يوم بعد يوم تعلو أصوات الجهات المعنية بحقوق الطفل وحقوق الإنسان محذرة من دفع الأطفال نحو سوق العمل مبكراً، فيما تبقى عمالة الأطفال جزءاً من الواقع المصري الذي نصادفه بصفة يومية. و "بلية" هي الكُنية الشهيرة للطفل العامل في الثقافة الشعبية المصرية، تحكي باختصار عن الصبي المسخّر لإسعاف صاحب العمل بقضاء أعماله التي تحتاج الخفة والسرعة، في ما قد تشوّش ظروف العمل على انطلاق الأطفال وخفتهم، مثل صورة ذاك الطفل التي تداهمني دائماً كلما أتى ذكر عمالة الأطفال، فقد رأيته يوم العيد متزناً راسياً يبتاع بضاعته دونما أي اكتراث بمظاهر الاحتفالات الصاخبة من حوله، وحين داعبته عن العيد والعيدية، باغتني "نسيته من زمان"! أبداً لا يحتمل عمره كاملاً قولة "من زمان"!
تضارب إحصائي
مؤخراً، أثيرت ضجة حول النسبة الحقيقية للأطفال العاملين في مصر، إذ ذهب تقرير منظمات حقوق الإنسان المصرية غير الحكومية الذي عرض أوائل تشرين الثاني/نوفمبر 2014 في جنيف ضمن آلية العرض الشامل للوضع الحقوقي في مصر أمام الأمم المتحدة، إلى تقديرها بحوالي 2.7 مليون طفل عامل، وهو ما يقارب ضعف الرقم الرسمي الذي أعلنه الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء حتى 2014 (حوالي 1.6 مليون طفل عامل). بدا الرقم مخجلاً خاصة أنه عرض ضمن عدد من الأرقام التي تحكي عن مأساوية الوضع الحقوقي في مصر بوجه عام، لذلك التقط الرقم من عموم التقرير وطعن في دقته ووصف بالمبالغ فيه.
وبغضّ النظر عن أي الرقمين أقرب إلى الحقيقة، يبدو للمُعاين - وربما بإجماع - أن كثيراً من الأطفال العاملين في مصر ينتمون للقطاع الاقتصادي غير الرسمي الذي لا تغطيه إحصاءات الدولة! فضلاً عن العمالة الموسمية للكثير من الأطفال. يعضد ذلك ما نُشر في أواخر 2013 من تقديرات تداولتها إحدى الجرائد الرسمية للدولة، لنحو مليون سائق "تكتوك" في مصر (عربة صغيرة بثلاث عجلات ومحرّك بسيط تنقل الركاب) أغلبهم من الأطفال. ها.. قد قاربنا المليون فقط من سائقي "التكاتك" فيما لم يبدأ الحديث عن صور العمالة الأخرى، التي قدرت بـ 1.8 مليون في تقرير "المسح القومي لعمالة الأطفال في مصر 2010" الصادر عن منظمة العمل الدولية بالتعاون مع بعض الجهات الأخرى. لذلك فإن الاختلاف في تقدير الحجم التقريبي للظاهرة يبدو متوقعاً ومن ثم مقبولاً، غير أنه لا ينفي وجود الظاهرة وانتشارها على نحو يكفي لإثباته بالمشاهدات اليومية في الريف والحضر على حد سواء.
بين العمل والعمالة
لا يمكن حصر الحديث عن عمل الأطفال كظاهرة سلبية تستوجب المحاربة، فقد يكون لعمل الأطفال عوائد إيجابية، إذ قد توفر بعض الأعمال مجالاً لتعلم الطفل وإكسابه بعض الخبرات والمهارات التي تساعده في تنمية ذاته وتدرّبه على الاعتماد على النفس وتوسّع إدراكه ورؤيته للحياة بوجه عام. وعلى ذلك فقد حددت منظمة العمل الدولية بعض الضوابط التي تفرق بين "عمل" الأطفال ذي المردود الإيجابي و "عمالة" الأطفال الواجبة الحظر. وفقاً لتلك الضوابط، يجب ألا يُعرَّض الطفل للأعمال الخطرة أو التي تؤثر سلباً على صحته أو تعطّل مساره الدراسي أو تستهلكه وتنهكه في ساعات عمل مطولة، كما يتعيّن على كل دولة أن تعيّن حداً أدنى لسن العمل المقبولة لأطفالها، وقد حدده القانون المصري بخمسة عشر عاماً. وفقاً لتلك الضوابط أشار التقرير المذكور أعلاه، إلى أن 88.2 في المئة من عمل الأطفال في مصر يندرج تحت المفهوم العالمي للعمالة التي يجب حظرها، وقد بدا التعرض للمخاطر أعظم الخروق التي تشهدها عمالة الأطفال في مصر، إذ تشتمل تلك المخاطر - تبعاً لضوابط منظمة العمل الدولية - على التعرض لدخان السجائر والغبار والأتربة والضوضاء. ويحوز التعرّض لدخان السجائر والغبار – بحسب التقرير- النسبة الأكبر بين المخاطر الأخرى (حوالي 45.7 في المئة من الأطفال العاملين)، بيد أن الذي قد يخفّف من حدة الرقم بل وقد يجعله فكاهياً لدى قطاع واسع من المصريين، أن دخان السجائر والغبار خطر "عادي" يداهم المصريين عموماً من كل الأعمار ومن كل الطبقات، وربما في أغلب الأوقات! لذلك تشير هيئة "أرض البشر" في تقريرها "واقع الأطفال العاملين في مصر" إلى "أن النتائج والاستنتاجات تختلف حينما يتعلق الأمر بالأعمال الخطرة حيث ينضوي المصطلح على قدر من الذاتية".
بخلاف المخاطر التي تبدو عامة في الحالة المصرية، يعاني 34.7 في المئة من الأطفال من الأعمال الشاقة، وحوالي 29.8 في المئة من زيادة ساعات العمل لتتجاوز 43 ساعة أسبوعياً، فضلاً عن كثرة تعرّض 13 في المئة من الأطفال للكيماويات والمبيدات الحشرية، خصوصاً في العمالة الزراعية. علاوة على ذلك يتم استغلال الأطفال لإنجاز أعمال كثيرة مقابل أجور زهيدة، حيث يُنظر للأطفال كعمالة رخيصة وموفِّرة لصاحب العمل.
الجهل يساند الفقر
لا يقف الفقر وحده وراء دفع الأطفال نحو العمل، فالجهل يسانده، وقد كشف التقرير المذكور أعلاه أن الآباء الذين استمروا بالتعليم حتى ستة عشر عاماً انحفض معدل التحاق أطفالهم بالعمل بنسبة 60 في المئة، فيما كان للمستوى التعليمي للأم التأثير الأكبر، حيث انخفض معدل عمالة الأطفال للأمهات المتعلمات حتى ستة عشر عاماً بنسبة 71 في المئة، الأمر الذي يؤكد أن أزمة عمالة الأطفال في مصر تخص الوعي أيضاً. كما كشف التقرير أن 52 في المئة من عمالة الأطفال في مصر غير مدفوعة الأجر، حيث تستخدم الأسر أبناءها في قضاء أعمال المزارع الخاصة بها أو خدمة الماشية التي تحوزها، لذلك تزيد معدلات عمالة الأطفال في الريف عنها في الحضر، ويأخذ مجال الزراعة النصيب الأكبر منها".
وهذه حالة تقليدية متوارثة وكانت سائدة في العالم كله وما زالت تسود في أجزاء كبيرة منه.. وهي تعني استبدال العامل الأجير بالفتى الذي يعمل بالسخرة تحت مسمّى المساعدة العائلية. كما أشار التقرير إلى ارتفاع معدلات التحاق الفتية بالعمل عن الفتيات ثلاثة أضعاف، ما يدعم استمرار النظرة المفضِّلة للذكور على الإناث، خاصة في الريف باعتبار الذكور مصدراً للرزق والإنتاج بينما الإناث عالة مستهلكة لخيرات الأسرة. كما تجتمع القرائن لتؤكد أن كثيراً من الأسر التي تدفع أطفالها نحو العمل تحركها رغبة في استثمارهم والاستفادة منهم وليس تحت ضغط الفقر المدقع. ومع ذلك، ومن جهة أخرى يلجأ البعض الآخر من الأطفال (48 في المئة) للعمل كسبيل لمساعدة الأسرة في إقامة أودها أو على الأقل لتوفير نفقات الطفل ذاته، خاصة مع غياب أحد الوالدين أو كلاهما، كما ورد بالتقرير.
التعليم
يتقاطع التعليم مع عمالة الأطفال في مواطن كثيرة. ففقر البيئة التعليمية والمناخ التعليمي الطارد يحفز الأطفال للفرار من المدرسة. وقد أعلنت وزارة التربية والتعليم المصرية في تقريرها "الخطة الاستراتيجية للتعليم قبل الجامعي 2014 - 2030" أن مصر تعاني من ارتفاع معدلات التسرب في المراحل التعليمية المختلفة، فقد سجّل تسرب حوالي 28.841 تلميذاً من حلقة التعليم الابتدائي للعام 2011 فيما علت النسبة في المرحلة الإعدادية ووصلت 130.564 تلميذاً. وغالباً ما يكون سوق العمل هو البديل الطبيعي الذي يتجه إليه الأطفال المتسربون من المدرسة، حيث عائد العمل الآني أكثر جدوى من عائد التعليم المؤجل، إن وجد. وتارة أخرى يعرقل الالتزام بالعمل الاستمرار بالتعليم، فيصبح العمل سبباً في الحرمان من التعليم. وعلى نحو ثالث، يدفع التأخر الدراسي بعض الأسر لمقايضة أطفالها إما بإحراز تقدّم دراسي على نحو يعادل الجهد والوقت الضائع في المدرسة، أو بمغادرة المدرسة لممارسة الأعمال المنزلية بالنسبة للفتيات أو الانطلاق للعمل وكسب المال في حال الفتيان.
رغم الحظر القانوني لعمل الأطفال في مصر، إلا أن استغلالهم في أعمال غير رسمية وغير مأجورة، يُفلت بالظاهرة من التقنين القانوني، ويجعل محاربة الفقر والجهل المفتاح الحقيقي للحل. العمل على حماية الطفولة من كافة أشكال الاغتيال واجب، والحلم بمستقبل عادل هو حق مشروع. وأما الاعتداد بسير بعض الناجحين - وأمثالهم كثيرة ولكنها تبقى فردية ـ التي تقول بأن العمل المبكر لا يمثل نهاية المطاف بل قد يصقل المعدن ويصلب العود فيرسم لصاحبه مستقبلاً واعداً.. فليس عليها إخفاء واقع الملايين من الأطفال (العاديين وليس العباقرة أو المميّزين!)، الذين لن يعني عملهم سوى ابتداء الشقاء بشكل مبكر..