في عام 1910 أقيم "كيبوتس دجانيا" على بحيرة طبريّا. كان أول كيبوتس تعاوني اشتراكي يقام داخل فلسطين، وأقيمت على أثره عشرات الكيبوتسات التي خصصت لغرضي الزراعة والصناعة. لعقود تالية، ظل الكيبوتس واجهة الصهيونية، تعرض فيها "الإنسان الجديد" الذي شكلته بداخلها. الكثير من الحماس الذي قوبلت به نشأة إسرائيل في العالم كان ناجماً عن الإعجاب بالكيبوتس وبإدارة الحياة فيه.
لم يكن الكيبوتس مجرد مستوطنة تعاونية، بل خلق مفاهيمه الخاصة وإنسانه الجديد. في الكيبوتس كان الجميع يأكلون، يغسلون ملابسهم، يستحمون ويعملون سوياً، بل وينام أطفال أعضاء الكيبوتس معاً أيضاً. لا ملكية شخصية هنا. الكيبوتس ملك "هاكيرِن هاكييمت"، وهي المؤسسة المسؤولة عن شراء أراضي فلسطين وإعدادها للاستيطان اليهودي، وليس لأحد فيه الحق في الملكية، بما فيها ملكية الأطفال. يمكن القول إن الكيبوتس قد أسهم إسهاماً كبيراً في تكوين صورة "الحالوتس" العبرية، أي "الرائد"، الوقح، غير المتدين، منتصب القامة، الذي يمسك فأساً في يد وسلاحاً في اليد الأخرى.
كان هذا هو الزمن الذهبي للكيبوتس، وللصهيونية بالتبعية. بعد إعلان قيام الدولة تغير كل شيء، ظهر في المشهد بشر جديدون، واستوطنت إسرائيل وبنت أماكن أخرى. وبدأت الأزمات الاقتصادية تظهر في الواقع.
رؤية اليهود العرب
في أوائل الخمسينيات تعرّف الصهاينة على المهاجرين اليهود العرب الذين أتوا في هجرات كبيرة إلى فلسطين لأول مرة. يقدم فيلم "صالح شباتي"، المعروض عام 1965 لأول مرة نمطاً لليهودي العربي، غير القادر على التلاؤم مع حياة الكيبوتس الغربي الحديث. صحيح أن الفيلم ينتصر في النهاية لـ "صالح شباتي"، الذي ينجح، بحيله الساذجة في الحصول على شقة والارتقاء اجتماعياً، ولكن الفيلم يقدم النمط الذي رآه سكان الكيبوتس في أوائل الخمسينيات لليهودي الشرقي: مثير للسخرية، متدين، عجوز ومتواكل وساذج.
في إحدى فقرات الفيلم الوثائقي "الكيبوتس" للمخرجة عنات زلتسر والمقدم بودي بر أون، يقول عضو بالكيبوتس: "منذ العشرينيات وحتى إقامة الدولة في الواقع، كانت الهجرة تتم انتقائياً، وخصصت لنخب مثل الحركة الكيبوتسية، لهذا فإذا رأيت كيف بدا الاستيطان اليهودي عشية حرب الاستقلال، ستجد أنه كان مثل اسبرطة بشكل ما. أي، رجال في الأساس وشباب في الأساس. لم يكن الأمر هكذا مع الهجرة الكبيرة من اليهود الشرقيين وقت إقامة الدولة، حيث هاجر إلى الكيبوتس أطفال وشيوخ ومرضى، وبالأساس أشخاص لا يستلهمون الطابع الاشتراكي النخبوي للحركة الكيبوتسية".
لم تستوعب الكيبوتسات الهجرات الضخمة من البلدان العربية، والتي حُمل ابناؤها بالتبعية إلى معسكرات من خيام فقيرة وبلا كهرباء سميت بالـ "معابر"، ونقلوا على إثرها إلى "مدن التطوير"، التي جرى بناؤها في الخمسينيات والستينيات بهدف استيعابهم. ظلت هذه هي التقسيمة السائدة حتى اليوم بدرجات متفاوتة: أعضاء الكيبوتسات "الراقية" المدعومة من الدولة إشكنازيون، وسكان مدن التطوير الفقيرة من اليهود الشرقيين، قبل أن ينضم إليهم اليهود الروس في أوائل التسعينيات.
الكيبوتس في مقابل مدن التطوير ظل مثالاً لعدم المساواة الصارخة التي يتمتع بها الإشكنازيون في إسرائيل مقابل اليهود الشرقيين. في ورقة بحثية بعنوان "عدم المساواة هو موضوع جغرافي"، يشرح أورن يفتحئيل أستاذ الجغرافيا بجامعة بن غوريون، أنه سواء في الجليل (شمال فلسطين) والنقب (في الجنوب)، يسود نموذج موحد، نخبة قليلة إشكنازية تسيطر على مساحة كبيرة من الأراضي، في مقابل الشرقيين الأكثر عدداً الذين يسيطرون على مساحات أقل، وفي ذيل القائمة العرب الفلسطينيون، الأكثر عدداً، وذوو الأراضي الأقل.
الإزاحة للهوامش
"رواد رغم أنفهم"، هكذا يوصف اليهود الشرقيون الذين سُكّنوا في مدن التطوير الفقيرة. يشير هذا إلى مواقع هذه المدن، التي تقع في مناطق متاخمة للعرب أو على أراض مصادرة من العرب، مثل ديمونة وكريات جت في النقب، كريات شمونه في الجليل، وغيرها. الاستراتيجية نفسها سرت أيضاً على أحياء المدن الكبيرة، كما يقول يفتحئيل، مثل مصرارة والقطمون في القدس، الحصيلة ووادي صليب في حيفا، المناطق الشرقية ليافا، وغيرها، مما جعل هذه المناطق هي الأقل أمناً في إسرائيل، كما أنها، على نقيض الكيبوتس في سنوات مجده، لم تحظ أبداً برعاية مؤسسية، وبالتأكيد لم تعتبر هي واجهة الصهيونية، وإنما بالعكس، يمكن اعتبارها شارعها الخلفي. تقدم إسرائيل نفسها اليوم بوصفها هي المركز، تل أبيب الضاجة والكوزموبوليتانية، وليس الضواحي التي تقع فيها مدن التطوير.
في كتاب "يهودية وديموقراطية: اختبار في التعليم. كتاب عن التعليم، القومية، العرقية والديموقراطية"، يقدم لنا الباحث من أصل مغربي، سامي شالوم شطريت، تفسيراً لتسكين اليهود الشرقيين في المناطق المتاخمة للعرب: "شكّل هذا طريقاً سريعاً لوضع هؤلاء اليهود أمام انعكاسهم العربي والذي كان وقتها هو العدو نفسه، مثلما أن سائر أقربائهم قد تم تسكينهم في القرى الحدودية في الشمال أو في الجنوب، وتعلموا على جِلدهم، هنا في دولة إسرائيل، أن العربي هو عدو اليهودي ومضطهده. أي أن الواقع اليهودي العربي الذي شكلته الصهيونية الإشكنازية في أرض إسرائيل أثبت لهم فيما يتجاوز أي شك أن الهوية العربية هي عدوة الهوية اليهودية. وأكثر من هذا، فإن اليهودي ليس بإمكانه أن يكون يهودياً كاملاً، وليس إسرائيلياً فحسب، إن لم يكن نقياً ومتحرراً من أية ذرة عروبة".
كانت هذه استراتيجية ناجحة على ما يبدو. فمعدلات التصويت للأحزاب اليمينية المتطرفة، الليكود ثم شاس، أعلى لدى اليهود الشرقيين الساكنين في "الضواحي" مما لدى اليهود الإشكنازيين المتعلقين بالـ "كيبوتس" كنمط حياة. ولكن الأمر لم يكن هكذا من البداية. الأديب من أصل عراقي سامي ميخائيل، وهو صاحب رواية "متساوون ومتساوون أكثر"، التي يصف فيها حياة اليهود الشرقيين في المعابر الفقيرة، يملك رداً بليغاً على هذا. يذكرنا في محاضرة ألقاها في جامعة حيفا بأن كل التعصب اليهودي المسيحاني ليس وليد اليوم وإنما كان ابناً للكيبوتس وللحركة الصهيونية في الأصل: "الاحتلال كارثة في تجسده بالنسبة لإسرائيل. أرض إسرائيل الكاملة، الحماس للاحتلال، للسيطرة والاستيطان في قلب تجمع سكاني فلسطيني مكتظ، هذه العاصفة الجارفة تربت في حضن الصهيونية التي ترى نفسها مستنيرة، علمانية واشتراكية. تعبير "أرض إسرائيل الكاملة" لم ينمُ في حزب الليكود ولا في المدارس اليهودية الدينية القومية، وإنما تم صكه في كيبوتس عين حارود على يد شعراء، أدباء ومفكرين".
انهيار الكيبوتس
ماذا يعني أن تكون "عضو كيبوتس"؟ يتساءل المدون راعي كاتسير، ويجيب: "أن تكون عضو كيبوتس، يعني أن تسير حافياً طول الطفولة، أن تكبر في مكان مشترك للأكل وليس مطبخ ماما، لا تبتسم أبداً، أن تدخن نوفلس لأن هذا ما يدخنه الكبار، ولكن لأن العلبة تكلف تسعة شيكلات، أن تفكر أنه من الطبيعي أن تنام مع أشخاص آخرين في نفس السرير وأن تكره أي شخص لا تعرفه حتى لو كان عضو كيبوتس ولكن لا ينتمي لحركة الشبيبة في كيبوتسك.. أن تترك الكهرباء مشتعلة لأن الكيبوتس هو من يدفع، أن تسافر على موتوسيكل كأنما ولدت عليه.. أن تتحدث دائما بلا مبالاة ساخرة، أن تولد باسم وأن تأخذ في سن السادسة لقباً غريباً يرافقك حتى موتك، أن تكون معاقاً من ناحية المشاعر.. أن تخترع لكل شيء اسماً آخر أكثر عملية.. أن تنتقل دائما عبر الحقول حتى لو لم يكن الطريق أقصر، أن تضاجع فتيات من كل العالم بدون أن تسافر للخارج مرة واحدة في حياتك.. ألا تمشي أكثر من عشرين دقيقة لفتاة.. ألا تمشي بمحفظتك أبداً لأن الجميع يسجلون لك الحساب، أن تقود سيارات من سن العاشرة".
هذه هي مجموعة الصور المرتبطة بعضو الكيبوتس. تنتمي الصور لأزمنة مضت. والآن تبدو كمجرد ذكرى باهتة لحلم كبير قديم. صحيح أن الكيبوتس ما زال يذكر الناس بهالة المجد التي ارتبطت به قديماً، ولكن ما جرى في العالم ارتبط به أيضاً، انهارت الكتلة الاشتراكية وبدأ الكيبوتس يخطو خطوات واسعة نحو الخصخصة.
يشرح لنا فيلم عنات زلتسر كيف أن دخول التليفزيون للكيبوتس كان حدثاً مزلزلاً، حيث شاهد أعضاؤه المنغمسون في الحياة الاشتراكية التعاونية، لأول مرة على الشاشات مستويات حياة مرتفعة يعيش فيها الإسرائيليون الآخرون، وبدأوا في الانفتاح تجاه مستويات حياة أعلى، بدأت الأمهات في التصريح برغبتهن في الاحتفاظ بأطفالهن إلى جانبهن، بعد أن كان جميع الأطفال ينامون سوياً في غرف مشتركة، بدأ التضخم في النفقات والاعتماد على قروض بنكية، في مجالات مثل البناء وتأثيث البيوت، إلى أن وجدت الكيبوتسات نفسها غارقة في ديون ضخمة، وتزايدت وتيرة الهجرات الجماعية، خاصة بين شباب أنهوا الخدمة العسكرية لتوهم، وتولد الإحساس أن من تبقوا في الكيبوتس هم غير القادرين على مغادرته، أي العجائز. دب الوهن في الجميع. ودخل أعضاء الكيبوتس في حالات من البطالة المقنعة.
في نهايات الثمانينيات، بالتزامن مع انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية، بدأت خصخصة الكيبوتس تحت مسمى "الكيبوتس المتطور"، سواء عبر منح أعضاء الكيبوتس أجوراً متفاوتة بحسب سوق العمل، أو بالخصخصة الكاملة للقطاعات، بما فيها القطاعان الأهم، التعليم والصحة، اللذين عُدّا بمثابة "قدس الأقداس" في الكيبوتس القديم. في 2012 مثلاً يعيش حوالي 140 ألف شخص في 274 كيبوتس على طول إسرائيل، تبقى منها فقط حوالي 70 على غرار الكيبوتس القديم التعاوني.
برغم هذا، ظل الكيبوتس هو الابن المدلل للدولة، وقدمت له تسهيلات قضائية كثيرة لدرجة أن قراراً كاد يصدر عام 2001، يسمح لأعضاء الكيبوتس بتغيير نشاط الأرض التي يعملون عليها من الزراعة إلى البناء، بما يعني مزيداً من فرص الربح لأعضاء الكيبوتس، غير أنه سرعان ما رُفض بعد دعوى رفعتها حركة "القوس الشرقي الديمقراطي". كان هذا انتصاراً نادراً لليسار الشرقي على احتكار الكيبوتسات والنخبة الإشكنازية للموارد والأراضي في إسرائيل. وإن لم يمنع استغلال أراضي الكيبوتس في إقامة صالات ديسكو، محطات بنزين، مخازن، غرف للإيجار، أكشاك للوجبات السريعة، وكل الأغراض التجارية والترفيهية غير المتعلقة بالزراعة ولا بالصناعة.
هكذا انهارت الصورة الاشتراكية البراقة للكيبوتس، تخصخصت موارده وانطفأ حلمه، ولم يعد يتبق منه إلا "إشكنازيته"، وسيطرته على الأراضي والموارد مقابل الأراضي الواقعة حوله، وإسهامه الأكيد في تكوين شخصية "الإسرائيلي" كما يحب أن يرى نفسه.