بعد انتظارٍ دامَ أكثر من أربعين عاماً، منذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في هذا المجال، أصبحتْ للمجاري المائية الدولية أخيراً اتفاقية تحكم استخداماتها وحمايتها وإدارتها، فانتفتْ عنها صفة أنها المورد الطبيعي الرئيسي الوحيد الذي لا تحكمه اتفاقية دولية، ويعتمد على القانون الدولي العرفي. وقد اكتمل في 19 أيار/مايو 2014 العدد المطلوب من وثائق التصديق والقبول والموافقة على الاتفاقية والبالغ خمسة وثلاثين صكاً. ولم تنضم للاتفاقية حتى الآن أيّة دولة من الأميركيتين. ولكن من المؤكّد أن دخولها حيز النفاذ سوف يدفع بالكثير من الدول للانضمام إليها، مثلما حدث ويحدث مع الاتفاقيات الدولية الأخرى. فالنجاح له الكثير من الآباء، بينما الفشل دائماً يتيم الأبوين.
تاريخ الاتفاقية
في 8 كانون الاول/ ديسمبر عام 1970 اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً بعنوان «التطور التدريجي لقواعد القانون الدولي المتعلّقة بالمجاري المائية الدولية وتدوينها»، وطلب إلى لجنة القانون الدولي أن تباشر بدراسة القانون المتعلّق بوجوه استخدام المجاري المائية الدولية للأغراض غير الملاحية.
وبدأت اللجنة العمل، ومن الواضح أن المهمة كانت في غاية التعقيد والصعوبة، فقد تطلّب الأمر ثلاثةً وعشرين عاماً، وخمسة مقررين، وخمسة عشر تقريراً قبل أن تتوصّل اللجنة إلى اتفاقٍ على المشروع النهائي لمواد الاتفاقية. وقد تبيّن أن عدداً من المسائل هي خلافية وتتّسم بالتعقيد حتى بالنسبة لأعضاء لجنة القانون الدولي نفسها. وكان من ضمنها تعريف مصطلح المجاري المائية الدولية، والمياه الجوفية العابرة للحدود، واتفاقات المجاري المائية القائمة وعلاقتها بالاتفاقية، والعلاقة بين مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول وبين الالتزام بعدم التسبّب في ضررٍ ذي شأن، وإجراءات تسوية المنازعات وآلياتها. وانتهى الأمر بحلِّ الخلافات، واتفقت لجنة القانون الدولي على مشروع الاتفاقية وقدّمته إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1994، تحت مسمى «اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية».
أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار باعتماد الاتفاقية، وصوّت لصالحها مئةٌ وثلاث دول، وصوّتت ضدها ثلاثُ دول (بوروندي وتركيا والصين) فقط، مع امتناع سبعٍ وعشرين دولة عن التصويت.
وقد وقفت غالبية الدول العربية مع الاتفاقية، بينما تغيبت خمس دول هي: العراق، ولبنان، وموريتانيا، والصومال وجزر القمر. وامتنعت مصر عن التصويت، وكانت الدولة العربية الوحيدة التي اتخذت ذلك الموقف لاعتقادها أن الاتفاقية لا تحمي بصورة واضحة الحقوق التاريخية بسبب تركيزها على مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول.
وقد كان مفهوماً أن تتغيب دولة جزر القمر عن الاجتماع، فهي جزيرة، ولا تعنيها مسألة المياه الدولية من قريبٍ أو بعيد. كما أن الصومال كانت في ذلك الوقت، ولا تزال، بلا سلطة مركزية تمثلها في المنظمات الدولية. بينما انضمّ العراق ولبنان إلى الاتفاقية لاحقاً، رغم عدم مشاركتهما في التصويت.
.. ومعالمها الرئيسية
الاتفاقيةً إطارية تهدف إلى كفالة استخدام المجاري المائية الدولية، وتنميتها والحفاظ عليها وإدارتها وحمايتها، وتعزيز استخدامها بصورة مثلى ومستدامة من قِبَل أجيال الحاضر والمستقبل. واعتبارها اتفاقيةً إطاريةً نابعٌ من أنها تتناول بعض الجوانب الإجرائية الأساسية وثلّة قليلة من الجوانب الموضوعية، وتترك التفاصيل للدول المشاطئة لتكملها في اتفاقاتٍ في ما بينها تأخذ في الاعتبار الخصائص المحدّدة للمجرى المائي المعني. ولتلك الاتفاقات أن تتبنّى أحكام الاتفاقية، أو تُكيّفها.
تنقسم الاتفاقية إلى سبعة أبواب، وتتألف من 37 مادة. بالإضافة إلى ذلك، تتضمّن الاتفاقية مرفقاً بشأن «التحكيم» يتألف من 14 مادة.
وتشير المادة 3 إلى أن الاتفاقية لا تؤثر في حقوق أو التزامات دولة المجرى المائي الناشئة عن اتفاقات نافذة. إلا أن المادة تطلب من الأطراف النظر، عند اللزوم، في كيفية مواءمة هذه الاتفاقات مع المبادئ الأساسية للاتفاقية. إضافةً إلى ذلك، تنصُّ المادة على أنه إذا كانت بعض دول مجرى مائي دولي معين، لا كلُّها، أطرافاً في اتفاقٍ ما، فإنه لا يؤثر شيء مما ينصّ عليه مثل ذلك الاتفاق في ما لدول المجرى المائي التي ليست أطرافاً فيه، من حقوق والتزامات بمقتضى هذه الاتفاقية.
وهكذا، فإن الاتفاقية تحاول التوفيق بين حق الدول في عقد اتفاقات، والمساواة في حق الدول المشاطئة الأخرى في المجرى المائي المشترك. وتنصّ المادة الخامسة من الاتفاقية على حق كل دولةٍ من دول المجرى في أن تنتفع في إقليمها بالمجرى المائي الدولي بطريقةٍ منصفةٍ ومعقولة. وتُلزم الدول بأن تستخدم المجرى المائي الدولي وتُنمّيه بغية الانتفاع به بصورةٍ مثلى ومستدامة والحصول على فوائد منه، مع مراعاة مصالح دول المجرى المائي المعنيّة، على نحوٍ يتفق مع توفير الحماية الكافية له.
وتُفصِّل المادة 6 عوامل وظروفا محدّدة ينبغي أخذها في الاعتبار لتحديد مفهوم الانتفاع المنصف والمعقول. وتتناول الاتفاقية أيضا، في المادة 7، مسألة الالتزام بعدم التسبّب في ضررٍ ذي شأن لغيرها من دول المجرى المائي.
اتضح بدايةً صعوبة الاتفاق على أيّةٍ من القاعدتين (الانتفاع المنصف والمعقول أم عدم التسبّب في ضررٍ ذي شأن) لها الأولوية على الأخرى. وشغل ذلك الأمر لجنة القانون الدولي طيلة فترة عملها على الاتفاقية، وتعامل كل مقررٍ مع هذه المسألة بشكلٍ مختلف، وذلك إما بالمساواة بين المبدأين أو بإخضاع أحدهما للآخر. ذلك أن الدول المشاطئة السفلى تميل إلى تفضيل قاعدة عدم إلحاق الضرر، لأن هذه القاعدة توفّر الحماية للاستخدامات القائمة من الآثار الناجمة عن الأنشطة التي تقوم بها الدول الواقعة في أعالي المجرى. وعلى عكس ذلك، تميل الدول المشاطئة العليا إلى تفضيل مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول، لأنه يتيح مجالاً أكبر للدول للانتفاع بحصّتها من المجرى المائي من خلال أنشطةٍ قد تؤثّر في الدول الواقعة في أسفل المجرى.
غير أن القناعة التي تسود الآن بين خبراء قانون المياه الدولي هي أن الاتفاقية قد جعلت الالتزام بعدم التسبّب في ضررٍ ذي شأن خاضعاً للانتفاع المنصف والمعقول.
الاتفاقية ومحكمة العدل الدولية
وقد أيّدت هذا الرأي محكمة العدل الدولية في قضية نهر الدانوب بين هنغاريا وسلوفاكيا، حيث بتّت في هذه القضية في أيلول/سبتمبر 1997. تناولت الاتفاقية أيضاً مبدأ الإخطار المسبق، وفصلّت في مواد عدة واجبات الدولة التي تنوي إقامة المشروع في إخطار بقية الدول المشاطئة ومدّها بالمعلومات المتعلّقة بالمشروع، بما في ذلك تقرير التقييم البيئي. ويجب توضيح أن إلزامية الإخطار تنطبق على كل الدول سواءٌ كانت في أسافل المجرى أم في أعاليه. كما تناولت الاتفاقية مسألة حماية بيئة المجرى المائي الدولي ومنع التلوث وخفضه ومكافحته.
واختتمت الاتفاقية بمادةٍ مطولة عن طرق تسوية المنازعات. وهي تشمل التفاوض بناءً على طلب أحد الأطراف، أو طلب المساعي الحميدة أو الوساطة أو التوفيق من طرف ثالث، أو أن تستخدم هذه الأطراف أية مؤسسات للمجرى المائي المشترك تكون الأطراف قــد أنشأتها، أو أن تتفق على عرض النزاع على التحكيم، أو على محكمة العدل الدولية.
وهذه كلها طرقٌ متروكٌ لأطراف النزاع الخيار بينها. غير أن الاتفاقية تلزم الأطراف في حالة فشلها على الاتفاق على وسيلةٍ لحل النزاع، كعرض ذلك النزاع، بناءً على طلب أي طرف، على لجنة محايدة لتقصي الحقائق. وتفصّل الاتفاقية إجراءات عمل اللجنة المحايدة، وتقرر اعتماد اللجنة تقريرها بأغلبية الأصوات.
.. والدول العربية
دخول اتفاقية الأمم المتحدة للمجاري المائية الدولية حيز النفاذ بعد سبعة عشر عاماً من إجازتها بواسطة الجمعية العامة للأمم المتحدة هو إنجازٌ ضخم وإضافةٌ كبيرة للقانون الدولي. كما أنه تأكيدٌ لمبدأ التعاون حول المجاري المائية الدولية، ولنظرية الانتفاع المنصف والمعقول. إن القانون الدولي للمياه هو قانون التعاون. فالتعاون هو الوسيلة الوحيدة للاستفادة القصوى من المجرى المائي المشترك وإدارته وحمايته. وقد اشتملت الاتفاقية على كلمة «تعاون» ومشتقاتها خمس عشرة مرة.
وستساعد الاتفاقية في حماية حقوق الأردن ولبنان وسوريا في نهر الأردن من التغوّل ومحاولات إسرائيل (التي امتنعت عن التصويت) السيطرة على أكبر قدرٍ ممكنٍ من مياهه. وسوف تساعد أيضاً في حماية العراق وسوريا من محاولات سيطرة تركيا على نهرَي دجلة والفرات. وكانت تركيا من بين ثلاث دول صوّتت ضد الاتفاقية.
وقد أكّدت الدول التي انضمّت إلى الاتفاقية قناعتها بضرورة التعاون والعمل الجماعي في مجال المجاري المائية الدولية من أجل حمايتها وتعزيز استخدامها المجاري المائية الدولية بصورة مثلى ومستدامة من قِبَل أجيال الحاضر والمستقبل، وبين الدول التي تتشارك المجرى المائي الدولي.