ليس بالشّيء الجديد أن تُزور حقائق حقبة معينة من التاريخ. ولكن ما يعد استخفافاً بعقول البشر هو محاولة تزوير حقائق لم نزل نعيشها اليوم. تجلت الوقاحة بعيد رحل الملك السعودي حين هجم مثقفو البلاط على وسائل الإعلام وأعمدة الصحف يملؤونها بالمراثي. ولهم الحق في ان يحبوا ويمتدحوا من يريدون، لكنه لا يحق لهم أبداً تصوير مجتمع بأكمله على انه متخلف ظلامي يتعطش للدماء، لولا انه كان تحت قيادة مستنيرة.
تنافست صحف سعودية وعربية وعالمية في سرد إنجازات تمت في عهد الملك الراحل. وعلى غير العادة، لم تقتصر الإنجازات التي ذُكرت على البناء والتشييد أو كل ما هو ملموس، بل تخطت ذلك إلى إنجازات على الصعيد "النفسي" وعلى مستوى "الوعي والوجدان وكينونة الإنسان".. وفي ما يلي البعض اليسير مما خَلد في الذاكرة، وبعض ما تناقله الناس بعد موت الملك، ونسيه مثقفو البلاط.
تميز عصر الملك عبدالله بأنه شهد اندلاع ثوره عربية في 2011 ما زالت أمواجها بين مد وجزر في مناطق مختلفة بينما تم إسكات المواطنين في الداخل عبر صرف راتبين لكل موظف وزيادة في عدد المنح الدراسية وإنشاء هيئه لمكافحة الفساد لم تقم بأي إنجاز يذكر. واستقبلت المملكة الرئيس التونسي الهارب بعدما رفضه العالم كله، وهو ما زال ماكثاً على صدورنا إلى الآن في جدة. أما في البحرين، فقد دخلت قواتنا المسلحة للمشاركة بقمع الثوار في شوارع المنامة. وشاركت المملكة دول الخليج في صنع مخرج للرئيس اليمني المخلوع دون أي حساب لثلاثة عقود تسلط فيها على أرزاق اليمنيين وبلادهم. وفي مصر، ذهبت ملياراتنا لدعم قائد انقلب على ثوره يناير وزج بالعديد من شبابها في السجون. وغابت تلك المليارات عن اللاجئين السوريين وهم يموتون من شدة البرد في شتائهم الثالث على التوالي.
قدم الملك الراحل مبادرة سلام في بيروت يعطي فيها إسرائيل الاعتراف بكيانها ويعرض عليها السلام وتطبيع العلاقات مقابل الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967. قُدمت المبادرة بتجاهل تام لرأي الجمهور الذي من الواضح جدا انه لا يؤمن بحق الكيان الإسرائيلي في الوجود أصلا. وشهد عهد الملك أول لقاء علني بين مسؤول سعودي هو رئيس الاستخبارات السابق تركي الفيصل ونظيره الإسرائيلي. ومؤخرا فعلها وزير سعودي سابق وذهب للقدس ودعا المسلمين من هناك لزيارة الأقصى بعشرات الآلاف. وهذا كله مر دون أي محاكمة.
وما مر من دون محاكمات ايضا هو الزج بما قدره 30 ألفاً في السجون السعودية ما بين معتقل رأي وحقوقي وناشط سياسي. القليل منهم فقط حالفه الحظ ووجهت له تهم مثل "زعزعة الطمأنينة العامة"، وكانت كلفة العبث بالطمأنينة تلك أحكاماً بالسجن لعشر سنوات وأكثر.
وفي العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، وصفت المملكة المقاومة بـ"المغامرة" وصرح مفتيها وقتها بعدم جواز حتى الدعاء للمقاومين. أما في عدوان غزة الأخير، فظهرت جوقة من الإعلاميين السعوديين، معظمهم يعمل في صحف رسمية، انحازوا علنا لإسرائيل وهاجموا المقاومة. بل طالب بعضهم مسؤولا إسرائيليا بقتل الفلسطينيين.
أدخل الملك المرأة السعودية الى مجلس الشورى، وهذه خطوة كبيرة لا يمكن إنكار أهميتها، ولكنها ما زالت محرومة من سائر حقوقها، فبدا هذا الإصلاح ديكوراً. أنشأ جامعة عملاقة وبمواصفات عالمية للعلوم والتكنولوجيا، ولكن وضع التعليم في سائر الجامعات (والمدارس) التي يرتادها "الناس العاديون"، أي الأكثرية الساحقة من السعوديين ما زال مزرياً.
لم يبدأ الفساد في عهد الملك عبدالله، ولكنه ظهر ظهورا غير مسبوق وطال أرواح المواطنين مباشرة. وبات ما يعرف بكارثة "سيول جدة" خير شاهد على ذلك، عندما جرفت الأمطار بيوت المواطنين وأرواحهم معها، لثلاث سنوات متتالية، لتقشع لنا الغبار عن حجم الفساد المتراكم لسنوات، والعشوائية في التخطيط وسوء البنى التحتية. كان عقاب المتسبب في الكارثة هو حبس خمسة متهمين ما مجموعه سبعة عشر عاماً. أما أمين أمانة جدة وبطل الفضيحة، فتمت ترقيته لمرتبة وزير!
وفي بداية عام 2006، انهار سوق الأسهم السعودي بعد ارتفاع خيالي لمؤشره على مدى ثلاث سنوات سابقة. خسر السعوديون أكثر من نصف تريلون دولار جراء الانهيار. تبين في ما بعد أن الادارة السيئة للوزارات والهيئات الحكومية المعنية، فتحت المجال لحفنة من أصحاب رؤوس الأموال للتلاعب بالسوق عن طريق عملية نصب منظمة. أدى ذلك التلاعب إلى مضاعفة ثروات عدد قليل من التجار على حساب الطبقة الوسطى التي ما زالت تدفع ثمن الانهيار إلى اليوم. مضى على الانهيار سبعه أعوام، ولم يحاسب احد.
لا شك بأن تصريحات الملك عبدالله حين تولى مقاليد الحكم قوبلت بترحيب كبير، وخاصة وعوده بإصلاح النظام السياسي وإدخال تغيير في بنية الاقتصاد الوطني. لكن الرجل رحل دون أن يغير شيئا. بل انتقلنا كإرث من يد رجل إلى آخر. وكانت أقصى حدود مشاركتنا في ذلك انه قيل لنا في صبح يوم جمعة: مات الملك، عاش الملك.