جناحان يتنازعان التوجهات الفكرية والسياسية لـ "حركة النهضة" التونسية، قد يمكن اختزال الفارق بينهما بالإشارة إلى موقع كل منهما إبّان حكم زين العابدين بن علي: المعتقلين في جانب، والمنفيين السائحين في الأرض الواسعة في الجانب الآخر.
وفي الذكرى الرابعة لاندلاع الثورات العربية، وبينما يقبع "بن علي" في ملاذه السعودي، يظهر شبحه في شوارع تونس نفسها، كما يوحي قمع المعارضين في مصر أن له شبحاً آخر يحوم حول عبد الفتاح السيسي، إذ ينقسم الثوار الشباب الآن في أرض الكنانة إلى معتقلين في الداخل، مسجونين او مضيق عليهم، وإلى مهاجرين أو هاربين أو منفيين اختيارياً في الخارج. فإن كانت هناك استحالة لعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل "ثورة يناير"، بسبب تغيرات اجتماعية تجري حالياً بفضل اندلاعها، وفي ظل التفاعلات التالية لها، إلا أن آمال المتفائلين بالمستقبل المتوسط – على الأقل – تظل رهينة تلك العلاقة المرتقبة بين العائدين من الخارج وبين الخارجين من غياهب السجون.. حين تأتي لحظة تعافي الثورة المأمولة.
الخروج من السجن الكبير
يصعب فصل الذاتي عن الموضوعي في حالة كاتب هذا المقال. فأنا شاب تجاوز الأطروحات الإسلاموية ونشاطه السابق مع جماعة الإخوان المسلمين وانخرط في العمل المدني غير المسيس، ثم انضم إلى حملة "دعم البرادعي ومطالب التغيير"، التي وُصفت بأنها حملة متجاوزة للأيديولوجيات والتوجهات الفكرية من غير مناهضة لأي منها، وتهدف إلى إيجاد بديل سلمي لحكم مبارك. كنت واحداً من هؤلاء المتفاعلين مع قضية مقتل الشاب السكندري خالد سعيد تعذيباً على يد الشرطة في الشارع، ومشاركاً في تأسيس لجنة التنسيق بين شباب القوى الوطنية بالإسكندرية، تلك التي شاركت في إشعال فتيل 25 يناير 2011. أربع سنوات من الآمال والآلام، ومن العمل في قضايا المهمشين حقوقياً وصحافياً وبحثياً، حاولت فيها أن أصل سيناء بأسوان والنوبة، وأن أضم شلاتين إلى واحة سيوة، في معركة وطنية تناضل فيها الأطراف المصرية النائية ضد سردية العاصمة المركزية وإقصائها وتهميشها. لكني في النهاية، كغيري من شباب الثوار، لم أجد في المليون كيلومتر مربع متسعاً فاضطرت إلى الخروج المجهول الأجل.
ليست حالة فردية. فالثوار المصريون الشباب منتشرون حول قارات العالم القديم وأميركا الشمالية، وبعضهم وصل إلى أستراليا وأميركا اللاتينية. تتفاوت كثافة "المصريين في المهجر"، وهو تعبير شاذ لم تألفه آذان المصريين من قبل، وتختلف من دولة إلى أخرى. رحل كثير من الإسلاميين إلى السودان وقطر وتركيا وماليزيا، كمجموعات وشبكات اجتماعية واقتصادية وتنظيمية، مصطحبين معهم وحولهم بعض المحسوبين على الصف الثوري من غير الإسلاميين، الذين ربما تربطهم علاقات إنسانية وعائلية بالإسلاميين أكثر من غيرهم. أما الراحلون من الثوار المصنفين يساريين وليبراليين فاختلفت وجهاتهم بين باحثين عن فرص عمل آمنة من الملاحقة الأمنية (ولو كانت في السعودية أو الإمارات أو الكويت)، معتزلين النشاط السياسي والتعبير عن توجهاتهم عبر شبكات التواصل الإلكترونية تفادياً للأذى المعيشي في الدول الخليجية المذكورة. والبعض منهم وجد طريقه إلى الشمال الغربي، أي اسكندنافيا ووسط وغرب أوروبا والولايات المتحدة وكندا، وآخرون إلى بلدان غير مألوفة للمصريين، مثل شرق أوروبا وآسيا الوسطى وأفريقيا جنوب الصحراء.
ليس الدافع هو الهروب من الملاحقة الأمنية أو الأحكام الملفقة فقط، إذ الهروب من الإحباط وفقدان قيمة التضحيات حاضر بقوة، وكذلك السعي وراء حياة يومية كريمة لا تُنتهك فيها الأجساد داخل المنازل وفي الشوارع والمواصلات العامة. يبحث الراحلون عن إنسانيتهم المقهورة في مصر، إذلالاً من أجل كوب ماء نظيف، وإرهاقاً بسبب انقطاع التيار الكهربي في الصيف القائظ، واستباحةً لأجساد النساء في المجال العام، وإزهاقاً لأرواح المتظاهرين السلميين عقاباً على تعبيرهم عن آرائهم. لا تنتهك الأجساد فقط في السجون وأماكن الاحتجاز، ولا تُعذب الأرواح فقط بين قضبانها وجدرانها، بل صار البقاء في مصر كالسجن الاختياري الذي لم يعد مستغرباً فيه أن يسألك الشرطي حال توقيفك في غير منطقة سكنك، مستنكراً ومتشككاً: "ما الذي أتى بك إلى هنا؟!".
تاقوا إلى التحرر والكرامة في وطنهم، وقدموا في سبيلهما تضحيات كثيرة بالأرواح والأجساد والأموال والأوقات، فلمّا تعذر الوصول إليهما رحلوا باحثين عن شيء منهما في رحاب الكوكب الأرضيّ.
انتوى بعضهم الهجرة بلا عودة، لكن أغلبهم عازمون على استثمار الوقت الضائع في الاستزادة العلمية والمهنية على أمل التهيؤ للعودة المنشودة. تتفاوت استعداداتهم للانفتاح الفكري والتوسع المعرفي، لكن تجربة الخروج والترحال تفرض عليهم جميعاً قدراً إلزامياً من حزم المتاع، واجتياز الحدود، وتجربة الفنادق والمطارات، ورؤية التنوع الإنساني في اللسان والعرْق والدِين وأنماط الحياة. قليلون منهم من ينخرط في أعمال لها علاقة بالشأن العام المصري، سواءً مشروعات إعلامية أم تنموية أم أكاديمية، فردياً أو جماعياً، والأغلب يجتهد من أجل توفير مستلزمات الحياة الضرورية ورعاية عائلته مختبِراً قسوة العالم الرأسمالي الاستهلاكي.
ينتهي الآن ذلك العهد الذي ينتظر فيه القابعون في نجوعهم وقراهم عودة المسافر كي يتحلّقوا حوله مشدوهين إلى ما يحكيه من غرائب العالم الخارجي وعجائبه، أو إلى مغامراته وقصصه المبْهرة. صحيح أن ثورة الاتصالات وشبكات التواصل الاجتماعي نقلت إلى أكثر المنغلقين صور العالم المتنوع وأصواته، الصور الأقرب الى الواقع بعيداً عن الخيال الهوليوودي والزيف الدرامي، لكن الحكم الحالي يدفع قطاعاً مهماً من المصريين الآن إلى اختباره شخصياً بذواتهم في تجربة ثلاثية الأبعاد، يمتزج فيها الضوء بالصوت، والفكرة بالمشاعر، والملموس بالمعتقَد.
وبديل الخروج.. الدفن
قبل أربع سنوات، عاد المهندس الشاب هاني الجمل من الولايات المتحدة، تاركاً وظيفة جامعية مرموقة في إحدى جامعاتها، يحدوه أمل المشاركة في بناء وطنه المنتفض ضد فساد مبارك واستبداده. لم يكن الجمل يوماً قريباً من صفوف أعداء السيسي من الإسلاميين الجاري شيطنتهم واستباحتهم منذ انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013، بل كان عضواً مؤسِّساً في حزب الدستور الذي تزعمه محمد البرادعي، أحد رموز جبهة الإنقاذ التي تصدرت مشهد معارضة حكم الإخوان المسلمين. شارك الجمل في وقفة احتجاجية أمام مجلس الشورى اعتراضاً على قانون التظاهر، المطعون قضائياً في دستوريته، فانتهت به السنة الرابعة من الثورة خلف أسوار السجن محكوماً عليه بخمس عشرة سنة. ينتظر هاني الجمل ورفاقه حكم محكمة النقض، أو ربما عفواً رئاسياً بفضل ضغوط إقليمية ودولية لإتمام شيء من المصالحة الداخلية، وإلا فإنه من المفترض أن يخرج من السجن ليجد طفليه شابين يافعين، أحدهما في الجامعة والآخر في الثانوية.
ليستْ حالة فردية كذلك، فأساتذة الجامعات والمهنيون وكل أصحاب الحضور الاجتماعي والمكانة يتم التنكيل بهم وإذلالهم إذا وقعوا في أغلال الاعتقال. وليس بعيداً عن ذلك ما نشره أحد مواقع جريدة "اليوم السابع" الموالية للسلطة الحالية من تسجيل مصور لمحاكمة استغرقت أربع دقائق حكم فيها القاضي بالحبس 3 سنوات على مهندس اتهمه ضابط شرطة بأنه أساء إليه. فبدعوى الضابط فقط، من دون أدلة أو شهود أو دفوع أو مرافعات، ومن دون تحقيق في النيابة أو محضر مكتوب، حكم القاضي بهذا الحكم ضارباً بكل القوانين والأعراف القضائية عرض الحائط. وهو القاضي نفسه الذي حكم على أحد الشباب بالسجن عدة سنوات إضافية لأنه تجرأ وسأله إذا كان يملك حساباً على موقع "فيسبوك" أثناء إحدى جلسات محاكمته. كما حرصت الشرطة على نشر صور أستاذ جامعي رفض منصباً وزارياً في بداية الانقلاب وهو منكسر أمام عدسة مصورهم، وكشفت عائلته لاحقاً أن تصويره كان تحت تهديده بتعذيب أخيه أمام عينيه.
عاد القمع المادي والمعنوي لأسوأ مما كان عليه تحت حكم مبارك، وصودرت هوامش حرية التعبير والمعارضة والعمل المدني. قد يكون ذلك مجرد عَرَض من أعراض انحسار المد الثوري، وليس مؤشراً على الهزيمة النهائية أو وقف ديناميكيات التغيير التي انطلقت لا يوقفها شيء، لكن أحداً لا يمكنه أن ينفي الأضرار الجانبية والتشوهات التي تحدثها هذه الأوضاع في المقهورين بالداخل، سواءً كانوا داخل السجون الضيقة أم في السجن المصري الكبير. يتداول الخارجون من الاعتقال والعائدون من زيارة ذويهم في السجون أخباراً مؤكدة عن انتشار الفكر التكفيري في أوساط الشباب داخل السجون. لعل ذلك يستدعي القصة الكلاسيكية الشهيرة عن نشأة "جماعة المسلمين"، أو عن تلك التي أطلق عليها "التكفير والهجرة" داخل السجن في الستينيات من القرن الماضي، بالتزامن مع التطرف الشديد الذي أصاب الأديب سيد قطب، حتى صار المنظّر الأول للجماعات الجهادية لاحقاً.
لا يخفى على المقيمين بمصر، بل حتى على زائريها، ما يمارسه الناس من رقابة ذاتية، وما يشيع بينهم من تربص وتوجس. وخير مثال على ذلك هو حادثة توقيف آلان جريش، رئيس تحرير جريدة لوموند ديبلوماتيك الشهرية المرموقة، بسبب وشاية "مواطِنة شريفة" عنه وعن مرافقتيْه، حين سمعتهم يتحدثون في الشأن العام في إحدى مقاهي حي جاردن سيتي، وهو حي السفارات المليء بالأجانب من الدبلوماسيين وغيرهم. يشعر الناس أنهم مراقَبون وعُرْضة للوشاية دائماً، فيمارسون الرقابة الذاتية ويتطوع بعضهم بالوشاية الاحترازية على سبيل إبداء حسن النية والتعاون. اشتد السعار الاجتماعي، واحتد الاستقطاب، وتوحشت المعايير، فرخصت الدماء، وشاعت الشماتة، واستبيح السكوت عن الجرائم والانتهاكات.
يجري دفن المروءة في الداخل المصري، بالتوازي مع انفتاح المهاجرين والمسافرين على العالم الواسع واختبارهم جوانب إنسانية جديدة. ستمر الأيام والشهور والسنون، ثم نجد التغيير في مصر رهينة التفاعل بين العائدين من آفاق الخارج والخارجين من أقبية القهر الداخلي، حتى إننا حينئذٍ سنستدعي من الذاكرة لحظة هروب "بن علي" من تونس في كانون الثاني/ يناير2011 والتفاعلات التي شهدتها تونس بين ضحايا نفيه وسجنه، وذلك قبل أن يظهر شبحه في الظرف الإقليمي الممهّد لفوز الباجي قايد السبسي في نهاية 2014.