إنعاش الفلاحة في الجزائر: عندما يحضر المال وتغيب الأفكار

بعد عقدين من بداية العمل بمخطط للتنمية الفلاحية رُصدت له ميزانية تجاوزت قيمتها 30 مليار دولار، ما زالت الجزائر غير قادرة على تعقب مسار إنتاجها الزراعي، ولا على تنظيم تسويق إنتاج قطاع يشغِّل أكثر من 25 في المئة من مجمل السكان النشيطين اقتصادياً، ناهيك عن ضمان اكتفائها الذاتي من المواد الغذائية الاستراتيجية مثل الحبوب والحليب.
2019-05-20

محمد مهدي

صحافي جزائري


شارك
من دفتر:
مسألة الأرض
| fr en
فرات شهال الركابي - لبنان

تم دعم هذه المطبوعة من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المطبوعة أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

في بداية آب/ أغسطس 2018 ظهر وباء الكوليرا في عدة ولايات (محافظات) جزائرية. بعد الاشتباه في انتقال العدوى عبر مياه الشرب الملوثة، اتجهت الأنظار نحو الفواكه والخضروات. وإلى حد اليوم لم يستطع أحد أن يحدد بدقة مصدر المنتجات الملوثة، ولا المسلك التجاري الذي عبرته في طريقها إلى المستهلك النهائي. بعد عقدين من بداية العمل بمخطط التنمية الفلاحية، رُصدت له نفقات تجاوزت قيمتها 30 مليار دولار، ما زالت الجزائر غير قادرة على تعقب مسار إنتاجها الفلاحي، ولا على تنظيم تسويق إنتاج قطاع يشغل أكثر من 25 بالمئة من مجمل السكان النشيطين اقتصادياً، ناهيك عن ضمان اكتفائها الذاتي من المواد الغذائية الاستراتيجية مثل الحبوب والحليب.

حالة الفلاحة في الجزائر اليوم

إثر خروجها من عقد التسعينات الرهيب والقاتل، الذي كسر البنية الاقتصادية المحدودة والموروثة من سنوات "العمالة الكاملة"، شرعت الجزائر في إنعاش القطاعات الحساسة مثل الفِلاحة. في سنة 2000، أي بعد سنة من بداية عهد بوتفليقة، أطلق "المخطط الوطني للتنمية الفِلاحية" قبل أن يتم توسيع مجاله بعد سنتين ليشمل دعم الوسط الريفي، فأصبح اسمه "المخطط الوطني للتنمية الفلاحية والريفية"، وكان هدفه الرئيسي ضمان "الأمن الغذائي" للبلاد.

قبل أن نستعرض إنجازات وإخفاقات مخطط التنمية هذا يجب أن نذكِّر بأن الجزائر كانت تعيش في تلك الفترة - بداية العقد الأول من الألفية الجديدة – حالة تبعية غذائية قوية وتعول بشكل كبير على استيراد المنتجات الزراعية. فلم يكن من النادر أن نجد في السوق المحلية برتقالاً مستورداً من الجار المغربي أو تفاحاً وإجاصاً من فرنسا أو اسبانيا. والحال أن سهول "متيجة" الواقعة في محيط الجزائر العاصمة كانت تُعرف حتى وقت قريب بكثرة بساتين الحمضيات والأشجار المثمرة الأخرى.

رسم المخطط الوطني للتنمية الفلاحية والريفية لنفسه عدة أهداف، من بينها رفع الإنتاج (في كل الشعب الفِلاحية بلا استثناء) وتوسعة المساحة الصالحة للزراعة عبر استصلاح الأراضي في إطار نظام منح امتيازات الاستغلال، وتقليل اللجوء إلى استيراد البذور، وتطوير أنظمة الإنتاج، واستعمال تقنيات الري الحديثة. ولتحقيق هذه الأهداف، رصدت الجزائر ما بين عامي 2000 و2018 اعتمادات ضخمة تقدر قيمتها بأكثر من 3000 مليار دينار جزائري، أي ما يعادل 30 مليار دولار.

ضبابية في التحديد الكمي للأهداف

في أغلب الأحيان، لا تكون الأهداف المرسومة للمخطط الوطني للتنمية الفلاحية والريفية مصحوبة بأرقام. لذا ليس بوسعنا أن نحدد بدقة إذا ما كان هدف توسعة مساحة الأراضي الصالحة للزراعة قد تحقق أم لا، وإلى أي حد. ومع ذلك، فإن المساحة الصالحة للزراعة والتي تشمل الأراضي القابلة للحرث (زراعات حولية وأراض تتم إراحتها مؤقتاً) وغراسات دائمة أخرى (أشجار مثمرة وكروم) قد زادت من 7.5 مليون هكتار سنة 1998 إلى أكثر من 8.5 مليون هكتار سنة 2018 (منها 5.7 مليون هكتار ممتلكات خاصة و2.8 مليون هكتار تمتلكها الدولة).

اتسعت مساحة الأراضي الصالحة للزراعة بفضل إتاحة الحصول على العقارات الفِلاحية، وذلك عبر استصلاح الأراضي والتشجيع على إنشاء مستغلات فلاحية جديدة عن طريق منح امتياز استغلال الأراضي الفلاحية التابعة للدولة لقرابة 200 ألف فلاح، وكذلك منح قروض بنكية موجهة خصوصاً لاعتماد تقنيات الري الحديثة. ولمواجهة تقلبات كميات الأمطار المتساقطة، نصّ "المخطط الوطني للتنمية الفلاحية والريفية" أيضاً على توسعة الأراضي الفلاحية المسقية والتي زادت مساحتها من 350 ألف هكتار سنة 1999 إلى 1.3 مليون هكتار في بداية 2018 أي من 4 في المئة إلى 15 في المئة من مجمل الأراضي الصالحة للزراعة.

وفي إطار الدعم المباشر للفلاحين، كانت كل القطاعات الفلاحية مؤهلة للحصول على مساعدات الدولة. كان الهدف العام هو رفع الإنتاج خاصة بالنسبة لمنتجات مثل الحبوب والحليب التي تنفق الجزائر مليارات الدولارات سنوياً لاستيرادها. لكن التسرع في وضع مخطط التنمية ونقص مراقبة مدى الالتزام بشروط المساعدات الممنوحة خلال تنفيذ المشاريع، وكذلك إهمال الجزء المتعلق بتنظيم القطاعات وتسويق المنتجات، كلها أمور منعت الاستفادة بشكل كامل من الاستثمارات العملاقة المرصودة، خاصة في ما يتعلق بالزراعات التي ما زالت تستهلك المواد المستورَدة (البذار والأسمدة والمعالجات) بشكل كبير.

زيادة هامة في الإنتاج

ليس هناك أي شك في أن زيادة إنتاجية عدة قطاعات هي إحدى النتائج الملموسة للمخطط الوطني للتنمية الفلاحية والريفية. حتى وإن لم تتطور - بشكل عام - مساهمة الفلاحة في الناتج الداخلي الخام كثيراً، والتي أصبحت 12.3 في المئة عام 2018 بعد أن كانت 12 في المئة سنة 1998، فإن القطاع الفلاحي يحقق حالياً قيمة إنتاجية سنوية تفوق 3200 مليار دينار جزائري حسب آخر الأرقام التي قدمتها وزارة الفلاحة والتنمية الريفية والصيد البحري. لكن هذه القيمة الإنتاجية لا تستطيع أن تخفي حقيقة اختلال التوازن ما بين الإنتاج المحلي واحتياجات السوق، مما يستوجب اللجوء المتزايد إلى الاستيراد لتغطية النقص المسجل في عدة منتجات.

هذا هو الحال بالنسبة لزراعات الحبوب بالأخص، فهي لم تعطِ نتائجاً مستقرة رغم كل الجهود المالية، لا سيما في ما يتعلق بتوسعة المساحات والري. يمكننا أن نرى جلياً هذا التذبذب من خلال تضاعف الإنتاج بين موسمين متتاليين. هذا ما حدث في الموسمين الفلاحيين 2016/2017 و2017/2018 حيث ارتفع حجم إنتاج الحبوب من 34.7 مليون قنطار إلى 60.5 مليون قنطار، وهو رقم قياسي لم يسبق أن تحقق منذ بداية إصلاح القطاع. لكن من الممكن أن يتهاوى حجم هذا الإنتاج في الموسم الحالي. وقد سبق للجزائر أن عاشت هذا السيناريو عامي 2013 و2014. وبالنسبة لفاتورة استيراد الحبوب، فإن قيمتها قد ارتفعت من 2.77 مليار دولار سنة 2017 إلى 3.1 مليار دولار عام 2018.

أما إنتاج البقوليات، التي يكلف استيراد قرابة 2 مليون قنطار منها الجزائر 150 مليون دولار سنوياً، فهو يسجل نمواً مستمراً ويحقق نتائجاً أحسن. لم يتوقف الإنتاج عن التطور منذ عام 2008 وحتى العام 2018 إذ ارتفعت قيمته من 402 ألف قنطار إلى 1.3 مليون قنطار. وتتوقع وزارة الفلاحة تحقيق الاكتفاء الذاتي من البقوليات في حدود سنة 2020.

هذه الملاحظة نفسها تسري على الحمضيات التي يتزايد إنتاجها السنوي بشكل مستمر. فلقد تطور من 7 إلى 14 مليون قنطار خلال عشر سنوات (من 2008 إلى 2018)، والشيء نفسه يصح على غراسات الخضروات التي زاد إنتاجها إلى أكثر من الضعف خلال الفترة نفسها: من 60 إلى 130 مليون قنطار.

أما بالنسبة لإنتاج الألبان، ورغم كل الجهود المبذولة، فما زال غير كاف بالمرة، إذ أنه لا يغطي إلا 50 في المئة من حاجيات البلاد. ارتفع الإنتاج الوطني للحليب الخام من 1.2 مليار ليتر سنة 2000 إلى 3.5 مليار ليتر في سنة 2017. وخلال الفترة نفسها، ارتفع حجم الكميات المجمعة من 100 إلى 833 مليون ليتر. من ناحية أخرى، ولتعويض النقص في الإنتاج/ التجميع، تستورد الجزائر حالياً 400 ألف طن من الحليب المجفف سنوياً. وتتجاوز قيمة فاتورة الواردات، التي تتغير حسب الكميات وسعر الحليب المجفف في السوق العالمية، مبلغ المليار دولار سنوياً بكثير (1.4 مليون دولار في عامي 2017 و2018).

سيطرة الوسطاء

باستثناء قطاعات الزراعات الاستراتيجية - مثل الحبوب - وإنتاج الحليب الخام التي ضمنت الدولة للفاعلين فيها أسعاراً تشجيعية وساعدتهم حتى على تنظيم أنفسهم، فإن بقية الفلاحين (منتجي الفواكه والخضروات) تُركوا تحت رحمة الوسطاء وبقية المضاربين الذين أصبحوا المتحكمين فعلياً في السوق.

وتكون سطوة الوسطاء محسوسة بشكل أقوى خلال فترات الطلب الكبير على المنتجات، كما هو الحال في شهر رمضان، حيث يمكن أن تتضاعف أسعار الخضروات والفواكه في غضون 48 ساعة. لكن حتى هذه الزيادات في الأسعار لا تعود بالنفع على المنتجين.

تُتخذ من وقت إلى آخر إجراءات لمقاومة المضاربة كما حدث في تموز/ يوليو 2014، الذي تزامن مع شهر رمضان، عندما مُكّن الفلاحون في محافظة تيبازة (غرب العاصمة) من تخفيض الأسعار بشكل محسوس عبر تنظيم أنفسهم لبيع منتجاتهم مباشرة إلى المستهلك. لكن هذه الإجراءات تبقى معزولة جغرافياً ومحدودة زمنياً على العكس من المضاربة التي تمتد على كامل السنة.

باستثناء قطاعات الزراعات الاستراتيجية - مثل الحبوب - وإنتاج الحليب الخام التي ضمنت الدولة للفاعلين فيها أسعاراً تشجيعية، وساعدتهم حتى على تنظيم أنفسهم، فإن بقية الفلاحين (منتجي الفواكه والخضروات) تُركوا تحت رحمة الوسطاء وبقية المضاربين الذين أصبحوا المتحكمين فعلياً في السوق.

ينتظم الوسطاء في سلسلة من الفاعلين غير النظاميين حيث يقتطع كل واحد منهم هامش ربح بداية من المنتَج وصولاً إلى سوق الجملة. وتنشط المضاربة بشكل خاص خلال فترات الإقبال الكبير (شهر رمضان) أو ما بين مواسم إنتاج بعض المنتجات مثل البطاطا في فترة شباط/ فبراير – آذار/مارس. كما يسهّل غياب أطر تنظيم قطاع الخضروات والفواكه، وعدم وجود لائحة أسعار رسمية عمل المضاربين الذين يزودون أسواق الجملة تاركين هوامش ربح ضعيفة للمنتجين.

العشوائية كقاعدة لإدارة الأمور

كشفت أرقام رسمية صدرت أواخر سنة 2018 أن هناك 3.1 مليون هكتار من الأراضي الفلاحية غير المستغلة من جملة 8.5 مليون هكتار صالحة للزراعة، أي بنسبة 36 في المئة. لا تبعث هذه الوضعية على الاستغراب عندما نعلم أن التدبير القاضي بمنح مساعدات وتوزيع أراض بهدف استصلاحها لم يتم التفكير فيه ولا مراقبته اعتماداً على معطيات ميدانية. ولقد بدأ الحديث عن تخلي عدد كبير من "الملاكين" عن المستغلات الفلاحية - التي لم ينطلق العمل فيها إلا بفضل مساعدات الدولة - ما إنْ وجدوا أنفسهم مجبرين على مواجهة تكاليف الاستغلال.

وفي مجال البذور الفلاحية الحساس تستورد الجزائر قرابة 90 في المئة من حاجاتها. هذه التبعية دفعت المدير العام السابق للمعهد الوطني للبحوث الزراعية، السيد فؤاد شحات، إلى القول - أثناء تدخله في برنامج إذاعي بُث مؤخراً - بأن "الإنتاج المحلي لا يضمن في الحقيقة إلا 55 في المئة من الأمن الغذائي للجزائر"، ثم أضاف قائلا: "80 في المئة من القمح اللين الذي تستهلكه الجزائر يأتي من الخارج". ويرى هذا الخبير أن "نقطة ضعفنا الكبيرة مرتبطة بالبذور وشتلات النبات التي تستورد كلياً بالنسبة للخضروات".

على أنه هناك ملاحظة أخرى: التحسن الملموس في إنتاجية الكثير من الشِعَب الفلاحية لم يتزامن مع تطور مماثل في قطاع الصناعات الزراعية - الغذائية. كان علينا أن ننتظر كانون الثاني/يناير 2019 حتى يتم إحداث "المجلس الوطني المهني المشترك لشعبة الحمضيات" ومهمته "تكريس التشاور" بين مختلف الفاعلين، أي المنتجين والمصدرين والشركات الزراعية - الغذائية للتخزين والتسويق.

"يظهر تحليل المخطط الوطني للتنمية الفلاحية قصوراً مرتبطاً بضعف ترسخ المخطط الزراعي في الواقع الميداني، وهذا يعود إلى غياب المعطيات الاجتماعية - الاقتصادية الدقيقة والرؤية الاستشرافية لمستقبل الفلاحة الجزائرية على مدى طويل"، هذا ما أشار إليه المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي منذ عام 2001. وهكذا، وبعد عقدين من إصلاح قطاع الفلاحة، ما زالت الجزائر مهددة بالعودة إلى وضعية الاعتماد الكبير والمزمن على الواردات الغذائية كما كان عليه الحال قبل سنة 2000.

ترجمه من الفرنسية: محمد رامي عبد المولى

محتوى هذه المطبوعة هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

مقالات من الجزائر