لم يكن اعتراف الإدارة الأميركيّة بالقدس عاصمةً لإسرائيل ممكناً دون الجذر الصلب الذي يضربه الإسرائيليّون في الأرض. الاستراتيجيّة الإسرائيليّة ليست سراً ولا يختلف عليها عاقلان: تغيير الأمر الواقع وإعادة صياغة القانون بناءً على الواقع الجديد، ثم استغلال الوضع القانونيّ الجديد لتكريس الغبن الواقع وتوسيعه. تخلق إسرائيل على الأرض حقائق تدفع بالقانون إلى زاويةٍ يفقد فيها منطقه وصلته بالواقع. تشد الخيط بين الـ De jure (أي موجب القانون) والـ De facto (بحكم الواقع) إلى أن ينقطع، فيبدو القانون عبثياً. هكذا، مثلاً، يفسّر الرئيس الأميركيّ قراره: "القدس هي مجلس الحكم الإسرائيلي الحديث، هي بيت للبرلمان الإسرائيلي، الكنيست، والمحكمة الإسرائيليّة العليا. إنها موقع المسكن الرسميّ لرئيس الوزراء ورئيس الدولة، وفيها مقرّات العديد من الوزاراة الحكوميّة". بهذه الكلمات، يصف الرئيس الأميركيّ الواقع باعتباره قدراً وليس نتاجاً لقرارات إسرائيليّة منهجيّة تُنفّذ بجديّة. وهكذا، تُلحَق المكانة القانونيّة لتؤطّر جريمة قائمة. وهكذا نبقى نحن عالقين بين الاستخفاف بتصريحات نعتقد أنّها "لا تغيّر شيئاً، فالواقع سيء أصلاً"، وبين تهويل أهميّة هذه التصريحات، وهو تهويل مُشتق من تعويل على أن يُنصفنا من فتك بالعالم كلّه.
يأتي هذا الاعتراف في سياقات كثيرة تتطلّب نقاشاً طويلاً، أو ربما تتطلّب مبادرات وأفعال جذريّة وسريعة تهزّ الحالة السياسيّة الفلسطينيّة الهامدة والمُقعَدَة. فالكارثة ليست في ردّ الفعل المخزي للقيادة الفلسطينيّة التي حوّلت الندب سياسةً واستراتيجيا، إنما بإهمالها القدس وأهلها، وشلّ التنظيم السياسي فيها والتواطؤ مع التدمير الاجتماعيّ الذي أدارته إسرائيل بمنهجيّة فاعلة. المصيبة الحقيقيّة ليست في الاستكانة والخنوع أمام القرار الأميركيّ اليوم، إنما بالموت السريريّ الطويل أمام المخططات الإسرائيليّة المتربّصة بالقدس ــ وهي علنيّة ومكشوفة وواضحة ــ وأمام "الإنجازات" التي تحققها إسرائيل على الأرض، من طردٍ للفلسطينيين وسرقة (بأنذل وأحط مفاهيم السرقة) للبيوت والأملاك والأراضي، هدم البيوت وبناء الجدران العازلة وربط القدس بمستوطنات الضفّة وتثبيت مكانتها السياسيّة مادياً وقانونياً لتُصبح إعادتها للفلسطينيين من سابع المستحيلات.
1948: عام احتلال القدس
اعتبر الصهاينة القدس عاصمة لدولتهم منذ احتلال الأحياء الفلسطينيّة الغربيّة في المدينة عام 1948، مثل القطمون والطالبيّة ومأمن الله وغيرها من الأحياء التي طُرد أهلها منها واستوطنها الصهاينة، كما القرى المجاورة للقدس مثل دير ياسين والقسطل. غَيّر الصهاينة معالم المدينة الغربيّة، وأتمّوا عمليّة تهويدٍ واسعة للمدينة واستولوا على كافّة أملاك لاجئيها بتطبيق "قانون أملاك الغائبين" الذي سنّته إسرائيل عام 1950، وهو قانون يُمكّن من مصادرة أملاك كل إنسان خرج من "دولة إسرائيل" بعد تشرين ثاني/ نوفمبر1947، إلى "دولة عدو"، أو إلى أجزاء من "أرض إسرائيل" واقعة تحت سيطرة "قوى معادية". أي أن القانون ينطبق على كل فلسطينيّ لجأ إلى لبنان أو سوريا أو الأردن في حينه، أو حتّى إلى الضفّة الغربيّة أو قطاع غزّة. أما في القدس، فيزداد هذا القانون غرابةً وتعسفاً.
المصيبة الحقيقيّة ليست في الاستكانة والخنوع أمام القرار الأميركي اليوم، إنما بالموت السريريّ الطويل أمام المخططات الإسرائيليّة المتربّصة بالقدس ــ وهي علنيّة ومكشوفة وواضحة ــ وأمام "الإنجازات" التي تحققها إسرائيل على الأرض.
بقي الجانب الشرقيّ في المدينة معرَّفاً كمناطق "عدو" بعد النكبة، وبالتالي فإن كل فلسطينيّ عاش في بيته في الأحياء الشرقيّة من المدينة، فقد أوتوماتيكياً كل أملاكه في الأحياء الغربيّة من المدينة دون أن يرحل أو يغادر موقعه. بل أنّ مقدسياً رُسِّم خطّ وقف إطلاق النار (عام 1949، والذي صار اسمه "حدود 67") بين بيته وأرضه المحاذية، يُمكنه أن يفقد الأرض لأنّها غربيّ خط الهدنة بينما هو يسكن شرقي الخطّ. ومن الجدير بالذكر أن المحكمة الإسرائيليّة العُليا صادقت عام 2015 أن يتم تطبيق هذا القانون على الأملاك في الأحياء الشرقيّة أيضاً، والتي احتُلّت عام 1967. بهذا التلاعب القانونيّ، يخسر سكّان الضفّة الغربيّة (مثلاً) كل أملاكهم الواقعة على بعد أمتار منهم.. في القدس.
المنظومة القانونيّة لجعل تقسيم القدس مستحيلاً
أنهى الإسرائيليّون عمليّة احتلال القدس في العام 1967 حين سيطروا على الأحياء الشرقيّة للمدينة. واتخذت الحكومة الإسرائيليّة في 28 حزيران/ يونيو 1967 قراراً بتطبيق القانون الإسرائيليّ على جميع أحياءها، أو ما عُرف بقرار "الضم" أو "التوحيد". إثر القرار، فرضت إسرائيل على 65 ألف فلسطينيّ في الشرق مكانة "الإقامة الدائمة" دون الجنسيّة. وبمواجهة انتقادات دوليّة لهذه الخطوة، ثبّتت إسرائيل في نظام حكمها قوانين تهدف للحفاظ على "الوضع القائم" الجديد وتمنع أي حالة تنازل عن القدس مهما كان.
اقرأ أيضاً: في المعنى الأوسع للفصل العنصريّ
سنّ البرلمان الإسرائيليّ "قانون أساس: القدس عاصمة إسرائيل" عام 1980، و"قوانين الأساس" في إسرائيل هي قوانين ذات مكانةٍ دستوريّة (بسبب عدم وجود دستور). وينص قانون الأساس هذا على أنّ "القدس الكاملة والموحّدة" هي عاصمة إسرائيل، ومقر لرئيسها، حكومتها، برلمانها ومحكمتها العليا، (يبدو أن ترامب اقتبس القانون الاسرائيليّ في كلمته اقتباساً). بالمقابل، وبعد توقيع اتفاقيّة أوسلو، أضاف البرلمان الإسرائيليّ ثلاثة بنود لقانون الأساس هذا: الأوّل يمنع نقل السيادة على القدس لأي جهة حكمٍ أو جهةٍ سياسيّة أجنبيّة. البند الثاني يُعرّف مساحة القدس على أنّها المساحة التي حُددت يوم 28 حزيران/ يونيو 1967 (أي شرقها وغربها)، والبند الثالث يُحصّن البندين السابقين ويمنع تغييرهما إلا بأكثر من 61 صوتاً في البرلمان (من أصل 120)، وهو إجراء شبه استثنائيّ في القانون الدستوريّ في إسرائيل. من بعدها، في العام 2014، أضيف قانون أساس جديد يزيد من تمسّك إسرائيل بالقدس: "قانون أساس ــ الاستفتاء العام" والذي يشترط لأي تنازل عن أي منطقةٍ تحت السيادة الإسرائيليّة إجراء استفتاء عام. كذلك، حصّن البرلمان الإسرائيلي هذا القانون أيضاً بالشرط الاستثنائيّ ــ أغلبيّة 61 صوتاً ــ لإلغاءه. في شهر تمّوز/ يوليو من العام الجاري، صادق الكنيست بالقراءة الأولى على قانونٍ يزيد الأمر صعوبةً، إذ أن قراراً مستقبلياً لـ"تقسيم القدس" سيحتاج أغلبيّة 80 نائباً في البرلمان من أصل 120. هذه القوانين تجعل تقسيم القدس أو التنازل عن أجزاء منها لصالح الدولة الفلسطينيّة شأناً مستحيلاً، وتحوّل عمليّة المفاوضات، من جذورها، إلى فعاليّة دون أي معنى.
تهجير وهدم واستيطان: الكلاسيكيّات الإسرائيليّة
تُطرح مؤخراً مشاريع قوانين عديدة، مثل مشروع قانون "القدس الكبرى"، ومشروع قانون "القدس وبناتها"، وهي كلّها تسعى لضم مستوطنات إسرائيليّة مجاورة للقدس إلى منطقة نفوذ القدس (معظمها في الضفّة الغربيّة)، ويهدف ذلك، علناً ونصاً، لزيادة عدد اليهود في القدس بـ230 ألف يهوديّ ممن يسكنون في هذه المستوطنات. ذلك بموازاة سحب الإقامة الدائمة من 14.595 فلسطينياً منذ العام 1967 حتّى نهاية 2016، وهو ما يعني طرد هؤلاء من القدس، وبالتالي رحيل عائلاتهم عن المدينة أيضاً، ومصادرة أملاكهم وفق قانون أملاك الغائبين الذي صرّحت المحكمة العليا بتطبيقه على الأحياء الشرقيّة في القدس. وكذلك "قانون المواطنة والدخول" الذي يمنع لم شمل العائلات الفلسطينيّة في حال كان أحد الزوجين من الضفّة (مثلاً) والآخر/ الأخرى من داخل الخطّ الأخضر. وهو قانون يقطّع أوصال آلاف العائلات الفلسطينيّة في القدس خاصةً، وذلك بسبب القرب الجغرافي والاجتماعي والحياتي بين المدينة والضفّة الغربيّة، ويؤدّي، في نهاية المطاف، إلى إجبار آلاف الفلسطينيين على هجر القدس والانتقال للضفّة ليتمكنوا من العيش مع عائلاتهم، ليتم لاحقاً سحب إقامتهم الدائمة في القدس لأنّهم "نقلوا مركز معيشتهم".
التعدد الرهيب في القضايا والمجالات دليل على أن ما تمارسه إسرائيل في القدس يُشتَق من الميزة الأساسيّة لعمل النظام الصهيوني: كليّته وشموليّته. أنّه يبني شبكة معقّدة جداً من السياسات في جميع مناحي الحياة..
تتماشى هذه القوانين مع تدابير أخرى على الأرض لربط مستوطنات القدس ببعضها البعض وبمركز المدينة، ومنها سكّة القطار الخفيف، وشق وتوسيع أوتوسترادات مختلفة تسهّل الربط بين مستوطنات القدس ومستوطنات الضفّة شماليّ القدس (رام الله) ومستوطنات جنوبيّ القدس (وصولًا لبيت لحم والخليل). وبالمقابل، فهي تُقطّع أوصال الأحياء الفلسطينيّة بما لا يُعد من الوسائل والأدوات، من "المناطق الخضراء" و"المتنزّهات الوطنيّة" والمناطق العسكريّة، إلى مقاطع جدار الفصل العنصريّ المسمّاة "غلاف القدس" والذي يفصل منطقتيّ مخيّم شعفاط وكفر عقب عن باقي أحياء القدس (وفيها ما يقارب 140 ألف إنسان!). ولعل الأخطر من بين هذه السياسة هو مخطط الاستيلاء على البلدة القديمة في القدس، من خلال نهب البيوت والمحلّات التجاريّة ودخولها بحماية عسكريّة وتحويلها إلى بؤرٍ استيطانيّة تتزايد يومياً (وكان شارون من أوائل المستوطنين في البلدة القديمة)، وإغلاق مئات المحال التجاريّة التي تُقدّر بأكثر من 300 محلاً تجارياً مغلقاً في القلب الاقتصادي والمجتمعي والجغرافي للمدينة. ومن ضمن هذه السياسات طبعاً الاستيلاء على الحرم الشريف كرافدٍ أساسيّ للوجود الفلسطينيّ في المدينة.
في العام 2016، هدمت السلطات الإسرائيليّة 136 مبنى فلسطينياً من بينهم 88 مبنى سكنياً، ويستمر هدم البيوت بمنهجيّة إذ يتم، معظمه، بحجّة البناء غير المرخّص. الجدير بالذكر أنّ البلديّة تمتنع عن إصدار تراخيص بناء في المنطقة، والأغلبيّة الساحقة من الطلبات الفلسطينيّة لإصدار ترخيص بناء تقابل بالرفض. في مقابلةٍ صحافيّة لموقع عرب48، يفيد زياد الحمّوري، رئيس مركز القدس، بوجود ما يقارب 20 ألف أمر هدمٍ لمبانٍ ومنشآت فلسطينيّة، ويُقدّر بأن فلسطينيي القدس بحاجة اليوم إلى ما يزيد عن 40 ألف وحدةٍ سكنيّة لحل الأزمة الخانقة. بالمقابل، توفّر السلطات الإسرائيليّة امتيازات ضريبيّة وماليّة خياليّة للمستوطنين الذين بلغ عددهم في القدس ما يقارب 530 ألفاً (250 ألفاً منهم شرقيّ المدينة، بعد أن كان عددهم في تلك المنقطة صفراً عام 1967).
ما معنى أن تكون القدس عاصمةً لإسرائيل؟
تلك كلها ليست إلا أطراف خيوط الجريمة المرتكبة في القدس، والتعمّق بتفاصيلها (مثل كارثة التعليم والسيطرة على المناهج، مثل الفقر المدقع وعمالة الأطفال، مثل المنشآت الصحيّة، أو فظائع القضاء الإسرائيليّ في الحكم على الأطفال والشبّان بالسجن التعسفي لسنوات طويلة دون جرم، وغيرها وغيرها مما لا يستوعبه العقل...) يحتاج مجلّدات طويلة تسرد هذه المأساة.
لكنّ هذا التعدد الرهيب في القضايا والمجالات دليل على أن ما تمارسه إسرائيل في القدس يُشتق من الميزة الأساسيّة لعمل النظام الصهيونيّ: كليّته وشموليّته. أنّه يبني شبكة معقّدة جداً من السياسات في جميع مناحي الحياة ــ من المواطنة وصولاً إلى السكن والتعليم والزواج والمعيشة والآثار والثقافة ــ وتدقيق مذهل بالتفاصيل. تعتمد إسرائيل على تنقّلٍ محكمٍ وواعٍ بين استخدام القانون الدولي والقوانين الدستوريّة والقوانين العاديّة والنُظم الإداريّة والأوامر العسكريّة والقرارات القضائيّة والممارسات غير المحكيّة ولا الموثّقة، والتي كلها تخلق واقعاً تُصبح مواجهته مهمةً تبدو مستحيلة.
اقرأ أيضاً: الاقصى رمق المدينة الأخير
هذه شبكة جرائم واسعة تُرتكب بحقّ الناس. والجدل حول الاعتراف الأميركيّ بالقدس عاصمة لإسرائيل يجب أن يرفع هذه الصورة عالياً ويدفع بها إلى مقدمة الخطاب السياسي، ويُظهر الخطورة الفوريّة والمباشرة والمروّعة في ممارسات إسرائيل التي يُعْطيها القرار ضوءاً أخضر لتتوسّع، بعكس التصريح الذي أدلى به محمود عبّاس عن أن الإعلان الأمريكيّ "لا يغيّر شيئاً". بلا، يُغيّر الكثير: هناك معنى لأن تكون القدس عاصمة إسرائيل، ليس رمزياً وليس قانونياً وليس شأناً يُعيق التفاوض كما يدّعي المجتمع الدوليّ (ونُردد نحن بسذاجة). هذه مسألة تتعلّق فيها حياة الناس وبيوت الناس ووجود الناس، ومستقبل أطفال يعيشون يومياً وعلى جلدهم "الجهود الإسرائيليّة للحفاظ على وحدة القدس" بالقتل وهدم البيوت والطرد والتخويف والسجن وفقدان الأمل.