زرع الفلاحون المغاربة في تشرين الأوّل/ أكتوبر، ونبت الزرع وعمَّ الفرح، ثم تأخر المطر. بقيت الأرض حمراء ولم تنبت حشائش لرعي البقر والغنم. مرت الشهور. بلغت التساقطات 83 ملم حتى بداية شباط/ فبراير الجاري مقابل 223 ملم في المواسم العادية.. بين حين وآخر تهطل أمطار غير منتظمة تليها شمس حارة بشكل غريب. ارتفعت أسعار الأعلاف، لا أسعار الخضر واللحم. صار الفلاح ينفق على بهائمه أكثر مما ينفق على نفسه. صمد مربو الأغنام في وجه الجفاف بشكل أفضل، فمعدة الخروف صغيرة تتحمل الأزمات. الصعوبة الأشد يواجهها مربو البقر المستورَد الذي يأكل كثيراً. في البادية البقرة هي السيد والفلاح هو العبد، بقرة ثمنها ثلاثة آلاف دولار يصعب إشباعها، إذا رضعها عجلها كلها دفعة واحدة يموت، إذا بقي العجل الذي ترك جده في هولندا ثلاث ساعات في شمس هذه الأيام يمرض.. تعبيراً عن تقدير البقر، أعلن رئيس الوزراء عبد الإله بنكيران بفرح أن وزير الفلاحة تمكن من وضع رقم في أذن مليون و800 ألف بقرة. وقد طلب رئيس الوزراء من البرلمانيين التصفيق للوزير أثناء نقل مباشر على التلفزة. فصفقوا بحرارة. بفضل الترقيم يصعب سرقة البقر، وهذه جريمة زادت في السنوات الأخيرة.
لقد صعَّبت الجريمة والتغير المناخي حياة البوادي مع تعاقب سنوات من الجفاف. هذا مما يؤثر على المخزون الغذائي للماشية وعلى كل الاقتصاد الوطني. حسب التوقعات، فلا حصاد في الصيف، وهو أهم فصل لأنه يسمح بتجديد المخزون الغذائي. الحصاد يحمي الفقراء من الجوع. ولتقليل الخسائر، أعلنت الحكومة عن إستراتيجية لمكافحة آثار الجفاف: ستساعد الحكومة مربي الماشية، ستبيع لهم الشعير بثمن منخفض. وقد برر رئيس الوزراء هذا الدعم بقوله "نحن نخب المدن حصلنا على نصيبنا وأكثر، بينما سكان البوادي ضاع حقهم لأنهم لا يعرفون الإضراب عن الطعام ولا تنظيم المسيرات".
دائماً ما كان وضع سكان البوادي أسوأ من وضع سكان المدن. اللعنة على من لا مورد له. لا يحتج الفلاحون ولا يتباكون، لقد تعلموا الاعتماد على أنفسهم، حتى أن البطالة في البوادي أقل بكثير من بطالة الحاصلين على الشهادات الجامعية في المدن. واضح أن الفلاحة أرحم بأولادها من المدرسة. بالإضافة لذلك تخفف الهجرة القروية الضغط على اقتصاد الأرياف، وتصير هناك أفواه أقل.
حالياً صارت مواسم الجفاف متقاربة، لكن الفلاح المغربي طوّر تقنياته ونوّع دخله في السنوات العشر الأخيرة. الدليل: في 2015، ارتفعت صادرات الخضار والفواكه المغربية نحو الاتحاد الأوروبي بنسبة 15 في المئة، وتجاوزت 630 مليون يورو. هذا من دون احتساب روسيا التي تستورد الخضار والحوامض من المغرب بعد أن غضبت من تركيا ولله الحمد. النتيجة الجيدة هي أن الآثار الاجتماعية للجفاف في 2016 أخف من تلك التي سبّبها جفاف ثمانينيات القرن الماضي.
برغم هذه الأخبار الطيبة، فالمطر ضرورة اقتصادية ونفسية وسياسية. وكل طرف يتناول الجفاف من زاوية حساباته الخاصة. الزمن الفِلاحي يتبع المطر والزمن العلماني يتبع الشمس والزمن الديني يتبع الأشهر القمرية. تتعايش هذه الأزمنة في المغرب وتتنافس. لقد برر بنكيران هطول المطر برضى الله وبكون حكومته محظوظة مباركة، واستحضر قول الله في القرآن "وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا".
أما هذا العام، فظهرت بعض العناوين الصحافية محملة بسموم الشماتة، وكأن الجفاف ضرب فيلا بنكيران وليس ملايين الفلاحين المغاربة حتى حزن أقاربهم في المدن.
سياسياً، البوادي حالياً هي محط تعاطف وتباكي زعماء الأحزاب والبرلمانيين. لا أحد منهم يجرؤ على التنديد بإعفاء الفلاحين من الضريبة. في تفسيره للقلق والعطف الفائض على البادية هذه الأيام، كتب صحافي "أن الأحزاب ذات المخزون الانتخابي القروي أكبر المتضررين من الجفاف، إذا استمر لا قدّر الله، ستحدث هجرة قروية مكثفة ولن تجد تلك الأحزاب من يصوت لها في أكتوبر المقبل".
تدرك الدولة العميقة هذا الخطر الذي يهدد الأحزاب الموالية لها. لذا، فهناك بند ثابت في السياسات العمومية، كل وزير مغربي يكرر هذه الجملة "الاهتمام بالعالم القروي". وقد أعلن الملك، وتابَع عن قرب مخطط المغرب الأخضر كإستراتيجية ميدانية لا شفوية تهدف أولا لإعطاء القطاع الفِلاحي دينامية متطورة، وثانيا تثمِّن الإمكانات واستثمار هوامش التطور، وتواكب ثالثاً التحولات العميقة التي يعرفها قطاع الصناعات الغذائية. والنتيجة سياسة فِلاحية تجمع بين الاستجابة لمتطلبات السوق ومحاربة الفقر في العالم القروي عبر تحسين دخل الفلاحين الصغار.
النتائج مذهلة. قال مدير بنك المغرب إن الفضل في تحقيق نمو بنسبة 4.5 في المئة في 2015 يرجع للقطاع الفلاحي، ولاحظ أن الإنتاج الداخلي الخام الفلاحي نما بنسبة 44 في المئة بين 2008 و2014، بينما القطاع غير الفلاحي ثابت منذ 2008.
ثابت؟ كارثة. لماذا؟ في المدن الاستثمارات ضخمة والعائد ضعيف. السبب؟ جرى الاستثمار في العقار وليس في الإنتاج. هناك مئات آلاف الشقق مغلقة تنتظر مشترياً.
الخلاصة الواضحة: يأتي الفائض الاقتصادي من البوادي، فلا يُعقل أن يأتي الفائض السياسي من المدن.
في انتخابات أيلول/ سبتمبر، 2015 قلل المحللون الغافلون من قيمة البوادي. وانتقدوا بعجلة التقطيع الانتخابي الذي وضعته وزارة الداخلية، والذي أعطى وزناً عددياً كبيراً لمنتخبي البوادي. وقد تأسس هذا النقد (الذي تورط فيه السوسيولوجي البصّاص أيضا!!) على ظاهرة قلة سكان البوادي وكثرة المقاعد التي حصل عليها المرشحون هناك. بينما في المدن ثُلثا الساكنة. ولم يعكس التقطيع الانتخابي والمقاعد المحصل عليها ذلك.حسابياً هذا نقد صحيح. لكن حساب وزارة الداخلية مختلف.
يبدو أن التقطيع الانتخابي يحترم الوزن الاقتصادي الكبير للبوادي، ولا يهتم بالتراجع الديموغرافي. واضح أن وزارة الداخلية تتخذ الإنتاج لا عدد البشر معياراً للتقطيع. وهذا ما يفسر أن 300 ناخب ينتخبون مستشاراً في دائرة البادية و30000 ينتخبون آخر في دائرة في المدينة. ويعلن الحزب المديني والحزب البدوي أنهما متساويان، وتقرهما قوانين وزارة الداخلية على ذلك.
مع هلع الجفاف تراجع نقد حكمة وزارة الداخلية. واضح أن المدن تعيش على حساب البوادي، والمركز يتمتع على حساب الأطراف. وتراجع الاستغراب من وزن البوادي في التقطيع الانتخابي.
بفضل الجفاف، وبعد انكشاف النظرة السياسية السطحية لمُمجّدي المدن، وبعد انتشار القلق حتى صارت النشرة الجوية أهم فقرة تلفزيونية لدى المغاربة.. بعد هذا الكشف السياسي والديني، عادت الأمطار في النصف الثاني من شباط/ فبراير الجاري.. فسمّمت الشامتين!