زينة حرايق: مناضلة جزائرية قوية.. ومظلومة

توفيت منذ أيام زينة حرّايق بن عدودة. بالنسبة لكثيرين منا، وخاصة الجيل الجديد من الجزائريات والجزائريين، لا يعني الاسم شيئاً. يضاعف هذا أهمية الاحتفاء بما كانته زينة، وبالأخص بما قدمته، لنحظى اليوم بفرصة العيش في بلد حرّ ومستقل. وهذا عرض موجز بسيط عن مسار حياتها، مستنداً لمقابلات أجريتها معها قبل أن تبدأ صراعها الطويل مع مرض قاتل.
 
2016-09-26

دحو جربال

مدير تحرير دورية "نقد"، الجزائر


شارك
| fr
نور بهجت - سوريا

توفيت منذ أيام زينة حرّايق بن عدودة. بالنسبة لكثيرين منا، وخاصة الجيل الجديد من الجزائريات والجزائريين، لا يعني الاسم شيئاً. يضاعف هذا أهمية الاحتفاء بما كانته زينة، وبالأخص بما قدمته، لنحظى اليوم بفرصة العيش في بلد حرّ ومستقل. وهذا عرض موجز بسيط عن مسار حياتها، مستنداً لمقابلات أجريتها معها قبل أن تبدأ صراعها الطويل مع مرض قاتل.

طفولة صعبة

ولدت زينة في العام 1934 لعائلة مختلطة، أب جزائري وأم ألمانية، إلى جانب 5 إخوة وأختين. فقدت والدها في عمر الثامنة فعاشت حياة يُتمٍ قاسية، أصيبت خلالها بمرض التيفوس (الحمى النمشية) وأمراض أخرى مزمنة طالت حياة معظم الجزائريين في تلك الحقبة المأساوية. وهي اضطرت لخوض غمار العمل مبكراً فذهبت إلى الاهتمام بحضانة أطفال العائلات الأوروبية الميسورة.

أثناء تنقلها بين ولاية سطيف ومدينة بجاية (بوجي)، عاشت وهي في الحادية عشرة أولى تجاربها السياسية، حيث كانت شاهدة على مجازر 8 أيار/ مايو 1945 في ولاية سطيف (وهي المجازر التي اعتبرت لاحقاً من شرارات اندلاع الثورة الجزائرية). تأثرت كثيراً بما رأته وأصبح شديدة التفاعل مع انخراط إخوتها في العمل السرّي مع حزب الشعب الجزائري.

بين عامي 1945 و1954، وجدت نفسها مجبرة بفعل الظروف المعيشية القاسية على ترك المدرسة والعمل كممرضة في إحدى عيادات المدينة. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 1954 رحلت إلى فرنسا برفقة والدتها وأخوين وأخت لها. هناك دخلت عالم المصانع وبدأت العمل في تصنيع سلاسل للقوارب من السادسة فجراً حتى السادسة مساء.

المسؤولية الأولى بتفويض للسلطة

بعد اعتقال شقيقها، المناضل الوطني والنقابي، وإيداعه في سجن البرواقية، قصد عمال المصنع زينة وطلبوا منها أن تصبح مندوبتهم النقابية في المصنع التي كانت تنشط فيه كعاملة بالقطعة. عند خروجه من السجن، جمع الشقيق العمال وأقنعهم بالانضمام إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية. كانت تلك الحقبة التي شهدت مواجهات بين المصاليين (نسبة للزعيم الوطني مصالي الحاج) وبين أتباع جبهة التحرير للسيطرة على المهاجرين. وكانت المدن الفرنسية مثل ليون وسانت إتيان وفيرميني أرضاً لمعركة حقيقية. ووجدت زينة نفسها منخرطة في نقل السلاح والتواصل مع المسؤولين الإقليميين والمركزيين. هكذا التقت بقدور لدلاني وصلاح لوانشي من المنظمة الخاصة للولاية التاريخية السابعة (فدرالية فرنسا).

بدأ عمل زينة لصالح جبهة التحرير يطغى على عملها في المصنع، ولم تعد أيام العطل والإجازات المرضية كافية لتبرير غياباتها المتكررة. تركت المصنع لتتفرغ كلياً للعمل السرّي مع المنظمة. انضمت إلى الخلية حيث كان شقيقها عمر حرايق، الذي أصبح مسؤولاً إقليمياً عن "جبهة التحرير الوطني" في فرنسا. تولّت القيام بمهمات صعبة لا تحظى عادة بالتقدير: نقل الوثائق والسلاح والأموال للمجموعات القتالية ذات الجهوزية العالية، "مجموعات الصدم". كانت الوحيدة المؤهلة للعبور من دون أن يلحظها أحد. أكثر من ذلك، كانت شقيقة المسؤول الذي يكنّ  له المقاتلون أعلى درجات الاحترام. وعمر حرايق نفسه كان يرى فيها الشخص الوحيد الذي يمكن أن يوليه الثقة التامة. وهكذا اضطلعت بكافة مسؤوليات الربط والاتصال. ومع الوقت، اتخذت تحركاتها طابعاً أكثر أهمية لتطال المجال الإقليمي، وقد شملت في بعض الأحيان مرافقة مسؤولين على مستوى رفيع لتأمين الغطاء لهم.

مسؤولية جديدة بالانتداب

في العام 1957، ولدت المنظمة الخاصة لفدرالية فرنسا لجبهة التحرير الوطني الجزائرية. جرى ضم زينة إليها من دون أن تعرف فعلياً. خضعت للاختبارات والتجارب نفسها التي خضع لها المقاتلون الرجال الذين اختيروا ليكونوا جزءاً منها. ثم اتسع فضاء عملها ليطال كافة الأراضي الفرنسية، ووقع عليها وحدها، من بين الآخرين، الحمل الثقيل بنقل الأموال بين ليون وباريس، ونقل الأسلحة بالاتجاه المعاكس. وأصبحت عنصر الارتباط الأساسي لولاية الجنوب مع قيادة الفدرالية المركزية. حينها التقت بجميع قيادات فدرالية فرنسا في الجبهة لا سيما بوداوود وبوعزيز وقبايلي ومناع وبن عدودة.

انتهى بها المطاف لتصبح مطلوبة للشرطة الفرنسية ويصدر بحقها حكم غيابي أيضاً. توارت عن الأنظار في المرحلة التي قرر فيها شقيقها عمر مغادرة الأراضي الفرنسية للالتحاق بجيش التحرير الوطني على الحدود.

المناضلة زينة حرايق

"هكذا نلتُ استقلالي"، قالتها زينة، بعدما تحررت من كل ارتباط محلي أو إقليمي. لم تعد تستخدم كغطاء لأحد إلا عندما يتعلق الأمر بمهمة في إطار العمليات العسكرية التي كانت الجبهة تنفذها في فرنسا. تعلّمت كيفية تصنيع القنابل والتعامل مع السلاح وانخرطت في عمليات استهداف الشخصيات السياسية الفرنسية كجاك سوستيل والسيناتور بن حبيلس وغيرهم.

بين عامي 1959 و1960، تولّت مسؤولية التسليح كنائبة عن آيت مختار عندما تمّ تفكيك المنظمة الخاصة، ولم يكن ثمة رجال، في تلك الفترة، قادرون على الاضطلاع بمهمة مماثلة. وذلك الموقع أي الانابة عن آيت مختار كان هاماً جداً، فالرجل كان المسؤول عن المنظمة الخاصة على الأراضي الفرنسية.. من الأهمية بحيث يخول أي رجل لو كان في مكانها لأن يصبح ضابطاً في وحدة قتالية.

"مسؤولات من دون سلطة"

كانت الفترة بين 1959 - 1960 من أكثر الفترات احتداماً في المعركة التي كانت الجبهة تخوضها في فرنسا. في تلك الفترة، اعتقلت زينة وبحوزتها ثلاث حقائب مدججة بالسلاح وصور لأعوان من الشرطة الفرنسية. ولكن من اعتقل في الحقيقة؟ لم تكن زينة حرايق، بل شقيقة عمر. لم يكن أحد قد اعترف، لا من الجانب الفرنسي ولا الجزائري، بشخصيتها المنفردة أو بمسؤوليتها الكاملة في العمل المسلح. لقد كانت "الغطاء" أو "المساعد" أو "ناقلة الحقائب" وليس واحدة من قادة الأعمال المسلحة في المنظمة الخاصة في فرنسا. بعد تحقيقات دامت خمسة أيام مُنعت فيها من الأكل والشرب، نقلت إلى سجن لاروكيت الذي استطاعت الفرار منه لاحقاً في شباط/ فبراير 1960. تلك كانت أول عملية فرار مبهرة وواحدة من أكثرها إثارة في تاريخ الثورة الجزائرية. 

هنا بدأت مسار العودة الطويل إلى حدود أخرى. بداية من ألمانيا التي نُقلت إليها بعد هربها. نصحها حينئذ عمر بن داوود أن "تفعل كما فعلت المقاتلات الأخريات، تهتم بإنهاء دراستها، وتتعلّم صنعة ما". من الواضح أن زينة لم تكن من هذا الرأي، لقد أرادت الالتحاق بالحدود حيث كانت تسمع دائماً بأن المقاتل بعدما "يحترق" عليه أن ينضم إلى مجموعات التمرّد (الطفار) التي تختبئ في الجبال. هناك يمكنها أن تقدم خدماتها للبلاد وللمنظمة. تقرّر رحيلها إلى الرباط للعيش مع عائلة جزائرية ثرية لم تكن فتياتها منخرطات في العمل الثوري، هناك اختبرت جوانب من المنظمة لم تكن قد اكتشفتها في فرنسا.. هناك كانت الجهوية في أوجها، والفجوة تتعمّق بين قيادة فدرالية جبهة التحرير في المغرب وبين القاعدة العسكرية وعامة الشعب. تلقت اقتراحاً بالعمل في مخيمات النازحين كمساعِدة اجتماعية، لكنها أرادت أن تتابع العمل مع إخوة السلاح المختبئين... هناك اكتشفت الظروف المزرية للنساء "الماكيزار" (الطفار) العالقات على الحدود، والخاضعات للعقليات الرجعية: "المقاتلات كن صالحات فقط للزواج".    

في العام 1962، رفضت أن تذهب للجزائر بوسائلها الخاصة كما اقترح عليها، وسلكت الطريق نحو ألمانيا ومنها إلى سويسرا حيث خضعت للعلاج من مرض عضال كان تفاقم خلال سنوات الاختباء. علمت بخبر الاستقلال من خلال الصحف والتلفزيونات، وعند عودتها إلى بلادها ذابت في جموع الناس مظهرة أحد أكبر أشكال التواضع والحياء. 

ما يمكننا قراءته من خلال حياة هذه المرأة المقاتلة، التي انخرطت في الصراع لتحرير بلادها، الجزائر، هو هذا الظلم الرهيب الذي لحق بها، حتى في أسوأ لحظات ملاحقتها من الشرطة واعتقالها، وفي تصنيفها أو حتى في تصنيف نفسها، في وعيها لحالها ودورها ومساهمتها في الثورة، لم تتجاوز فكرة أنها امتداد (بديل) لشقيقها في الدم (عمر) وشقيقها في النضال (مجيد) وشقيقها الأكبر (جبهة التحرير الوطني)، حيث ذابت.
كيف تمكنت إلى هذا الحد المنظمة الثورية والذاكرة الجماعية من طمس دور هؤلاء النساء، "المسؤولات من دون سلطة"؟ هذا أمر لا بد من كشفه يوماً ما، ومن طرح السؤال حول مسألة جوهرية وهي عدم تعيين أي امرأة لا في قيادة المنظمة السياسية ولا في الهيئات التداولية.

* النص الأساسي بالفرنسية، ترجمته إلى العربية هيفاء زعيتر

مقالات من الجزائر

للكاتب نفسه

"حرب التحرير ومسار التنمية في الجزائر"

دحو جربال 2021-01-14

" إن الثورة الجزائرية تقوم في الواقع بإعادة إنتاج تناقضات الثورة البرجوازية. فباسم العدالة الاجتماعية، تدمر القوات الشعبية النظام القائم على امتيازات ما قبل البرجوازية، لكنها لا تستطيع إلا أن...

عودة المكبوت أو عدم ملاءمة الأشكال

دحو جربال 2016-02-11

يحدث في التاريخ أن يُخنقَ الواقعي، يُكبَت، ويبقى سجينَ طوق، لكنه ينتهي دائماً بالعودة بعنف إلى المشهد. الحقائق الأولية والعناصر المكونة للمجتمع الجزائري، سواء في مجال التمثيل الرمزي والتعبير السياسي...