.. بينما هي ليست فعلاً أرض خلاء، صحراء مقفرة مثلاً يستعرض فيها الأقوياء قوتهم، ويتبادلون التكشير عن الأنياب والزئير. والدليل انه في كل مرة يحدث ذلك، يسقط عشرات الضحايا أغلبيتهم الساحقة مدنيون، وفيهم نسبة كبيرة من الأطفال، بلا مفاجأة، لأن ذلك يطابق حقائق الديموغرافيا. وهؤلاء، كما يعرف الجميع، ليس لديهم مكاناً بديلاً يأوون إليه، أو أنهم لم يتمكنوا من الهرب من الجحيم، أو لم يرتضوا ذل التشرد في شوارع بلاد غريبة.. أو ببساطة أنهم يتمسكون ببيوتهم وأماكنهم باعتبار ذلك بديهية من قبيل أنها الثروة الوحيدة التي يملكون، واليقين بأنها ملجأهم. والأهم من كل ذلك أنهم بالتأكيد يأملون كل يوم أن تنتهي تلك الحرب العبثية. ولعلهم لم يعودوا يأبهون كثيرا بمعرفة كيفية انتهائها، من فرط ما مروا به من أهوال. وهذا التقدير يتخذ جانب "الناس"، وهو الجانب الأكثر جدارة.
وأما بعد، فسوريا تُستخدم فعلاً كأرض خلاء، حلبة مصارعة لا يعني المتصارعين فوقها إلا تسجيل النقاط، ولي عنق الآخر (أو يده على الأقل). ومن دون الدخول في مفاضلة بين بوتين وترامب، وأساليبهما وغاياتهما، الى آخر ذلك.. فما يهم قوله هنا هو أن سوريا تدفع ثمناً مهولاً نتيجة التصارع عليها وفوقها. وأن الواقع سرعان ما يبدد ظنّ روسيا أن حسم السيطرة على حلب على سبيل المثال سيعني رجحان كفتها وبالتبعية كفة حلفائها المحليين والإقليميين، وأنه يحسم توازن القوى القائم لصالحها /هم، كما يبدد الواقع نفسه ومجريات الأمور ظنّ أمريكا وحلفائها الإقليميين والمحليين بأن قصفاً استعراضياً لقاعدة عسكرية ب70 صاروخ توماهوك، واعتباره مجرد مقدمة لما يمكن أن يليه، هو حجة تتيح فرض شروط سياسية.
هذه لعبة لا نهاية لها. ولن تُحسم بمزيد من رفع أصوات التهديد والوعيد المتبادَلة. فقد وصل تمزق الوضع في سوريا حداً ربما صار معه الأمل برقعه شبه معدوم. وكل تمادٍ سيفاقم هذه الحال، ويُصعِّب تلمس الحل، وهو صعب أصلاً.
ولكن الأخطر من هذا هو الانزلاق إلى مواجهة عسكرية، شاملة أو محدودة، كما يهدد الطرفان. بل وحتى إلى حادث يمكن أن يجر سواه كما قد يحدث في أي لحظة. فها روسيا تضع أسلحتها النووية بحالة استنفار كما حملت الأنباء القادمة من موسكو، وها واشنطن ترسل أسطولها يتبختر في بحر الصين أو سواه، وها وزير الخارجية البريطاني يقترح عقوبات، مزيد من العقوبات.. كفى! فإن كان هؤلاء السادة قد قرروا تدمير الأرض وما عليها، فليفعلوا بلا حجة "سوريا". الصراع على النفوذ قد يعمي القلوب، وقد يدمر أبطاله أنفسهم. وهو هنا قد يتسبب بكارثة كبرى لا علاج لها. وأما إذا كان كل ذلك تهويشاً، فلا بأس. لكننا هنا لم نعد نحتمل المزيد من الخراب. وربما بات يصح اعتماد معيار يقول أن من يعاند من اجل تحقيق نصر (ما) ليس وطنياً، وأن البحث عن مخارج وتسويات وحلول للتشاحن العسكري هو الأفق الوحيد المعقول والمقبول.