ونحن لا ندرس مجتمعات العشوائيات لأنها "اكزوتيكية" أو غرائبية، ولا لأنها تتناول ما يُفترض أنه بيئة أكثر الجماعات بؤساً. بل لأن هذه المجتمعات توفر عينة قد تكون كاشفة للحظات التحول، أو لكيفية تشكّل علاقات اجتماعية جديدة، أو لكيفية تحوّر تلك القديمة وتغيّرها. وفي العشوائيات لا ننظر الى المتروكين لمصيرهم فحسب، وكيفية تدبرهم لأمورهم، بل نتلمّس الخط البياني للتغييرات التي لحقت بالبلاد: حروبها، نزوحاتها وهجراتها، اندثار مجالات إنتاج بعينها كانت قائمة فيها، استمرار حضور وفعل تراتبيات مرتبطة بالتمييز على أساس اللون أو الدين أو المنشاً الاجتماعي، العلاقة بين السلطة والمجتمع، السياسة...
فقد انضمّت إلى الأحياء العشوائية التي أحاطت منذ سبعينات القرن الفائت (على الأقل، أو أحيانا قبل ذلك) بالمدن الكبرى في منطقتنا - كعلامةٍ على الاستعصاء الذي لحق بمشاريع التحرر الوطني وتحقيق الذات، أي توفير الحياة الكريمة للمواطنين - أحياءٌ جديدة شكّلها على الأغلب تسارع وتيرة الهجرات من الريف، مع التغييرات التي لحقت بأنماط الزراعة وبملكية الأرض أو بحيازتها، ومع موجات الجفاف، ومع إهمال الريف وتهميشه بما يخص كل الخدمات، وكذلك مع الحروب والنزاعات على أشكالها. ولكن مصدر ساكني العشوائيات ليس الريف فحسب، وهذه فرضية تستحق الفحص.
تبدو العشوائيات مكوّنة من كتل بشرية "مُقتلَعة" من بيئاتها الأصلية، أو مُتشكِلة من خارج السياق الطبيعي الافتراضي لنمو السكن (يعني أنها ليست توسّعاً متسقاً للمدن التي تطرد باستمرار الأفقر إلى الأطراف، أو ما يسمى Gentrification). فتبدو تلك الكتل البشرية "فائضة عن الحاجة"، تعيش في البطالة أو من العمل الهش. وهي "غير ملحوظة" رسمياً في البنية الجديدة للاقتصادات القائمة، ولكنها تُستغل من قبلها ومن قبل السلطات "الشرعية" باتجاهات شتى.
فهناك أولاً استراتيجيات سلطوية لإدارتها والتحكم فيها، تتداخل فيها الإحاطة والعزل، بالقمع العاري الذي يهدف إلى الضبط أو حتى إلى الإزالة، وهناك كذلك الوصم (منبع "المتطرفين" أو "الجانحين" أو "الحثالة" الخ..). وهناك من جهة أخرى التوظيف في خدمة أغراض متنوعة: كيَدٍ عاملة رخيصة وغير نظامية أو لتنفيذ الأعمال غير "المشروعة" (توزيع مخدرات، تهريب بضائع، بلطجة، قمع تظاهرات..).
وبمقابل هذه العشوائيات، تنبت وتتكاثر المدن الجديدة والأحياء المسيّجة الفخمة (Compounds). وبعكس الظاهر، يرتبط نمو القطبين النقيضين، العشوائيات والمدن الفخمة المسيجة، بعلاقة تراسلية وطيدة.
نتفحّص الحياة في هذه العشوائيات. وقد يتم اختيار أحياء "شرعية" بنيت على عجل لاستيعاب الفائض السكاني المُفقر (كما في الجزائر مثلاً)، ثم "نُسيت" فصارت بحكم العشوائية، بغض النظر عن الشروط الأصلية للتملك أو الحيازة.
ندرس العمارة في الحيز المختار، والعلاقات المنسوجة واليوميات، والتنظيم الاجتماعي الذي تنتجه هذه التجمعات أو الذي تتأقلم معه بحكم الإجبارات (سواء الناعمة أو القسرية)، وآليات ضبطها وتسييرها، ومن هي الجهات التي تقوم بذلك، وأشكال توظيف أبنائها أو الاستفادة منهم على مختلف الصعد، في الاقتصاد كما في الاجتماع والسياسة..
ليس تناول العشوائيات مبحثاً في المدن أو في الأرياف، بل في هذا المجتمع "الثالث"، الذي لا يُختصر وضعه بأنه سيرورة "ترييف" المدينة أو "تمدين" الريفيين. وهو مجتمع "هجين" بمعنى تشكّله من عناصر من المدينة والريف، ولكنها مُحوَّرة بحكم الضرورات، ولملائمة شروط الحياة فيه وعلاقته مع محيطاته المتعددة. ونسعى لتقديم لمحة ليست استاتيكية جامدة.
مصر
الجزائر
المواراة والرجاء: العشوائيات في الجزائر
17-10-2019
السودان
عشوائيات الخرطوم: على حافة الحياة
19-09-2019
اليمن
المهمشون في اليمن.. اغتراب في أدنى الهامش
03-10-2019
تونس
المغرب
العراق
العشوائيات في بغداد: أوطان في كل مكان
05-12-2019
العشوائيات في العراق.. مدن المنسيين المنسية
12-12-2019
محتوى هذا الدفتر هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.