تم دعم هذه المطبوعة من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المطبوعة أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
كان الإسلاميون في السجون عند إنطلاق احتجاجات كانون الاول/ ديسمبر 2010 إثر حرق محمد البوعزيزي لنفسه أمام محافظة سيدي بوزيد، وكان جزءآخر من قادتهم يراقبون الأحداث من عواصم أوروبا التي لجأوا اليها. كان طموح الإسلاميين حينها أن يقوم بن علي بإصلاحات تخص الحريات السياسية على نحو يمكّنهم من مغادرة السجون والعودة من المهاجر. كانوا يسعون للاعتراف بهم، وليس لسقوط بن علي. فهم على غرار التشكيلات الحزبية المعارضة، وبعضها يساري، يتسمون بالنزعة الإصلاحية والمحافظة. لكن في الأثناء، وفي الميدان، كان المتظاهرون يهتفون بسقوط النظام و"خبز وماء، وبن علي لا".
الكل أجمع – ولا يزال - أن الثورة كانت بلا قيادة، وبلا إيديويولوجيا محددة. قد يكون هذا صحيحاً على نحو ما، ولكن من عايش الأحداث عن قرب لا يستطيع أن ينكر أن تنظيمات اليسار مثل "الإتحاد العام لطلبة تونس" وناشطين من اليسار الراديكالي ونقابات مهنية تابعة لـ"الإتحاد العام التونسي للشغل" كانت في مقدمة مسيرات الإحتجاج، دون أن يعني هذا أن اليسار هو من نظّم تلك الانتفاضة أو أطاح بالنظام.
لحظة "14 جانفي" كانت في ملامحها "لحظة يسارية" من حيث المطالب والشعارات المرتبطة بالتشغيل وتحقيق العدالة الإجتماعية والكرامة الوطنية. لم يسمع أحد حينها شعارات ذات مرجعية إسلامية، كل ما كان يطالب به المحتجون هو رحيل بن علي، علاوة على أن التظاهرات لم تكن تنطلق من المساجد بل من أمام الجامعات والمقرات النقابية.
لكن مع ذلك وصل الإسلاميون إلى السلطة بينما ظل "اليسار" بكل تنوعاته خارج دائرة الحسابات الإنتخابية. إما المسألة الأدق فتتمثل أساساً في سبب فشل التنظيمات والتيارات والمجموعات اليسارية في أن تجد لها موقعاً داخل المجتمع، وأن تتجذر في القطاعات التي يفترض أنها حاضنتها الإجتماعية، كالأحياء الشعبية الموجودة داخل المدن وعلى اطرافها. بينما رسخت "حركة النهضة" وجودها فيها منذ ثمانينيات القرن الماضي، قبل أن تنازعها - بعد الثورة - السلفية الجهادية التي نجحت في استقطاب الكثير من شباب تلك الأحياء.
الهوامش الحضرية تدير ظهرها لليسار
خلال انتخابات المجلس التأسيسي في تشرين الاول/ أكتوبر 2011، لم تفز أحزاب اليسار سوى بنسبة قليلة لم تتجاوز العشرة في المئة من مقاعد المجلس، في حين كانت الأغلبية لحركة النهضة. وهو ما تكرر أيضاً في انتخابات 2014 التي أعادت طواقم النظام القديم ممثلاً ب"نداء تونس" إلى واجهة الحكم - قبل أن يتفتت ويفك توافقه مع حركة النهضة - مع تراجع طفيف للنهضة التي إحتلت المرتبة الثانية حينها وراء أولئك. ولكن النهضة استطاعت أن تتدارك هذه النكسة في الانتخابات البلدية ففازت بالمراتب الأولى بينما بقي اليسار ممثلاً بالجبهة الشعبية يراوح مكانه حيث لم يتجاوز عشرة في المئة من المقاعد.
"14 جانفي" كان في ملامحه "لحظة يسارية" من حيث المطالب والشعارات المرتبطة بالتشغيل وتحقيق العدالة الإجتماعية والكرامة الوطنية، علاوة على رحيل بن علي. لم يسمع أحد حينها شعارات ذات مرجعية إسلامية. كما أن التظاهرات لم تكن تنطلق من المساجد بل من أمام الجامعات والمقرات النقابية.
تنبع قوة الإسلاميين من إنغراسهم المجالي القوي في الأحياء الشعبية وهوامش المدن وفي بعض مناطق الجنوب التونسي المتسم بالمحافَظة كما بالعلاقة التاريخية المتوترة مع السلطة المركزية. يجيد الإسلاميون التمركز في الفجوات التي تخلت عنها دولة الرعاية الإجتماعية والتي اتسعت بعدما حلّ "حزب التجمع الدستوري الديمقراطي" نفسه، وهو كان يلعب دور الرقيب والوسيط بين الدولة والهوامش. فمقابل توفير بعض الخدمات الإجتماعية والمساعدات، كانت تتشكل علاقة زبائنية تفترض الولاء للحزب الحاكم، أي للنظام القائم. استفادت حركة النهضة من تلك الآليات نفسها، وأعادت إنتاجها، وهي اعتمدت على سياسة إتصال القرب، وعلى سيطرتها على عدد كبير من المساجد. لم يكن ينافسها في هذا سوى السلفية الجهادية. هناك اختلافات بين حركة النهضة والسلفية الجهادية على مستوى الممارسة السياسية والتركيبة السوسيولوجية لكل منهما، لكنهما يلتقيان في الاهتمام بالمسألة الإجتماعية (فقر، بطالة، هشاشة مهنية..إلخ) لترسيخ الإنغراس المجالي، وذلك في الهوامش الحضرية المتروكة لتتدبر شؤونها.
عملت الدولة منذ ثمانينيات القرن الفائت على "إدماج" تلك الأحياء، العشوائية منها بشكل خاص، عبر سياسة التهيئة والتهذيب العمراني، فربطتها بشبكات المجارير والانارة العمومية. لكن كان لتلك السياسة حدودها، حيث لم تستطع أن تقلص من الشعور بالوصم واللاعدالة والغضب الذي كان يعتمل داخل تلك الجغرافيات. الدليل على ذلك أن الإحتجاجات التي اندلعت منذ الثورة (وحتى قبلها)، عادة ما كانت تكتسب طابعاً حضرياً، حيث تتركز بشكل أساسي في المناطق المدرجة في "أسفل تراتبية الأماكن" (العبارة لعالم الإجتماع الفرنسي Loïc Wacquant)، وهي أماكن يكون فيها حضور الرعاية الإجتماعية للدولة في حده الأدنى، بينما يطغى هناك حضورها الأمني، وهو ما يدعم إحساس متساكني تلك الأماكن بأن التمثل الرسمي لهم إنما يندرج أساساً ضمن وضعهم في خانة"الطبقات الخطيرة" التي يجب التحكم فيها أمنياً بدرجة أولى.
في الوقت ذاته، كان الإسلاميون في زمن القمع يعملون بصمت و"من أسفل"، معولين على التضامنات التقليدية، والشبكات العائلية، والتضامنات المجالية (الإنتماء إلى الحي نفسه أو الحومة). لهذا اعتبر زعيمهم، راشد الغنوشي، أن عودة النهضة إلى الواجهة هو بمثابة "الخروج من تحت الأرض". لم تكن دولة الرعاية الإجتماعية هي الغائب الوحيد في تلك الهوامش، بل أنه كان ثمة جهل بتلك الفضاءات وتجاهل لها من قبل النخب الحداثية والعلمانية التي يشكل اليسار جزءاً منها.
يجيد الإسلاميون بتياريهم الرئيسيين التمركز في الفجوات التي تخلت عنها دولة الرعاية الإجتماعية والتي اتسعت بعدما حلّ حزب التجمع الدستوري الديمقراطي نفسه، وهو كان يلعب دور الرقيب والوسيط، معاً، بين الدولة والهوامش من خلال آليات الزبائنية. واستفادت حركة "النهضة" من تلك الآليات نفسها، وأعادت إنتاجها عبر نسيجها الجمعياتي الخيري.
بعد الثورة، تدعَّم الانغراس المجالي للنهضة عبر نسيجها الجمعياتي الخيري الذي يعمل على تقديم معونات ومساعدات لفقراء الأحياء الشعبية والمناطق الداخلية الفقيرة. وهكذا جرى استبدال الزبائنية التي بناها الحزب الحاكم بأخرى جديدة. وقد عملت السلفية الجهادية بالمنطق ذاته وبقوة وفاعلية، فنجحت في استقطاب الشبان المهمشين والذين يشعرون بالضياع وبغياب أي دور لهم. حدث ذلك عبر مدهم لهم بإعانات مالية وبتوفير مهن صغيرة، غالبا ما تكون في قطاعات الاقتصاد اللانظامي. وكان هذا يشعرالشباب بالإنتماء وبأن ثمة رابطة تشدهم إلى جماعة ما. في هذا الصدد، يدرك الإسلاميون بكل تنويعاتهم بأن الروابط الإجتماعية هي المدخل للعمل السياسي. وهم يدركون أنهم يتحركون في مجتمع ما زال "يعلن" – على الاقل - تمسكه بقيمه التقليدية (وقد اصبحت حالياً خشبة النجاة الوحيدة) التي تعير اهتماماً كبيراً للتضامن المجالي والتعاون الأسري، كما يدركون – ولعل ذلك أكثر أهمية - أن الجانب المتخلع والمهتز الذي تعاني منه هذه القيم التقليدية، يقابله غياب أي منظومة بديلة (في الانتماء لعمل مهني مثلاً مما يخلق وسطاً إجتماعياً، أو حتى في إقرار الدولة بفردانية المواطن وحقوقه). وتوفير أطر علائقية، أياً كانت، يصبح هنا أمرأً وجودياً حاسماً، يرتدي ثقلاً لا يمتلكه في مجتمعات راسخة ومستقرة، على تنوع اشكالها.
الخوف كمحرك للتاريخ والسياسة في تونس
24-06-2017
يعمل الإسلاميون كذلك، على إقامة تعارض بين "الشعب" و"النخب". والمقصود بهذه الاخيرة تلك الفئات المتعلمة والمندمجة بشكل كامل في العالم الحضري، والتي تعارض المشروع الإسلامي بما هو مشروع هوياتي. من هذا المنطلق تحديداً اعتبر حمادي الجبالي، أحد قادة "النهضة" ورئيس الحكومة الأسبق، أن "نكبتنا في نخبتنا''، لأن تلك النخب تعارض وفق منظوره التطلعات الهوياتية للشعب.
أين اليسار؟
يكاد اليسار - سواء ذاك المتمثل في "الجبهة الشعبية" وبعض الأحزاب الأخرى المتاخمة لها، أو الآخر، "المدني" الذي تمثله بعض الجمعيات ذات المرجعية اليسارية والحقوقية - أن يكون في قطيعة مجالية مع الهوامش الحضرية و"جغرافيات الغضب". لا يمتلك أي حضور في الميدان، على المستويين السياسي والإيديولوجي، وذلك لعدة عوامل لعل من أهمها أن الأطروحات اليسارية لا تزال تقارب الواقع من منطلقات مسبقة، نظرية وفكرية لا تأخذ في الإعتبار ما يحدث فعلياً. ولا يتم الإصغاء "لأصوات الناس" من أجل تكييفها وتحويلها إلى تصورات وبرامج سياسية. من ناحية أخرى، يبدو اليسار أقرب الى الطبقات المتوسطة، الصنيعة الرسمية لدولة الإستقلال. التمعن في التركيبة السوسيولوجية للتنظيمات اليسارية يكشف ذلك، دون أن يعني هذا أن أبناء حركة النهضة ليسوا هم أيضا من الطبقات المتوسطة وخاصة على مستوى القيادات. إلا أن الحركة تتميز على مستوى قواعدها بغلبة الحرفيين والعاملين في قطاعات الاقتصاد الموازي وغير المهيكل. بالمقابل جل المكونات القيادية والقاعدية لليسار هم أساتذة التعليم الثانوي والموضفين الحكوميين، والقليل من الأطباء ورجال الأعمال الصغار وغير المؤثرين. ولعل المفارقة أن الطبقة المتوسطة التي يتحرك في إطارها اليسار، على الرغم من كونها في تدحرج مستمرالى اسفل، فهي معنية أساساً بقيم الرفاه الإقتصادي وبفكرة الحريات. وهي معنية في الوقت ذاته، وعلى نحو ملح، بتحسين شروط وجودها في إطار مقتضيات التفاوض مع النظام. لذلك، حين تشتد المعركة حول المسألة الإجتماعية تصطف جل الأحزاب والمكونات اليسارية في تونس وراء "الإتحاد العام التونسي للشغل"، وهو أمر يدل من جهة على قوة المنظمة النقابية وقدرتها على التعبئة، لكنه من جهة أخرى يعبر عن وهن في الأحزاب والنخب اليسارية التي يبدو أنها لا تتعامل وفق منطق الإستراتيجيا السياسية بل لا تزال مشدودة إلى سرديات الإحتجاج... وكأنها ترفض أن تصل إلى السلطة.
يكاد اليسار – سواء "الجبهة الشعبية" وأحزاب أخرى متاخمة لها، أو "المدني" الذي تمثله جمعيات ذات مرجعية يسارية وحقوقية - أن يكون في قطيعة مجالية مع الهوامش الحضرية و"جغرافيات الغضب". لا يمتلك أي حضورفي الميدان على المستويين السياسي والإيديولوجي، وذلك لعدة عوامل من أهمها أن الأطروحات اليسارية لا تزال تقارب الواقع من منطلقات فكرية مسبقة.
لا تتحرك قوى اليسار في جغرافيا الهوامش (الأحياء الشعبية والأرياف)، ولم تنجح في بلورة خطاب تتماهى معه الفئات المستثناة من عَالمي العمل والاستهلاك،أو تلك المندرجة في عالم العمل غير النظامي أو الموجودة على هامشه تماماً. ولا يغير من الأمر الخطابات المتكررة من قيادات اليسار حول "الزوالي" ( المعدمون) و"أبناء الحفيانة" ( أبناء نساء الأرياف). بل أن هذه الخطابات تنتمي الى الحالة الاحتجاجية التي تميز اليسار الحزبي وقواعده. وهذه من المفارقات. فاليسار بقدر ما يبرع في إنتاج خطابات حول العدالة الإجتماعية والفقر والمناطق المهمشة، فتأثيره في مجرى الأحداث محدود. لهذا لا يأمل المهمشون في تونس أن يكون ''اليسار" هو البديل السياسي الذي يستوعب آمالهم، ليس فقط لأسباب ثقافية، بل لأن رؤى وتصورات النخبة اليسارية لا "تصلْهم"، وذلك لعدة أسباب تتعلق بتقادم خطاب اليسار الذي لا يزال يدرك الصراع الإجتماعي ضمن تصور للطبقات والبني الاجتماعية لم يعد له وجود. فقد تجاوزته الرأسمالية الجديدة القائمة على التدفقات والأسواق المالية المعولمة .. كما لا يقيم الخطاب اليساري وزناً لأبعاد اصبحت الفئات الأكثر تضرراً من السياسة الإقتصادية النيوليبيرالية المهيمنة تتعلق به وتتحدث به عن نفسها: الرغبة في ضمان الاحترام والاعتراف وتجنب الاحتقار. فما يطمح له "مهمشو المدن" والمتدحرجون نحو القاع من فقراء الطبقة المتوسطة، ليس الإطاحة بالنظام، لكن أساساً المشاركة فيه على قاعدة ''أن نكون مثل الاخرين"، أي على قاعدة المساواة. وبالتالي فالأشكال الجديدة للصراع الإجتماعي لم تعد تتحدد بمنطق التضاد بين الطبقات، بل بمنطق المسافة إزاء المندمجين بشكل كامل في المجتمع الإستهلاكي. فالخوف السائد هو من الإقصاء. يُرفَع خلال التحركات الاحتجاجية التي تكون القيادات اليسارية حاضرة فيها شعار "إسقاط النظام" ولكنه شعار تعبوي ليس إلا. فالمهمشون لا يريدون إسقاط النظام فعلياً، بل ما يبحثون عنه هو مكان لهم فيه وأن يأخذوا نصيبهم من المنافع التي قد يدرها عليهم.
ولكن هل هذا ممكن؟ أليس من مهمات اليسار، عوض ركونه للنزعة الاصلاحية الطاغية فيه، أن يسائل أسس الإقتصاد السياسي للهيمنة والتحكم واللاعدالة في تونس.
اليسار الجديد: هل يستعيد الهوامش؟
جل المنخرطين في ما يمكن أن نسميه "اليسار الجديد" هم شبان عاشوا تجارب يسارية حزبية، لكنهم سرعان ما غادروها لأنهم شعروا أن ذواتهم طُمست بفعل النزعة الزعاماتية الطاغية. الجيل الجديد يتوجس كثيراً من النزعة الأبوية والزعاماتية التي تميز اليسار الحزبي في تونس، وهو يسار غير ديمقراطي من الناحية التنظيمية. ذلك أن المحدِّد ليس دائماً الديمقراطية بل الشرعية النضالية والتاريخية. فحمة الهمامي يتزعم حزب العمال منذ ثلاثين سنة (الأمر ينطبق كذلك على راشد الغنوشي في حركة النهضة). فيصبح لا معنى للتداول ولإعطاء أي حيز لوجوه جديدة. وهذا ما يجعل اليسار في حالة شيخوخة وعدم قدرة على التجدد الجيلي.
الطبقة المتوسطة التي يتحرك في إطارها اليسار، وعلى الرغم من تدحرجها المستمر الى أسفل، فهي معنية أساساً بقيم الرفاه الاقتصادي وبفكرة الحريات. ومهتمة في الوقت ذاته بتحسين شروط وجودها في إطار مقتضيات التفاوض مع النظام. لذلك، وحين تشتد المعركة حول المسألة الإجتماعية، تصطف جل الأحزاب والمكونات اليسارية وراء "الاتحاد العام التونسي للشغل".
ليس أن الجيل الجديد "عازف عن السياسة''، بل هو جيل عنده نزوع فرداني قوي ويحبذ الأشكال الجديدة للإلتزام النضالي. وهذا ما يميز الحركات الشبابية مثل "فاش نستناو" ("ماذا ننتظر؟") و''منيش مسامح" و"تعلّم عوم". وهي حركات جل مكوناتها من الشباب الجامعيين والتلاميذ، ومن فنانين هواة عايش أغلبهم أحداث الثورة. وهؤلاء ولدوا في منتصف الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، ومرتبطون بشكل جيد ومستمر بشبكات التواصل الإجتماعي. لا يقدمون أنفسهم كمناضلين يساريين بل كـ"ناشطين". لكنهم يعتبرون أنفسهم "رفاق"، وهم غير متدينين بل جزء من العالم الحضري الإستهلاكي ومتحررين على نحو ما من القيود الاجتماعية والقيمية التقليدية. استطاعوا أن يشكلوا دينامية سياسية وحضور في الفضاء العام على أساس إشكاليات محددة: قانون المصالحة بالنسبة لحركة "منيش مسامح" وقانون المالية بالنسبة لحركة "فاش نستناو". حركة "منيش مسامح" كانت لينة بمعنى ما إذ بقي نقدها للسلطة في مستوى الإحتجاج على قانون المصالحة مع رجال الأعمال الفاسدين، ولم تستطع أن توسع دائرة افقها الإحتجاجي وتعطيه مضموناً سياسياً، في حين إتسمت حركة "فاش نستناو" - وكانت ردة فعل على قانون المالية المجحف بحق الفئات الفقيرة والمتوسطة - بنوع من الراديكالية وهو ما جعلها عرضة للقمع الأمني، خصوصاً انها نجحت (نسبياً) في تعبئة جزء من شبان الأحياء الشعبية. وقد إتسمت الإحتجاجات حينها بالعنف وبالمواجهات مع البوليس، وخاصة في الأحياء الفقيرة المتاخمة للعاصمة (إحتجاجات كانون الثاني / يناير2017) وكانت ذات مضمون سياسي وإجتماعي.
لكن الحركتين سرعان ما خفتتا ولم تستمرا زمانياً، وهما متشكلتان حول مسائل محددة أو مناسبات بعينها. وهي حركات لا تطرح أصلاً على نفسها الإشتغال على الإستمرارية، ولا بلورة تصور وافق سياسيين على أساس برامج وأهداف واضحة.. فتطغى السيولة والتفتت وإعادة التشكل على نحو غير ثابت وتصبح قليلة التأثير أو عابرة. هذا على خلاف تشكيلات الإسلام السياسي التي ترى نفسها في الديمومة والإستمرارية.
في النهاية، لعل ما يصنع الفارق بين "حركة النهضة" وبقية القوى اليسارية في العلاقة بالهامش الحضري أساساً، هو أن الأولى منخرطة سياسياً في تلك الفضاءات، وتنظر إليها على أنها رهان سياسي لا يجب التفريط به، مع العمل الدؤوب على التوسع نحو فئات ونطاقات طبقية أخرى. وهذا ما يفتقده اليسار بشقيه الحزبي والمدني، حيث لا يزال ممزقا بين النزعة النشاطية الحزبية المقتصرة على مراكز المدن الكبرى والنخبوية المفرطة، في حين يتخلى عن الحضور في الهوامش. ومفارقة غياب الأحزاب اليسارية في الهوامش لا ترتبط فقط بعدم تهيؤ الفئات الفقيرة للأفكار الآتية من أفق يساري، بل لأن تلك الفضاءات لم تدخل بعد في التمثل السياسي للقوى اليسارية.
محتوى هذه المطبوعة هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.