الإسلام بتمظهره الاجتماعيّ فرقٌ عديدة، جماعات لا تزال معظم بيئاتها تدور في فلك ثقافات متجذرة في التراث، تجمعها في الغالب طقسيات ومسلكيّات عامة لجهة التواصل والرؤية إلى أي محيط أو جوار. وهي جماعات، بشكل أو بآخر، كانت وما زالت تعتبر مساهِما بدرجة في إنتاج السياقات السياسيّة في معظم الدّول العربيّة. وبقدر ما أتاحت الثورات الأخيرة إمكانات التغيير بأن بلورت مساحاتٍ للخروج من مأزق نماذج دول الاستقلال الفاشلة، فإنها بالمقدار نفسه أتاحت لتلك البيئات الجماعيّة إعادة تظهير خطابات الفرق الاصيلة وطرحها على مجتمعات مأزومة ثقافيّا وتنمويّا بغية تكييف هذه البيئات نفسيّا واستثمارها في الواقع الجديد.
ولئن كان راهن هذه الخطابات ينطوي على استقطاب سنّي/ شيعي حادّ، في المشرق خصوصا، فإنّها خطابات قد بلغت من الشياع والتأثير حدّا لا يمكّن الفرد أن يفلت من شراكات معاجمها النمطيّة المتراكبة فوق قرون من التطاحن الدمويّ. معاجمُ صارت تفرض، بطبيعة الحال، سلطتها الضمنية والنفسيّة بشكل فوضوي تارة، أو منظّم طورا، على مختلف رقعات المجتمع العربيّ. والحال أنّ الاستقطاب لم يلبث تحت تأثير فراغات السياسة وأشكال الخواء الثقافي وتكنولوجيا المعلومة والميديا أن تمّثل حدوده القسوى في البيئات الأكثر قابليّة للاحتراب الاهليّ (سوريا، عراق).
إلى الصوفية العربية
من داخل الاستقطابين الكبيرين، لم تسجل بيئات الشيعة العرب، على مرّ التاريخ، اتجاهات صوفية شعبية، إذ إن التصوف الشيعيّ تأسس في المجال الايراني على شكل تصوّف فلسفي نخبويّ (عرفاني) (صدر الدين الشيرازي مثلا) لم يورث للعامة طرائق خاصّة ما خلا زهديات فرديّة تتصل بشكل من أشكال الارتباط بالائمة والاولياء وزيارات الاضرحة. على أن التمايز في الشق المقابل (السنّة العرب) ظل حيّا وإن كان الاستقطاب الكبير لم يتح، مؤخرا، لجماعة "الهامش" بالظهور. نعني ب"الهامش" الصوفية التي قد تشكل رهانا في ظروف تحتاج للانضاج. ونقول "الهامش" لا باعتبار التقليل من أهميّة المباني التراثية والعقدية والتأويليّة لتلك الجماعة بطرائقها، بل باعتبارها لم تتطلع شأن سواها من الجماعات إلى الانخراط في الصراع على السلطة في البلدان العربية، بل كانت أقرب إلى مأسسة فقه لا سلطويّ زاهد بالامارة السياسيّة لم يتأصل إلا في رؤية تضاد، بطبيعة الحال، كلّ أنماط التأدلج الدينيّ. رؤية وإن كانت تبدو في الظاهر قاصرة، بالقياس على اختزال بيئاتها في أشكال طقسية تشتبك فيها حلقات الذكر والموالد بتدين شعبيّ بسيط فإنها تظلّ رؤية مؤسسة في الاصل على سلسلة من القواعد الإنسانوية الصوفية التي قد تتجاوز، في العمق، كلّ تأطيرات وتقسيمات النظرة التقليدية للفرقتين المحتربتين.
كرونولوجيا الطرائق الصوفية المصرية
نظرة تاريخيّة على الطرائق الصوفية المصريّة توضح الانتشار ومدى التجذّر في بيئة أهمّ بلد عربي تفاعلت فيه الطرائق الصوفية على مر السنين. يمكن تأريخ بدايات تشكّلها إلى زمن الاكتمال طقسيا بين القرنين السابع والتاسع الهجريّين. لا يلغي ذلك بطبيعة الحال وجود صوفيين فرادى منتظمين في مشيخةٍ قبل هذا التاريخ إذ إن مردّ أمر التصوّف كلّه الى سياقات الاسلام الأولى، وقد قدم لها كتاب "دوامات التدين" ليوسف زيدان (دار الشروق 2013) عرضا وافيا وممتعا.
- الشاذلية والمرسي أبو العباس..
في مصر، غير مستغربٍ أن يصادف المرء،على سبيل المثال، سلفيّا اسكندرانيا متشدّدا في حوار عالي النبرة وهو يقسم على الطريقة المعروفة، قائلا: "والمُرسي ابو العبّاس".. فمن هو المرسي؟
بعد سياحة في الارض بين قرية "غمارة" المغربية والعراق، أقام "أبو الحسن الشاذلي" فترة في تونس حيث التقى بتلميذه "أبو العباس المرسي". ارتحل الشاذلي ومريده سويّا من تونس إلى مصر حيث اشتغل الشيخ بالتدريس في الاسكندرية ومن ثمّ في بعض مساجد القاهرة كما شارك بمقاومة الصليبيين في معركة المنصورة الشهيرة التي أسر فيها لويس التاسع. بقي الشاذلي مقيما في مصر إلى سنة 656 للهجرة حيث نوى الحجّ في ذلك العام، لكنه المنية عاجلته في بلدة "عيذاب" بجنوب شرق مصر عند شاطئ البحر الاحمر. ولا يزال قبره مزارا الى الان، وخلِفهُ تلميذه "المرسي أبو العباس" في ما سيسمّى من بعدُ "الطريقة الشاذليّة".
عمليّا، انطلقت الشاذلية مع "القطب" الصوفي الاسكندريّ المكنّى شهاب الدين أحمد بن عمر بن علي الخزرجيّ البَلنسيّ "المرسيّ" نسبة الى مُرسية مسقط رأسه في الاندلس 616 للهجرة. قضى المرسيّ أربعة عقود ونيف في الاسكندريّة منذ وصولها مع شيخه الشاذليّ، إذ تولى مشيخة الطريقة بعد وفاة شيخه لاسيما أعمال التدريس ومجالس الذكر للمريدين في الجامع الغربيّ الذي كان الشاذليّ قد اختاره للتدريس آنذاك، وصار اليومَ اسمهُ جامع "العطارين" في الاسكندرية. توفي المرسيّ ابو العباس سنة 686 للهجرة بعد أن ذاع صيت الشاذلية في عهده بشكل واسع جدا ودفن في الموضع الذي يحتله اليوم الجامع الكبير في الاسكندريّة. الجامع نفسهُ الذي كان قبل ذلك جبانة لدفن الاولياء. أعيد بناء المسجد وترميمه سنة 1189 للهجرة، ثم أعيد بناؤه مؤخرا سنة 1943 للميلاد، ليتخذ صورته الحالية على يد المهندس والمعماري الشهير الايطالي ماريو روسي.
وتولّى الطريقة الشاذليّة بعد المرسيّ تلميذه ابن عطاء السكندريّ صاحب كتاب "الحكم العطائية" والملقب بحكيم الصوفية. يعتبر السكندريّ أهم مؤلف صوفيّ في الطريقة الشاذلية وهي الميزة التي أعطت دفعا خاصا للطريقة من خلال لون التعبير الترميزيّ في معجم "أبي العطاء" الذي لم يقتصر إنتاجه الصوفيّ على كتاب الحكم بشروحه اللاحقة بل تعداه الى غير عمل.
بعد وفاة ابن عطاء السكندري سنة 709 للهجرة، تشعبت الشاذلية على امتداد القرون إلى طرق كل منها ينتسب لشيخ من كبار مشايخ الطريقة ويجمع الطرق جميعها التقدير والانقياد لابي الحسن الشاذليّ. وهي طرق تكاد اليوم لا تحصى لكثرتها في مصر منها: العزميّة والبكريّة والوفائية والحامديّة والعروسيّة والفيضية. طرق لا تفترق إلا في نواح فرعية تختص بالاذكار والقراءات والاوراد التي تتلى في الحلقات.
- القادرية والجيلاني المؤسس
هي أوسع الطرق الصوفية انتشارا، ليس في مصر وحسب بل في العالم الاسلامي، وذلك يعود لأسباب منها أن شيخها الاكبر فقيه الحنبلية عبد القادر الجيلاني (مولده في جيلان الفارسية ووفاته في بغداد 561 للهجرة) كان في نظر معظم المحققين، حتّى من يوصفون بالتشدد، إماما ذا مكانة علميّة خاصة لا تنحو برأيهم مناحيَ الغلو وتقدِر في نفس الوقت على تحقيق المعنى الصوفيّ البسيط.
يتسم توزّع أتباع الطريقة القادرية من شيوخ ومريدين باللامركزية لأسباب عدة منها أن كبار صوفية عصره قد تلقّوا منه مباشرة في بغداد أو التقوا به في مكة. أما السبب الجوهريّ فهو سقوط بغداد سنة 656 للهجرة، ما إدى الى إقصائها عن كونها مركز الطريقة التي تفرعّت شرقا وغربا (انظر دوامات التدين، الدكتور يوسف زيدان) وتوصلت منها أربعة فروع الى مصر هي بحسب ترتيبها الزمني من الأقدم إلى الأحدث:
القدرية الفارضية الذي يعود زمنها الى القرن السابع الهجريّ ومقرها بجامع السادة القادرية بالقرافة الصغرى في القاهرة، وهو الجامع الذي كان قد بني ليكون زاوية للشيخ "عدي ابن مسافر" أحد تلاميذ الجيلاني.
الفارضيّة هي الطريقة التي استمرت مع حفيد الجيلاني "علاء الدين بن عليّ القادري" إذ استوطن مصر منذ القرن الثامن الهجري. أما لقب الفارضيّة فهو مستمد من أحد مشايخ الطريقة المتأخرين "محمد بن سليمان" وهو أيضا من حفدة الامام الجيلانيّ الاكبر إذ كان يتولى إثباتَ فروض النساء على الرجال، وهي وظيفة شرعية قديمة اشتق منها لقب شاعر الصوفية الشهير "ابن الفارض". وهي، إلى يومنا هذا، طريقة منتشرة في الدقي والدقهلية والشرقية.
أما القادرية القاسمية فهي فرع قديم من القادرية بمصر. أرّخ لها المستشرق الفرنسيّ"ماسينيون" بكونها قد وفدت في القرن التاسع الهجريّ. وهي طريقة تنسب إلى الشيخ قاسم الكبير. وبخلاف أختها الفارضية، فإنها فرقة تبدو متأثرة بطابع التصوف الشعبوي الذي يغلب عليه أحاديث البسطاء عن الكرامات والاولياء. وهي منتشرة حاليا في الفيّوم بشكل رئيسيّ ولها رباطات كثيرة.
أمّا الطريقة القادريّة الشرعية المتأخرة التي تقيم في مسجد الامام الشعراني في القاهرة، فإنّها تنسب إلى الشيخ عند المنعم القادري الذي وفد الى مصر من بلاد المغرب. وكان قد تلقى تعاليم الطريق عن شيخه "محمد حبيب الله الشنقيطي" الذي تلقاه بدوره عن المجاهد "ماء العينين القادري". أما تسمية هذه الطريقة القادرية بالشرعية فهو عائد لما يورده شيخ هذه الطريقة المتوفي سنة 1406 للهجرة في كتابه "الركائز الايمانية" من أن طريقته مستمدّة من أوراد الذكر الشرعية. وهي طريقة قد اندثرت مع وفاة شيخها.
وأخيرا الطريقة القادرية النيازية وهي فرع قادري متصل النسب بالامام الجيلاني الاكبر عن طريق ولد الشيخ عبد الرزاق. وفد شيوخها ومنهم "عبد الرحمن نيازي" إلى مصر من تركيا منذ حوالي خمسة قرون في النصف الثاني من القرن العاشر الهجري واستوطنوا الاسكندرية. وقد أشار"لويس ماسينيون"إلى شطر من تاريخها في تركيا. وهي مدرسة صوفية علميّة تجمع أشتات المعارف الصوفية ولا تزال حيّة الى زماننا في الاسكندرية ولها شيوخها منهم "ابراهيم حلمي القادري المتوفّي سنة 1390 للهجرة وابنه محمد.
الحكومة الباطنية
ثمّة نظريّة مثيرة تسمّى "الحكومة الباطنية" وقد تكون أقرب إلى المعتقدات الشعبية منها إلى الحقيقة التاريخية، مفادها أن مدينة طنطا المصريّة حيث دفن السيد "أحمد البدوي" هي مركز "القطب". وعلى شكل دائرة من المركز بالمسافة نفسها، ثمّة خلفاء الشيخ البدويّ المدفونون على مرّ السنين. بهذا أصبحوا يشكلون دائرة روحية تعيش منطقة "الدلتا" في ظلالها. إذن فالقطب هو سيد العالم الروحاني يقابل حكومة الوقت السياسية. يدل شياع معتقد غامض من هذا النوع إلى وقتنا هذا، بمعزل عن تطابقه مع الواقع إلى مستوى تفاعلية الرؤية الصوفية المرتبطة بالعالم والقطب مع النسيج الاجتماعي حيث نبتْ أوّل مرة. وهي تفاعلية تكون خاضعة بطبيعة الحال لسياقات التحولات البنيوية اقتصاديا وفكريا في البيئة الأهلية للفكرة. إنها تفاعلية بالغة الدلالة لجهة ما يراكمه المجتمع، ثقافة حكائية وتشكيلات ذهنية ترفد الاصل وتزيد عليه بمعزل عن معقولية الفكرة المؤسّسة.
يختلف المؤرخون في سيرة شيخ الطريقة البدويّة الأحمديّة غير أن القدر المتفق عليه بينهم هو انتساب السيد أحمد البدوي إلى آل البيت من ولَد الحسين بن علي.
ولد في مدينة فاس بالمغرب سنة 596 للهجرة ثمّ ارتحل في شبابه إلى مكّة ومنها إلى العراق حيث التحق هناك بالطريقة الرفاعيّة نسبة للشيخ أحمد الرفاعي. بقي في العراق إلى أن نزل الاسكندرية كي يخلف شيخ الطريقة الرفاعية أبا الفتح الواسطي في الرئاسة الروحية. ومن هناك انتقل الى طنطا وتلبث فيها حتى وفاته سنة 675 للهجرة وخلفه في الطريقة تلميذه الشيخ عبد العال. على أنّ ما يشيع هو أن انتشار الطريقة الاحمدية بلغ ذروته بين المهمشين والبسطاء. تومئ إلى ذلك كثرة الاقوال المتداولة شعبيا. أقوال تكون في الغالب اقرب الى الاراء والقصص الخياليّة فيما خص شيخ طريقتهم، وهذا مفهوم من وجهة نظر سوسيولوجية إذ يلوذ أبناء هذه الطبقة هروبا بخيالاتهم من الواقع في حالة تمتزج فيها الغرابة بالسيَر والقصص التي يختلط فيها كم هائل من التشويق الشعبي والفنتازيا الأدبية.
من هذه القصص، مثالا لا حصرا، ما ينسب للشيخ البدوي ويتردد على ألسنة الناس في طنطا ومصر كترنيمة شعبية" الله الله يا بدوي، جاب اليُسرا" وتعني هذه المقولة انّ الشيخ قد جلب الأسرى.. وفي معنى هذا القول قصتان (انظر دوامات التدين، الدكتور يوسف زيدان) نقلا عن مصادر تاريخية معروفة. إحداها يجانب قولها الاول العقلانية ومفادها أن البدوي كان بمقدوره أن يحرر أسرى مسلمين من محبسهم في بلاد الافرنج بمجرد أن يستغيثوا به. فكان الناس يجدون فوق سطح مسجد البدوي بطنطا أسرى جاءوا طائرين من سجنهم. أما قولها الثاني فهو رجوعٌ إلى واقعة تاريخيّة مشهورة ومفادها أن وزارة الاوقاف أرسلت الدروع والسيوف التي كان الجيش المصريّ قد غنمها من جيش لويس التاسع الذي أسر في دار لقمان بالمنصورة لتخزن في المسجد الاحمديّ، فكان دراويش السيد البدويّ واتباعه يتقلدون هذه الدروع ويزعمون انها للاسرى الذين جاء بهم السيد من بلاد الافرنج..
ومن جهة أخرى، ازدهرت الطريقة الدسوقيّة في "دسوق" البلدة الواقعة بالشمال الشرقي من الدلتا. وهي القرية التي انتقل إليها الشيخ "برهان الدين ابراهيم الدسوقي" من مسقط رأسه 653 للهجرة في مرقوس بمحافظة الغربية وبقي فيها إلى حين وفاته سنة 696 للهجرة. للطريقة الدسوقيّة اسم آخر مشتق من اسم شيخها برهان الدين: "البرهانية". أحذت الدسوقية طريقة صوفية مستقلة تستهدي بأقوال شيخها بعد أن كان متوقعا ان تكون امتدادا للرفاعية العراقية عبر شيخها "ابي الفتح الواسطي" جد الشيخ لدسوقيّ. على أنّ الطريقة الدسوقية تميّزت في بداية أمرها بالاعتدال وهي السمة التي أثِرتْ عن شيخها الذي لم يعمّر طويلا، غير أنها قد شابها مع بروز الفروع كالشرنوبية والشهاوية والعاشورية.. ما شاب معظم الفرق المتأخرة في زمن التخلف الحضاري لجهة غلبة أحاديث الكرامات وخوارق العادات السحرية المنسوبة للاولياء في البيئات الشعبية المنسحقة مع تغيب الاتجاهات العلمية الزهدية والتأليفيّة الرصينة.
قشرة الحاضر
عمليّا، من الصعوبة بمكان تأريخُ الوقت الذي بدأت فيه أفلاك الطرائق الصوفية في مصر التأثير والتأثر مباشرة بالأحوال السياسيّة لجهة الانخراط الهامشي أو المساهمة في تجيير بيئة معينة نفسيّا وماديّا لمصلحة السلطة. إذ يتكئ تراث الصوفية أساسا، حتّى منذ ما قبل بداية تشكل الطرق، نعني قبل نحوٍ من ثمانية قرون على بدهيّة الاستنكاف عن أي مظهر من مظاهر السلطة لصالح نظرة زهديّة شاملة لا ترى إلى السياسة وعلائقها الدنيويّة إلا شكلا من أشكال الخروج عن الدائرة الأنطولوجيّة للفرد الصوفيّ السالك طريق "الحق".
لكن نظرة عموميّة صوب العقود الماضية تفترض ملاحظة علاقة مطّردة بين تصاعد الإسلام السياسيّ المناوئ للدولة الوطنية من جهة وبين ازدياد حاجة هذه الدولة إلى تحريك وعي كامن لدى جماعات وبيئات الطرائق الصوفية الوازنة بأن تحذر من مغبة غلبة النموذج الأوّل، الإسلامي السياسيّ. وهو حذر ظل يستمدّ مشروعيّته ماضيا وحاضرا من تراكم الآراء السلبية لبعض أعلام الفقه السنيّ الكلاسيكيّ تجاه بعض طقوس البيئات الصوفيّة، ولأن الإسلام السياسيّ يثابر في سبيل إعادة تشكيل اجتماع شعبيّ متأسلم تبعا لسّلم قيمي فقهيّ صارم يستبعد كلّ ما من شأنه أن يدخل منطق وممارسات في خانة "الابتداع".
ومع انطلاق ثورة يناير، ما كان كامنا وجد مجالات رحبة للخروج إلى السطح. نذكر جميعا مثالا لا حصرا، أحداث "امبابة" بين السلفيين والصوفيين سنة 2011،عام الثورة الأول، إذ تعتبر هذه الاحداث/ الاحتكاكات الاهلية في العمق خلاصة مصغّرة عما يمكن أن يؤول إليه نسيج إجتماعيّ مرشّح مرارا وتكرارا للاستثمار السياسيّ وقابل لدواع منها التاريخيّ/ المذهبي، لأن يؤسس لصدوع تظل تتوالد عند كلّ مفترق على قدر من الخطورة. والأهم أنها صدوع لا تسمح تحت ضغط اللحظة السياسية (داخليا وخارجيا) وهشاشة المبنى الاهليّ بفسحة متأنيّة من التحديق في الطبقة الأعمق لجهة تجذّر الخلاف بين إطارين أصيلين من أطر الاجتماع المصريّ الواحد، الصوفية وما يعكسه تراثها في الذهنية الشعبية والسلفية وما تحاول تأصيله بصعوبة ربّما في بيئات تختلط فيها الاسطورة والحقيقة الدينية وقصص الرجال والاولياء بشكل كبير.