساد وخاصة الأصابع تقول الكثير عن أصحابها.
- اجتماعياً، جل السكان يعملون في وظائف بدنية. وقفت على امرأة في الخمسين تغسل أرضية مخبزة وشعرت بالعار. هذه مهن تتطلب لياقة بدنية فقط. كلما شاخ شاغلوها تراجع دخلهم وتم الاستغناء عنهم، وبذلك يفسحون المجال لمهاجرين جدد، ريفيون في الغالب، يستيقظون مبكرا ومستعدون لبذل أذرعهم بسخاء، بخلاف أبناء المدن المدللين الذين يخشون الغبار والعرق وحمل قنينة غاز طهي لمسافة عشرة أمتار..
-أما الثقافة فغير موجودة بتاتا. صحيح أن نبيل عيوش أسس مركزا ثقافيا في الحي الذي صور فيه فيلمه "يا خيل الله" عن الإرهاب. لكن وزير الأوقاف تفاخر أمام الملك بافتتاح 160 مسجداً في المغرب في الستة أشهر الأخيرة من 2014. حضور الدولة واضح على الصعيد الأمني والديني. لا توجد دور شباب في الوسط، توجد مكتبة بلدية فارغة أغلب الوقت، وقد سرق جل كتبها الأساسية (قال المكلف أن أعضاء المجلس البلدي يرسلون "أصدقاء" من طرفهم لأخذ الكتب دون أن يرجعوها).
النتيجة: لا يوجد ما يكفي لاجتثاث مقدمات الكارثة. لا يوفر سيدي مومن حاضنة لآلاف الشبان الذين لفظتهم المؤسسات التعليمية في منتصف الطريق. فالشاب الذي طرد من المدرسة يجد نفسه يبدأ من الصفر في الشارع. كانت المدرسة بوصلته وعشه طيلة عشر سنوات. وطيلة هذه المدة وفر له والداه السكن والأكل مجانا. لكن يوم طرد من المدرسة صارا يحاسبانه. يقول له أبوه "أخرج". عليه أن يجلب ما سيأكله. وهذا هو المشكل رقم واحد في الحي الشعبي: الأكل. كان الشاب يلوم والديه لأنه يتناول الخبز والشاي في الصباح والمساء. والآن يجد صعوبة في توفير هذا "الرزق" الحقير. عليه أن يعمل. لكن يداه لا تتقنان شيئا. لقد فات أوان تعلم حرفة. لذا فالعمل السهل هو حمال. أو "حوفار" من الحفر بالفأس. يحفر في التراب والإسمنت.
الخيارات: حوفار أو حباس
تعمل أم "الحمال" غسالة أو بائعة خضر، وهو يرى نفسه يكرر حياة والديه. يرى أشباهه يعملون في مهن عابرة منهكة بدنياً بدخل منخفض وتوقيت غير منتظم.. يرى فيهم مصيره وهذا يرعبه. ما البديل؟
البديل الأول: يعمد بعض الشبان لقطع الطريق في الصباح الباكر قبل مرور دراجة الشرطي. في الصباح يسرق البطل حقائب النساء وهواتفهن وينجو بسهولة حين تكون لديه دراجة نارية غير مسجلة. ومن هؤلاء آلاف.. لكن الهواتف الغبية المسروقة صارت ذكية وتكشف لصوصها. حتى حاويات الزبالة فيها جي بي إس وتكشف من سرقها، وتأتي شركة جمع الزبالة والشرطة لاسترجاع ملكيتها، والناس ينظرون للص في يد الشرطة. هكذا ينتهي الشبان في السجن لعدة سنوات. ويلقبون بـ "الحبّاسة" وهي صيغة مبالغة عن كثرة دخول الحبس. ما البديل؟
الجواب عبارة عن حنين. ويبدأ بلو وليت. لو حصل على البكالوريا لعيّنته شركة لتسجيل دخول وخروج العمال في الحاسوب. لكن الشاب المحبط لا يعرف من الحاسوب إلا الفايسبوك. لم يخطر بباله أن في الحاسوب مئات البرامج المدرة للدخل، لذا لم يتعلمها.
لا توجد منافذ وبدائل. وتعبر اللغة عن هذا. فاللغة حمّالة وعي. يصف الشبان بعضهم بعضا بـ "بوزبال". ويدركون أن الناس يصفونهم بذلك. وكلما زاد سخط الشاب على واقعه زاد المعجم الجنسي في كلامه. وهذا سلوك ثوري رث. ويحصل أن يدعو أحدهم على نفسه "الله يعطيني عام حبس" أو "الله يعطيني غبّارة". أي أن تنشق الأرض وتبلعه ليتخلص من قلقه. ويدل المعجم المستخدم على مدى كراهية الواقع وكراهية الذات.
البديل الثاني: تحدثت للعديد من الشبان، يعترف محاوري بأن مستواه التعليمي يؤهله لعمل واحد: "حمال". مثل ماذا؟ أجاب: مثل الحمار. حين أحرجته بالأسئلة التي تدينه لأنه ترك الدراسة ظهرت جاهزيته لاستخدام يده. شباب يعتقد أنه سيحقق كل أحلامه بعضلاته، بسبب خوائه الثقافي يسهل شحذ عاطفته الدينية التي تشربها في مجتمع متدين. مع الخواء الثقافي يسهل تعريضه لغسيل دماغ، ليتوب فينتقل من الانحراف للتشدد دفعة واحدة، دون أن يغير سلوكياته العنيفة. فقط أنه بعد التوبة فهو يزعم أنه في خدمة الله... وهذه حالات مرصودة هنا. جرت توبات جد مفاجئة كما في فيلم نبيل عيوش، فقد دخل الحشاش السكير العنيف إلى السجن وخرج داعية إلى الله. تاب هناك.
جلست طويلا في المكان أراقب. أحاول أن أراقب بعين محايدة. أي ليس بتلك العين التي تتعاطف مع الناس وتدين السلطة مسبقا. أرهبتني تعقيدات الوضع. الدولة شقت طرقا عرضها عشرين مترا. ودفنت قنوات صرف صحي يمكنني أن أسير فيها واقفا. شرطة ومساجد، ومراكز تكوين مهني تتطلب معرفة باللغة الفرنسية..
السؤال هو كيف يمكن مساعدة كتل بشرية بلا تكوين وبلا موارد وبحاجات تتزايد؟ كيف تدبر عشرات آلاف الشبان الذين بلغوا العشرين بلا تعليم تقريبا، ويريدون عملا ودخلا وحياة بكرامة؟
يجب العمل على عقول هؤلاء الشبان لمنحهم الأمل. هناك حاجة ضخمة لمكافحة الجهل. الدولة المغربية ملزمة بصرف أرباح انخفاض البترول في المجال الثقافي. وسيكون العائد مربحا مهْما كان منخفضا. لكي لا يسمع من جديد نداء " يا خيل الله اركبي والى الله ارغبي" بالدار البيضاء.. ولكي لا يتكرر ما حصل بباريس.