في صيف العام 1994، بعد توقيع اتّفاق أوسلو، أصبح وضع لبنات سلطة فلسطينيّة في الضفّة الغربيّة وغزّة المهمّة الرئيسيّة للقيادة الفلسطينيّة. منح الاتّفاق الفلسطينيّين الفرصة لبناء مُؤسّساتهم المُختلفة في كلّ المجالات تقريبا، لكن ضمن القيود السياسيّة والماليّة والجغرافيّة التي حدّدتها نصوصه وملاحقه. لم يكن الفلسطينيّون حديثي عهدٍ ببناء المُؤسّسات الوطنيّة في الواقع. فمع انطلاق الحركة السياسيّة الفلسطينيّة مطلع الستّينات، وتحت وطأة الوعي المتزايد بضرورة صقل هويّة وطنيّة جامعة لكلّ الفلسطينيّين، أُنشئت شبكة واسعة من المُؤسّسات التي غطّت كافّة مناحي حياة الفلسطينيّين في المنفى، ولعبت دورا أساسيّا في تعبئة اللاجئين المطرودين من أرضهم ولمّ شتاتهم حول مشروع وطنيّ موحّد، وشكّلتْ في الوقت نفسه تعويضا عمليّا لفقدانهم المروّع لدولتهم عبر خلق "دولة فلسطين" مُتخيّلة يحملها الفلسطينيون أينما حلّوا وارتحلوا، انتظارا للحظة التي تهبط فيها إلى الواقع، على الأرض. لعلّ تدريب م.ت.ف. لدفعة من الطيّارين الحربيّين قبل امتلاكها لمطار وطائرات، هو واحد من الأمثلة الساطعة ـ والغريبة في مجازيّتها ربما ـ على الطبيعة المُميّزة للحركة الفلسطينيّة التي حملتْ عبر رحلتها النضاليّة مُركّبات الثورة والدولة في آن معا.
لم تجرِ عمليّة تشكّل هذه المؤسّسات في عالم معزول بالطبع، فهي تأثّرت في جانب منها بطبيعة ووظائف الحركة بحدّ ذاتها، وفي جانب آخر بالسياق الأوسع للصراع في المنطقة الذي انغمست فيه الحركة بفاعليّة كبيرة. حتّمت الطبيعة المُقاومة للحركة الفلسطينيّة عليها تأسيس تشكيلاتٍ عسكريّة متنوّعة، وهي تشكيلات سرعان ما تمّ الاستثمار فيها لتأخذ طابعا مُمأسسا ومُنظّما. وكان لعمليّة الاستثمار هذه أن تتحوّل تدريجيّا إلى أداة عمليّة لتعميم الهياكل البيروقراطيّة وتضخيم أعداد الموظّفين بأجر في م.ت.ف. وجاءت المُساعدات العربيّة التي تدفقت على "فتح" بوجه خاص منذ أواخر السبعينيّات لتمنحها مزايا خاصّة، مكّنتها من تأسيس جسم بيروقراطي ضخم تكوّن من طيف واسع من المُؤسّسات والهيئات واللجان والأجهزة التي راحت مع الوقت تلتهم معاني الحركيّة السياسيّة والفاعليّة التي اتسمت بها الحركة عند انطلاقها. وقد شجّع تفاعل سياسات الريع الإقليميّة مع بنى الحركة الفلسطينيّة وطريقة إدارتها التي ترتكز على الزعامة التقليديّة والنافذة وشبه الفرديّة لياسر عرفات، إلى ظهور ملامح "زبائنيّة" طبعت عمل الحركة والعلاقات داخلها. فتضخّم البيروقراطيّة الفلسطينيّة في المنفى يُمكن رؤيته من منظور آخر كأداة ساعدت في توسيع دائرة المُنتفعين بطريقة تضمن مراعاة أكبر قدر مّمكن من التوازنات السياسيّة والحساسيّات الأخرى كالاعتبارات الجهويّة والمناطقيّة داخل هيكل الحركة.
بذور السلطة الفلسطينيّة
عندما بدأ وضع بذور السلطة الفلسطينيّة على الأرض، كان من الصعب على هذه العمليّة ألا تحمل في داخلها المركّبات المُلتبسة ذاتها للحركة الفلسطينيّة في المنفى. وكان واضحا منذ البداية أنّ ضروب تعميم الهياكل البيروقراطيّة المُقترنة بالزبائنية (والتي حاكت النمط السائد لدى الأنظمة العربيّة بطريقة لافتة) قد عكست نفسها بعمق على عمليّة تأسيسها. فالسلطة التي كانت جهازا محدود الصلاحيّات، مُفتقرا لسيطرة حقيقيّة على موارده، استطاعت بحلول العام 1997 أن تستوعب زهاء 83 ألف موظّف، موزّعين على طائفة واسعة من المُؤسّسات المدنيّة والعسكريّة المختلفة. وقد ظهرت هذه الفاعليّة بشكل خاص في إعادة تأسيس أجهزة الأمن التقليديّة، التي كان قادتها وكوادرها الرئيسيّون الرجال أنفسهم الذين عملوا في الدوائر الأمنيّة لـ "فتح" قبل تأسيس السلطة، واستحداث أجهزة أمنيّة جديدة لاستيعاب أبناء الحركة في الداخل، ومنحهم امتيازات ماليّة ومصادر نفوذ عبرها (كان جهاز "الأمن الوقائي" واحدا من الأمثلة على هذه السياسة حيث ارتكز كادره بشكل أساسيّ على نُشطاء الداخل). وبشكل عام، فإنّ النمط الذي كان سائدا في "فتح" قبل السلطة من إعطاء الحظوة لـ "العسكر" بقي حاضرا في تركيبة السلطة الفلسطينيّة الناشئة التي كانت في التسعينات تُدير دزّينة من الأجهزة العسكريّة والأمنيّة. فمن عدد الموظفين الـ 83 ألفا في العام 1997، شكّل العاملون في الأجهزة الأمنيّة ما نسبته 45 في المئة من إجمالي الموظّفين في السلطة بكلّ دوائرها المدنيّة الأخرى. وقد استحوذت أجهزة الأمن على حصّة لم تقل يوما عن 40 في المئة من إجمالي رواتب السلطة، وذلك لأنّ أجور موظّفيها كانت أعلى، ولأنّها تمتّعتْ على الدوام بمجموعة أخرى من الامتيازات المتنوّعة التي استفادت منها الرُتب العليا بشكل خاص.
لكنّ الاقتصار على تفسير التضخّم في البيروقراطيّة الفلسطينيّة بالاعتماد على المُحرّكات المُتعلقة بالزبائنيّة فقط يحجب العوامل المُستجدّة التي فرضت نفسها على السلطة التي أصبح مُناطا بها الآن إدارة شعب تحت الاحتلال، ويُخفي بالتالي العوامل الأخرى التي أسهمت في تضخمها على هذا النحو. فعُمر السلطة يناهز الآن العشرين عاما، ما يعني أن شكلها ووظائفها والقاعدة الاجتماعيّة التي تعتمد عليها قد تطوّرت، وهو ما انعكس على حجم بيروقراطيّتها وأدوارها وطبيعة الفئات المُستفيدة منها بطبيعة الحال. بشكلٍ خاص، أدّى تطوّر الخدمات الاجتماعيّة التي تُقدّمها السلطة في مجالات كالتعليم والصحّة إلى جعل التوسّع البيروقراطيّ تلبية لحاجة عمليّة. هكذا، راح موظفو هذين القطاعين يزدادون ليصل عددهم اليوم إلى حوالي 60 ألف موظّف، يشكّلون 35 في المئة من إجمالي العاملين في السلطة تقريبا. وفي موازاة ذلك، فرضت سياسة إسرائيل في الاستغناء عن العمالة الفلسطينيّة، وانهيار الاقتصاد الفلسطينيّ مع نهايات العام 2000، اللجوء إلى التوظيف البيروقراطي كسياسة تسكين اجتماعيّ لاستيعاب جزءٍ من البطالة في الجهاز الحكومي. وتعكس الأرقام الخاصّة بأعداد الذين تمّ توظيفهم في أجهزة الأمن هذا المنحى، إذ تشير إلى ارتفاع موظّفي الأمن من 52 ألفا عام 2001 إلى 82 ألفا في العام 2006. وكان جهاز السلطة قد دمج في مراحل مُختلفة أيضا طيفا من المحسوبين على الفصائل الفلسطينيّة التي عارضت في البدايات مشروع أوسلو، ليتجاوز في تضخّمه منطق الزبائنيّة ويتوغّل ليطال فئاتٍ مُتباينة ويدمجها بناء على اعتباراتٍ مُختلفة، إذ يصل عديد عناصره اليوم حوالي 170 ألف موظّف في الضفّة الغربيّة وغزّة.
رواتب السلطة وتضخّم الديون
فرضت البيئة التي نشأت فيها البيروقراطيّة الفلسطينيّة عليها منذ البداية أن تتطوّر بشكلٍ نكوصيّ. فتوسّعها الكبير اقترن بشكل لا ينفصم مع افتقادها المُتسارع لأيّ سلطة حقيقيّة على مواردها في ظلّ استمرار إسرائيل في الهيمنة الاستيطانيّة على الأرض. كان لهذا المنحى النكوصيّ أن يُحوّل السلطة في النهاية إلى مُجرّد إدارة تنفيذيّة لجهاز بيروقراطيّ ضخم محدود الصلاحيّات، وأن يجعل مشروعها السياسي قاصرا على الإجابة على مُتطلبات تشغيل هذا الجهاز وتأمين موارده. ولا يُمكن بحالٍ من الأحوال تجاهل حقيقة أنّ هذا المنحى قد تعمّق، وبل وتشكّل في جانب رئيسي منه، بفعل التحوّل الذي طرأ على اتّجاهات التمويل الدولي للسلطة خلال العقد الماضي. تكشفُ أرقام موازنة السلطة للعام 2014 وأرقام صندوق النقد الدولي عن هذه الديناميّة بوضوح. فبينما تُشير الموازنة إلى الحجم المُعتبر الذي وصلته فاتورة رواتب السلطة، التي تُهيمن على ما يزيد على 60 في المئة من الإنفاق العام (قُدّرت رواتب العام 2014 بـ 2 مليار دولار تقريبا)، تكشف أرقام صندوق النقد الدولي كيف تفاعل هذا التضخّم مع الاتّجاهات الجديدة للتمويل الدولي، إذ تشير إلى أنّه حتّى ما قبل العام 2001، كان 30 في المئة مع المعونة الدوليّة فقط يُستخدم لتمويل الموازنة العامّة، فيما ارتفعت هذه النسبة إلى 80 في المئة منذ العام 2007، ما يعني أنّ الأموال الدوليّة باتت تُوجّه بشكل شبه حصري لتمويل الإنفاق الجاري الذي تستهلكه الرواتب.
ساهم هذا التفاعل، مُضافا إلى القيود الإسرائيليّة المُشدّدة التي قوّضت الأسس الإنتاجيّة بشكلٍ يستعصي على الوصف، في تحوّل الاقتصاد الفلسطيني إلى "اقتصاد رواتب"، تدور فاعليّته بشكلٍ أساسيّ على الإنفاق الاستهلاكي. وكان من شأن هذه العوامل أن تفتح الطريق لصعود سريع لقطاع الخدمات، الذي يُساهم اليوم بـ 40 في المئة من الدخل الإجمالي، والذي يقول تقرير لسلطة النقد الفلسطينيّة أنّه كان الأفضل أداء من بين كلّ القطاعات خلال العقد الأخير. راحت هذه الحلقة المُفرغة تعمّق مشكلة الدّين مع الوقت. فمع تراجع الدعم الدولي وتضخّم مُتطلبات تشغيل السلطة الفلسطينيّة، التي غدت أكبر مُشغّل للعمالة، بات اللجوء إلى الاستدانة الخيار الوحيد أمام كلّ هذه المنظومة. فقد ارتفع الدين العام للسلطة بالإضافة لمتأخّراتها للقطاع الخاص في السنوات الثلاث الأخيرة من 26 في المئة من إجمالي الناتج المحلّي إلى ما يزيد عن 40 في المئة منه، لتصل قيمته اليوم إلى ما يقرب من 5 مليار دولار. وقد أصبح الاقتراض لتمويل الإنفاق الاستهلاكي ضربا شائعا لدى موظّفي السلطة في السنوات الأخيرة. فازداد عدد الموظفين الحاصلين على قروض بنكيّة من 76382 موظّفا في العام 2010 إلى 93731 موظّفا في نهاية عام 2012، وهو ما يعني أنّ أكثر من نصف موظّفي البيروقراطيّة الفلسطينيّة يُسدّدون ديونا شهريّة. فإذا أُخذ بعين الاعتبار أنّ الضفّة الغربيّة وغزّة من المناطق التي ترتفع فيهما نسبة الإعالة، فإنّ الدّين لا يبدو مشكلة موظفي البيروقراطيّة فحسب، بل مشكلة المجتمع الفلسطيني كلّه الذي تُعيله السلطة الفلسطينيّة بشكلٍ أو بآخر.
خاتمة
هل وصل مشروع بناء المُؤسّسات الوطنيّة الذي بدأ في المنفى إلى مآلاته النهائيّة بتحوّله إلى مشروع إدارة بلديّة كبيرة مُثقلة بالديون في ظلّ الهيمنة الإسرائيليّة؟ ما هي الحدود التي يُمكن لتضخم جهاز السلطة الفلسطينيّة أن يصلها في ظلّ تآكل سيطرته الفعليّة على موارده؟ هل تمتلك القوى الفلسطينيّة المُختلفة، وتحديدا تلك التي نظرت بسلبيّة إلى مشروع السلطة، تصورات عمليّة لليوم التالي لحلّها أو انهيارها؟ هل ترغب هذه القوى أصلا في حلّ السلطة، أم أنّها باتت تستبطنها في وعيها كـ "قدس أقداس" مشروعها السياسي؟ بعد عقدين من وضع مداميك أولى مؤسّسات السلطة الفلسطينيّة عام 1994، بدأت "حماس"، وضمن مشروعها لبناء سلطتها على غزّة، بناء النسخة الثانية من البيروقراطيّة الفلسطينيّة التي وصل عديد عناصرها اليوم إلى 50 ألف موظّف. ومع أفول الأجندة الفلسطينيّة التحرريّة، اُختزل الصراع الفلسطيني الداخلّي كلّه حول الطريقة التي يُمكن من خلالها إدماج هذا العدد في الهيكل القائم للسلطة الفلسطينيّة وإيجاد الموارد التمويليّة اللازمة له. ألم تدرك الطبقة السياسيّة الفلسطينيّة، بما فيها جناحها الحمساوي، أعباء هذا المشروع بعد؟ أم أنّها أدركته فعليّا لكنّها تستمرئ الذهاب فيه إلى نهايته مهما كانت النتائج ومهما كشفت الوقائع على الأرض من دلالات؟ كان ماريو بينديتي، أشهر روائيي الأوروغواي، يتهكّم على الحجم الكبير للبيروقراطيّة في بلده الصغير، وعلى شيوع "الذهنيّة المكتبيّة" لدى مواطنيه بالقول أن "أوروغواي هي المكتب الوحيد في العالم الذي وصل إلى مرتبة جمهوريّة مُستقلّة". لو كان مُقدّرا لبنيديتّي أن يُعايش التجربة الفلسطينيّة لاكتشف كيف تغيب الحدود بين الجدّ والهزل هنا، بحيث تكون فلسطين الرسميّة هي المكتب الوحيد في العالم الذي وصل إلى مرتبة جمهوريّة مستقلّة على الورق فحسب.