بعد التفكير ملياً، جُلّ ما أخشاه ألا يعدو ما نراه مجموعة صور، سراباً يشبه ذاك الإحساس الخيالي بإخماد العطش في الصحراء. حتى الحقيقة نفسها تبدو مأخوذة ومحاصرة بالمُتخيَّل الذي لا يزال قادراً على إثارة المشاعر بلمح البرق، لكنه لا يقوم في حقيقة الأمر سوى بتعميق الوهم. خرجت الجموع، عادت الجموع! ندرك ذلك بالصورة، وهي الوحيدة على ما يبدو التي تبقّت لنا.
يتابع اليومي مساراته والشارع هادئ كما لو أن شيئاً لم يكن. انتُخب عزيز أخنوش، فيما يواظب بنكيران على تشكيل حكومته، أما حاكم البلاد فبعيد في تنزانيا. لا حاجة لرسوم توضيحية، الأمور يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة من دون جهد تحليلي حقيقي. سيعيد البالغون الإمساك بزمام الأمور، فقد تُرك الصغار ليفرحوا بالإنجاز، وها قد انتهت المهزلة.
ما يجري أشبه بلعبة على الويب، وظيفتها امتصاص الحقيقة الاجتماعية الصعبة، التي تفرغ وتمتلئ بعيداً، وبشكل عميق، بفضل الشعارات، وبفضل انطباع القوة والشرعية الذي تعطيه التظاهرات الأكثر احتفالية من أي شيء آخر.
يتجسّد هنا قدر المجتمعات المحرومة من النخبة، المجتمعات المحرومة من الأفكار ومن المستقبل. يحفل التاريخ بقصص مجتمعات من هذا القبيل، تكون عقيمة وقاحلة، وهذا على ما يبدو حال مجتمعنا اليوم. سندخل في دائرة الاحتجاج التي لا تنتهي، حيث يقول كل واحد على طريقته ما يريد، ما يؤمن به، وعندما يحلّ الليل كلٌّ يخلد إلى جحره، لأن عليه أن يعمل غداً، والبطالة تتزايد على قدم وساق، وعليه فلا يجوز التفريط بما في اليد.
غداً، على حسابات مواقع التواصل الاجتماعي، وبعد غد والذي يليه، نحمّل صوراً تعزّز الوهم بأن الثورة مستمرة، بينما هي مجرّد تنفيس لَحْظي. ثم يغطي الصمت على كلّ ما عداه، خلال وقت قصير، ليترك الأقدار تائهة في رتابة الحياة اليومية. الأفق سيصبح أكثر رماديّة بسبب الوعود المنكوث بها، والآمال المُجهضة. أما الجدال فيمكن أن يُستأنف بعد أخذ استراحة.
دخلتْ "سنوات الرصاص" (الفترة بين الستينيات والثمانينيات من القرن الفائت التي جرى فيها قصف الريف وتكاثرت الاعتقالات القسرية…) في خانة النسيان. يُنظَر إلى البلاد كجنة نعيم مقارنة بالبلاد المجاورة الغارقة في العنف المزمن. العيش في المغرب خيار جيّد حيث توجد طبقة موفورة الثراء، وحيث يوجد أناس يستغلون الآخرين ويحتكرون ثروات البلاد، وحيث تكثر أعداد الفقراء. المغرب جميل لأن الحرب بعيدة، والعنف غير موجود، والحرب ضدّ الإرهاب تمضي بشكل فعّال. هذا ليس خطأً. ولكن الخطر يكمن في ترحيل القضايا المهمة إلى يوم آخر: المدرسة، الصحة، والفقر.
لا أحد يعرف ما يخبئه الغد، البلدان الأخرى كانت تعيش في حالة سلام قبلنا.