تشرّع مسودة الدستور النهائي المقدَّم في الأول من حزيران/ يونيو 2013، الخطوط العريضة للنظام السياسي المستقبلي لتونس. بل وأبعد من ذلك، فهي تحدّد عناوين عقد اجتماعي جديد، بعد 16 شهراً من العمل عليه. ليست المسألة هي في استعراض مغامرات المجلسٍ الوطني التأسيسي والمجموعات السياسية غير المؤهلة لتحمُّل مسؤولياتها التاريخية، بل هي محاولة لتقديم تحليل نقدي لمشروع الدستور. هل هو ثوري؟ ما هو وزن كلّ من المؤسسات، والمرجعيات، والممارسات السابقة في نصه النهائي؟ أيّ خطاب تمّ الاعتداد به؟ الدستور هو بالطبع صورة عن توازنات القوى كما هي قائمة في لحظة صياغته، أكثر مما هو نصّ من شأنه تنظيم تمفصل السلطات بشكل مثالي. لكننا نلاحظ أنّ مشروع الدستور، سواء كان على صعيد النظام السياسي المقترح، أو لناحية مقدار الحقوق والحريات التي ستنقش من الآن وصاعداً في الحجر، أو في ما يتعلق بعلاقات القوة بين السلطات نفسها، يستقي مراجعه من ماضي تونس، مع إرسائه، بطريقة جديدة كلياً، سيادة تشريعية معقلنة في خدمة دولة مدنية، لكن أيضاً في خدمة نواة دولة رفاه.
نظام جديد: البرلمانية المعقلنة
النظام السياسي المقترَح في مشروع الدستور الجديد برلماني بامتياز، وهذه قطيعة مع ما سبقه. ينص على ذلك الفصل 94 بقوله إنّ «الحكومة مسؤولة أمام مجلس نواب الشعب». وعلى الرغم من أن توطئة مشروع الدستور تتحدث بطريقة عرضية عن «نظام جمهوري ديموقراطي تشاركي»، فإنّ النظام السياسي ينتمي إلى الديموقراطية التمثيلية بوضوح.
وتُدخل ثلاثة ابتكارات إضافية ثورة في توازُنات السلطات ضمن النصّ الجديد: نلاحظ من جهة اختفاء المجلس التشريعي الأعلى، او بتعبير آخر مجلس الشيوخ. هكذا نعود إلى حالة ما قبل العام 2002. يهدف هذا الإجراء إلى تعزيز سلطة مجلس نواب الشعب التي لا تخففها رقابة مجلس تشريعي آخر. ومن جهة ثانية، يختفي مجلس الشيوخ لصالح جماعات محلية منتخبة في إطار اللامركزية (الفصل 13)، التي يفترض بها ألاّ تهدِّد «وحدة الدولة»، غير أنّ حدودها وصلاحياتها لا تزال غائمة. كما يكمن الابتكار الأخير في ظهور»هيئات دستورية مستقلّة» من شأنها الحدّ من اتساع نفوذ السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. هذه الهيئات الخمس معنية بالانتخابات، والإعلام، وحقوق الانسان، والتنمية المستدامة، وحقوق الأجيال المقبلة، وأخيراً الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد.
وعلى الرغم من أنّ إضافة هذه الهيئات، التي من المفترَض أن تكون مستقلّة، يؤدي إلى تقليص مساحات عمل السلطات التشريعية والتنفيذية، إلاّ أن مكوّناتها، فضلاً عن مدى سلطاتها وأهدافها، تبقى أموراً غير محدَّدة بشكل كاف.
إنّ الفصل بين السلطات مذكور رسمياً في توطئة مشروع الدستور. أما السلطة القضائية، «المستقلة» بحسب الفصل 100، فقد خصّص لها المشرّع قسماً خاصّاً، وهو ما لم يكن عليه الحال في الدستور القديم. وإلى جانب المحاكم القضائية، والإدارية والمالية، تمّ استحداث محكمة دستورية (الفصل 115)، دورها مراقبة دستورية مشاريع ومقترحات القوانين. أما السلطة التنفيذية، فهي ذات «عقلَين» (أو رأسين)، فهناك من جهة رئيس للجمهورية منتخَب بالاقتراع العام المباشر لخمس سنوات (لولايتين متتاليتين بالحدّ الأقصى)، وهو رئيس أراد المشرع التأسيسي منحه شرعية توازي قوة شرعية النواب، وتفوق شرعية رئيس الحكومة. في الوقت نفسه، فإنّ هذا «المنافس» لشرعية لا شك فيها، مكبوح بفعل ضيق صلاحياته. فباستثناء السياسة الخارجية والدفاع والأمن الوطنيين، (فضلاً عن صلاحياته البروتوكولية والرمزية)، فرئيس الجمهورية ليس مهندس السياسة العامة للدولة. وهو يمتلك حق حلّ المجلس الوطني، إضافةً إلى أنّه غير مسؤول سياسياً، وهو لذلك «يسمو فوق الأحزاب السياسية»، ولكنه يمكن أن يتعرّض في الوقت نفسه لعملية إعفاء من قبل المجلس فيما لو قرر هذا الاخير أنه لا يحترم الدستور.
من جهة ثانية، ينصّ مشروع الدستور على منصب رئيس حكومة يعيّنه رئيس الجمهورية، ويكون مسؤولاً أمامه وأمام مجلس نواب الشعب، ما يعني، وبشكل صريح، أن رئيس الحكومة يقف بتصرف هاتين المؤسستين، لكنه في الوقت نفسه يمثل «العقل» الحقيقي للسلطة التنفيذية. ورئيس الحكومة الذي يختاره رئيس الجمهورية من الحزب أو الائتلاف الانتخابي ذو الأغلبية في المجلس الوطني، لا يحق له، شأنه شأن أعضاء الحكومة، جمع تكليفه ذاك مع تكليفه النيابي، ويمكن طرح الثقة بالحكومة ورئيسها وفق شروط يصعب تطبيقها.
في المحصّلة، يبدو أن النظام السياسي المرسوم بموجب هؤلاء المشرعين التأسيسيين هو عبارة عن «نظام برلماني معقلَن»، بعيداً عن المغالاة البرلمانية أو النظام الرئاسي. هناك بالفعل تفوُّق للسلطة التشريعية، لكن هذا التفوُّق مخفف بفضل ادوار كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، علاوة على السلطات الممنوحة للهيئات المحلية، وهي هيئات منتخبة. لكن هذه العقلنة تصطدم بمسألة جوهرية ستشكّل تحدّياً حقيقياً للنظام السياسي المقبل: كيف سيتمكن هذا النظام من العمل في حال وصول غالبية برلمانية ذات لون سياسي مختلف عن اللون السياسي لرئيس الجمهورية؟ يبدو أنه بنظر المشرع التأسيسي، فـ«التعايش» بين رئيسي جمهورية وحكومة من انتماءين سياسيّين متعارضين لا يطرح مشكلة كبيرة، على اعتبار أنّ صلاحيات كل منهما منفصلة بشكل واضح وتكاملية. لكن هل سيكون ذلك كافياً لتأمين وحدة الدولة وفعالية النشاط العام، وتجاوُز الانقسامات الايديولوجية والسياسية التي تهدِّد بتجميد العمل البرلماني؟ الشكّ في ذلك مشروع، وخصوصاً أنّ النص لا يقترح أي آليّة لتنظيم مثل هذه النزاعات.
ثورة «صامتة»: نحو دولة مدنية ودولة رفاه؟
تستند الروحية العامة لمشروع الدستور الى إحالات عديدة ومتنوعة، قد تبدو مرتبكة. فالتوطئة والباب الأول («المبادئ العامة») يمزجان بين الإحالات إلى الحقوق الكونية وانتماء تونس للعالم العربي ــ الاسلامي، من دون مبالغة ولا حماسة. لكن يُلاحَظ غياب أي إحالة إلى «الثورة». حتى ان هذا المصطلح غير وارد إلا مرة واحدة، في صيغة «ثورة الحرية والكرامة» (في التوطئة). من هذه الزاوية، فمن المؤسف أن المشرع التأسيسي لم يتبنَّ الشعار الأبرز للثورة: «شغل، حرية، كرامة وطنية». فهو أكثر رمزية من الشعار السطحي: «حرية، كرامة، عدالة، ونظام» (الفصل الرابع)، الذي يخلط بين شعارات «بورقيبية» وأخرى «نوفمبرية» (محسوبة على خطاب النظام السابق للرئيس بن علي المعروف بنظام «السابع من نوفمبر ـ تشرين الثاني») وثالثة ثورية. ويوضح الفصل الأول الذي بات توافقياً، أنّ المشرع التأسيسي متأثر بشكل واضح بالدستور السابق الذي وُضع في العام 1959. وهذا، بعكس التصورات العامة، يسمح بتوضيح كيف أن الدساتير، ومن ضمنها تلك المسمّاة ثورية، تُكتب دائما بأشياء مستقاة من الماضي. وهذا ما يفسّر أنّ الاسلام قد بقي دين الدولة الرسمي في مشروع الدستور الجديد، حتى وإن كانت تلك الدولة موصوفة بأنّها دولة «مدنية» (بحسب التوطئة والفصل الثاني). يرى البعض في ذلك تناقُضاً من شأنه فتح الباب أمام احتمال إرساء ثيوقراطية إسلامية، ويعتبرون أنّ ذلك يشهد على «ازدواجية خطاب» الاسلاميين وحلفائهم (ما يطلق عليه «الترويكا»). غير أنه يبدو من غير المنطقي أن تكون ديكتاتورية دينية ممكنة دستورياً لمجرّد تضارب الفصلين 1 و141، لأن من شأن ذلك تجاهُل جميع الحقوق التي تضمّنها الدستور والتي تكفل حرية المعتقد والرأي والتعبير والإعلام. وعلى أية حال فإنّ المس بما يشكّل وحدة هذه الحقوق وجوهرها، والمس بالطابع المدني للدولة، ممنوع صراحةً في المشروع.
لكن هذه الاستمرارية لا تحول دون تسلُّل «ثورتين صامتتين» الى مشروع الدستور الجديد. نسجّل بادئ ذي بدء تضمينه حقوقاً مدنية كانت غائبة حتى الآن، حتى في الديموقراطيات المسمّاة «متقدّمة». وليس مفاجئاً أنّ يحتفى بتلك الحقوق ــ الحريات المشار إليها: حرية الرأي، والتعبير والفكر والمعتقد والاعلام والابداع والنشر... و يصبح حظر التعذيب، المعنوي منه والجسدي، مكفولاً رسمياً (الفصل 22). كما فشل مشروع «حزب النهضة» بإدخال «التكامل» بين الجنسين إلى نصّ الدستور (عوضاً عن المساواة)، كذلك تضمينه الإحالة إلى الشريعة. فينص الفصل 20 على المساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات. أما الفصل 45، فيذهب أبعد من ذلك، إذ يقول إنه «تضمن الدولة حماية حقوق المرأة وتدعم مكاسبها. تضمن الدولة تكافؤ الفرص بين المرأة والرجل في تحمُّل مختلف المسؤوليات. تتّخذ الدولة التدابير الكفيلة بالقضاء على العنف ضدّ المرأة». يمكننا أن نسعد بإدراج الحريات الأكاديمية وحرية البحث العلمي (الفصل 32)، وهو ما لم يحصل في الدول الديموقراطية «المتقدمة»، وفي مقدمتها فرنسا. وقد نصّ مشروع الدستور على «الحقّ في الحياة» على اعتباره «مقدَّساً» (الفصل 21)، وهو بند أثار سجالاً كبيراً على قاعدة أنه قد يشكّل منطلقاً للانقضاض على حق الإجهاض، لكن يمكن أيضاً تفسير ذلك الفصل على أنه الأساس القانوني لحظر ممكن لعقوبة الإعدام.
تتعلق الثورة الثانية الصامتة بمدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهي حقوق لا تقل عدداً عن الحقوق ــ الحريات، وتشكّل ابتكاراً جوهرياً بالمقارنة مع دستور العام 1959. من هذا المنطلق، تمّ تبنّي الحق بالعمل رسمياً في مشروع الدستور الجديد، كما دُسترت المساعدة الاجتماعية وخصوصاً للأشدّ فقراً، فضلاً عن أن واجب أداء الضرائب وتحمُّل التكاليف العامة وارد في الفصل العاشر. بالتالي، فليس من المبالغة اعتبار مشروع الدستور هذا يتضمّن عناصر تبشّر بولادة دولة اجتماعية جديرة بهذه التسمية. كما أن الفصل 20 يلزم الدولة بتوفير «اسباب العيش الكريم» لمواطنيها ومواطناتها. ووفق المنطق نفسه، لا يجدر التقليل من قيمة تخصيص بنود بذاتها في مشروع الدستور لكل من «الحق في الصحة» و«الحق في التربية» و«الحق في الثقافة» و«الحق في الماء» و«الحق في بيئة سليمة ومتوازنة»، ذلك أن تضمين حقّ ما في الدستور يؤدّي إلى الاعتراف بكونه من المهام الحصرية للدولة، وهو ما يعني عملياً استحالة خصخصته، لأنه تمت ترقيته إلى مستوى الخدمة العامة.
من دون تصوير مشروع الدستور الجديد كمثالي أو مقدَّس، ومن دون التعاطي معه في المقابل على أنه يبشّر بإقامة دولة إسلامية («تونستان»)، إلا أنه من الممكن العثور في مشروع الدستور هذا على عناصر تشكّل قطيعة حقيقية مع النظام السابق في مجال الحقوق والحريات، كما في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. لكن تجدر الإشارة إلى نقطة مركزية: من دون وجود مؤسسات وأجهزة ملحَقة بها، ومن دون سلطات مضادة قوية ومضمونة، ومن دون إجراءات مستقرّة تسمح بمأسسة الصراع السياسي وتنظيمه، هناك خطر بأن يبقى هذا النص الدستوري، مهما كان سامياً، مجرّد حبر على ورق، أو عاجزاً لوحده عن ضمان الديموقراطية السياسية والاجتماعية التي يطمح لها التونسيون والتونسيات.