لم يعد العمل في مدارس مدينة حلب، أو ما تبقى منها، له ألقه التربوي. لقد تغيّرت أحوال الطلاب وتبدّلت طرائق تفكيرهم، فصاروا يحاصرونني دائماً بأسئلة من الصعب أن أجيب عنها، ويطالبونني أيضاً بموضوعات جديدة، وبشرح مفردات وعبارات من الضروري تفسيرها، وتجاوز الكتاب المدرسي المقرر، خاصة عندما يعكر صفو الدروس دويّ القذائف وأصوات الرصاص، فيرتعد طلاب الصف، وهم يتمايلون مترنّحين بهلع وخوف، في طقوس من الصراخ والعويل. أتأمل وجوههم المصفرّة من شدة الرعب، فأقف عاجزاً عن فعل أي شيء، متوقعاً هبوط السقف على رؤوسنا وموتنا تحت الأنقاض. يتدخل مدير المدرسة صارخاً "ما في شي، تابعوا الدرس، الوضع تحت السيطرة"، ثم يلتفت إليّ مؤنّباً: " أستاذ، اضبط صفك، إنها محاولة تسلّل فاشلة باتجاه المناطق الآمنة"، ويعود صارخاً مرة أُخرى "كمّلوا الدرس، تمّ دعس الخونة، الوقت من ذهب". ورغم مأساة ما يجري، لا أمتلك الشجاعة لأنقض عليه بأسئلة كثيرة تجول في بالي.
ممنوع الحكي بالسياسة في الصف
كيف سوف أكمل دروس اليوم، والوضع يزداد تدهوراً في البلد، فأكثر من خمسة آلاف مدرسة أغلقت أبوابها، وأكثر من مليون طالب مشتتون في الخارج، فيما المدير يُطمئنني ويحدثني عن "مشروع الدعم النفسي والاجتماعي"، وعن مشروع دورات صيفية مكثفة "لترميم معارف وخبرات ومهارات الطلاب". وكيف سوف أكمل دروس العام الدراسي، ويوماً بعد يوم تكبر دائرة النار، وتحرق الأخضر واليابس، وتلتهم الأبرياء والخطأة معاً. لم تترك شيئاً لمستقبل الأولاد الذين يحملون لي أسئلة كثيرة أتهرّب من الإجابة عنها، بحجة أنّه لا يجوز الكلام بالسياسة داخل الصف: "أستاذنا ليش هيك صار بالبلد، ليش فقد صديقنا حسن ساقه اليمنى، ليش صارت حدائق المدينة مقابر، ليش تدمّرت أسواق المدينة القديمة..؟". ويوماً بعد يوم يتغيبون باستمرار، ولكل غائب منهم قصة يتم، أو إصابة بشظية، أو نزوح وسفر، أو حمل السلاح والالتحاق باللجان الشعبية. يقصّون عليّ أخبار ما يشاهدونه، وما يكتبونه في صفحات فيسبوك المؤيدة والمعارضة، والتي تعكس شرخاً حاداً بينهم يبدو من الصعب تجاوزه. وعندما يجدونني عاجزاً عن ضبط الصف، سرعان ما تنشب فوضى كبيرة، فيتخاصمون بأصوات عالية، ويشرعون في صنع الصواريخ الورقية، ويخرجون من حقائبهم سيوفاً ومسدسات بلاستيكية، وينقسمون إلى أكثر من كتيبة مقاتلة، لكل واحدة قائدها العسكري واسمه الحركي، ويتخذون من المقاعد متاريس، وهم يتصارعون مهددين باقتحام غرفة المدير وتحريرها. صدق المدير، "اضبط صفك".
المدير يأمر
تسقط قذيفة أخرى وتتطاير شظاياها إلى باحة المدرسة، فيعلو صوت المدير ملعلعاً: "كملوا الدرس في الطابق الأرضي، الوقت كالسيف". أردّ عليه "منذ أكثر من ثلاث سنوات ونحن لم نصعد إلى صفوف الطابق الأول ولا إلى صفوف الطابق الثاني لاحتياطات أمنية، أليست هذه تعليماتك؟". ومع حضور سيارة الإسعاف، ينفي المدير أمام الطلاب وجود أية إصابات بشرية، ويصر أنّ الأضرار مادية فقط. ولكن ماذا حملت سيارة الإسعاف؟ وماذا كانت تحتوي تلك الأكياس البلاستيكية الكبيرة؟ ومن أين جاءت تلك البقع الحمراء المتناثرة في باحة المدرسة؟ لا أحد يجيب، وكأنّ مشاهد الموت وتناثر الأشلاء أو الإصابة بشظية أو رصاصة طائشة، صارت أمرأ مألوفاً وطقساً يومياً.
أعود إلى البيت وأنا أحمد العناية الإلهية ألف مرة أنّ طلاب الفوج الصباحي بخير، وإنْ لم نستطع إكمال الدروس كما يجب. ولكن يبقى البال مشغولاً على طلاب الفوج المسائي، فالاشتباكات لم تهدأ بحلب منذ تموز/ يوليو 2012. ماذا عن أحوال الطلاب الآخرين في عدن وصنعاء وسيناء وبنغازي والموصل، وقائمة طويلة من أسماء المحافظات والقرى التي تلتهمها النزاعات المسلحة؟ يُطاردني صوت المدير وأنا داخل بيتي، صارخاً في وجهي "بالحجر ولا بالبشر". أحاول أن أقنع نفسي، وأن أرطّب خاطري، فما قيمة أسواق العطّارين والصيّاغ والقطن والطرابيشية والجوخ والعبي.. في المدينة القديمة، وما قيمة كل خاناتها: "الجمرك، الوزير، الحرير، النحّاسين، الصابون، والشونة.."، وكل مقاهيها الشعبية أمام القلعة، بدون الإنسان؟ ولو تدمّرت كلها، وهذا يعني أنّ معالم حلب الأثرية بكل نبضات ذاكرة حجرها، وبكل ازدهارها التجاري والصناعي منذ تأسيس أقوى مملكة في الشرق بالألف الثاني قبل الميلاد، صارت خراباً وأرض يباب. وعلى رأي السيد المدير: "المهم الإنسان، وكلها سوف ترجع وتتعمّر من جديد".
تحضير درس الغد
أتجاوز تبريرات المدير التي لا تُطاق، وأحلامه السعيدة بإعادة إعمار المدينة إسمنتياً من جديد ورفع الأنقاض، ورسم تصاميم ترميم إنسانيتنا وترقيعها. وعلى إيقاع أصوات القذائف من شرق حلب ومن غربها، أبدأ تحضير دروس يوم غد، حسب الخطة الدراسية الحافلة بموضوعات التعبير الكتابي عن هطول المطر في الشتاء، وزقزقة العصافير في الربيع، وعن وصف رحلة صيفية إلى البحر. يجب الالتزام بتعليمات مديرية التربية. لكنني تجاوزت كلّ الخطط والتعليمات، ولو اعترض المدير، فالطلاب يسخرون كل يوم ممّا تحتويه كتبهم المدرسية. ولأنني لا أريدهم أن يطلقوا صواريخهم الورقية، ولا أن يشهروا سيوفهم وأسلحتهم البلاستيكية بوجهي ولا بوجه أيّ أحد، بدأنا معاً اختيار موضوعات تشكل بديلاً عن غياب الأنشطة الصفِّية وغير الصفّية، التي تأثرت كثيراً بسبب الحرب وبسبب الكثافة الصفية والدوام النصفي، في محاولة لكي تشكل بديلاً عن دروس التربية الرياضية والموسيقية والفنية التي أمست شبه غائبة، وبديلاً عن الرحلات المدرسية التي كانت إلى قلعة حلب ومتحفها الوطني، أو إلى معاملها الصناعية.
تغيرت أحاديث الطلاب داخل الصف وخارجه. لم يعودوا يهابون المدير، ضجروا من حفظ قصائد الفخر وأسلوب المدح والهجاء وقواعد الممنوع من الصرف.. صاروا مولعين بكتابة قصص مروّعة، تعكس ما يشاهدون وما يسمعون أنه يجري في مدينتهم، وأيضاً ما يجري في مصر واليمن والعراق وليبيا ...، وكان يحلو لبعضهم أن يحنّ إلى حارته التي نزح عنها، فيكتب مستذكراً رفاقه وجيرانه الذين لم يعد يعرف عنهم شيئاً. أو يكتب مستذكراً بنت الجيران ورسائل الهيام والغرام..
تحفل كتاباتهم بمفردات وعبارات جديدة، ليست موجودة في المعاجم العربية، القديمة والمعاصرة. وهي بعيدة عن أحلام أعمارهم التي امتزجت بكل تفاصيل أيامهم القاسية: "شبّيح، قنّاص، تشويل، داعش، جبهة النصرة، صاروخ محلي الصنع، صاروخ أبو شخرة، مدفع جهنم، حل سياسي، حسم عسكري، مناطق ساخنة، مناطق آمنة، براميل متفجرة، حزام ناسف، أمير جماعة، جهاديون عرب وأجانب.."، ممّا يتطلب أن يكون أساتذة المرحلة الراهنة على دراية تامة بوقائع الحروب الأهلية وفنون العلوم العسكرية وخرائط خطوط التماس بين حارة وأخرى، وبين مدينة وقرية. فلغة الحرب الدائرة دخلت إلى كل مدرسة وإلى كل صف، بل جلست على كرسي السيد المدير، وصارت قاموساً جديداً لأولاد البلد. أفٍ، ما هذه القسوة؟