اليسار الطلابي في خضم الحراك الثوري بتونس

انخراط الطلاب اليساريين، افراداً وتنظيمات، في النضال السياسي بكل أشكاله، بما في ذلك خلال فترات القمع الشديد، معطى حاضر بحدة في تاريخ تونس. إلا أن الحقل لا يطابق البيدر، فلماذا؟ هذه قراءة في مسيرة الحركة الطلابية، على المستويين الذاتي والعام، تحاول التقاط عناصر هذا الفشل وأسبابه، وتلمّس المخارج منه.
2018-12-24

مطاع أمين الواعر

طالب دكتوراه في السوسيولوجيا، من تونس


شارك
| en
على مدخل إحدى جامعات تونس

تم دعم هذه المطبوعة من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المطبوعة أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

عرفت تونس وجود "اليسار الطلابي" منذ ظهور الجامعة غير الدينيّة فيها، بداية أربعينات القرن العشرين. وقد شهد مساره مّذاك تفرعات وتعرجات وانفجارات عديدة. كيف يمكن رصد بعض أوجه تعامل هذا اليسار الطلابي مع الحراك الثوري الذي عرفته البلاد انطلاقا من شتاء 2010 والواقع السياسي المستجد بعده؟ والمقصود هنا مجموعة يصعب تحديد ملامحها بدقّة، فهي بالأساس التنظيمات الشبابيّة المرتبطة أو غير المرتبطة بأحزاب سياسيّة، وكذلك أعداد كبيرة من المناضلين غير المنتمين لأي تنظيم حزبي أو شبابي، والذين قد يكون جزء منهم نشط سابقاً في هذه التنظيمات. وينتمي هذا الجمع في العموم لـ"العائلة اليساريّة" بمختلف تفرعاتها و"العائلة العروبية" بشقيّها الأساسيين، الناصري والبعثي. وهناك "الاتحاد العام لطلبة تونس" (النقابة الطلّابيّة التاريخية)، وهي تكثيف منظّم لليسار الطلابي. تفتقد هذه التحديدات للدقة وفيها بالتأكيد بعض الاعتباط لزوم الوضوح والاختصار.

فبماذا تتمثل أشكال تأثير اليسار الطلابي في الواقع السياسي التونسي خلال فترة الحراك الثوري؟ وما الآليات السياسية والاجتماعية التي أتاحت له ذلك، وما هي إكراهاته الذاتية والموضوعية التي حدّت من قدرته على النهوض بهذه المهمة؟ أي أفق لليسار الطلابي التونسي في إطار الواقع السياسي والاجتماعي الذي عرفته تونس بعد 2011؟

خلية استنهاض إبّان الحراك الثوري

هذا الدور هو نتاج تاريخ طويل للحركة الطلابيّة التونسيّة، ساهم في بناء هياكل "الاتحاد العام لطلبة تونس" وصياغة هويّته التنظيمية والسياسيّة وتحديد علاقاته بمختلف مكوناته وبتلك المحيطة به. وقد تشكّلت شروط إمكانيته تدريجيّاً خلال المحطات الكبرى التي عرفتها الجامعة. الملفت أن التمعّن في المحطات التي عاشها "الاتحاد العام لطلبة تونس" منذ تأسيسه يمنح زاوية نظر فريدة لمتابعة تاريخ الصراعات السياسيّة الكبرى التي عرفتها البلاد، سواء إبان تأسيسه في خضم النضال من أجل الاستقلال، أو في مرحلة نشوء اليسار الراديكالي (1) من رحم استبداد الحزب الحاكم حين ترجمت الصراعات داخل المنظمة وحولها الواقع الذي كانت تعيشه البلاد. وقد تواصل الحال على هذا الشكل طيلة سنوات بورقيبة، حيث كانت الجامعة - التي طبع اليسار النشاط السياسي داخلها بطابعه طيلة سبعينات القرن الماضي - منطلقا لاحتجاجات اجتماعية عمت البلاد خلال النصف الثاني من ذلك العقد، ولم ينجح القمع الوحشي لها في اجتثاثها. ثم تحولت الجامعة انطلاقاً من ثمانينات القرن العشرين إلى حلبة صراع ضارٍ بين اليسار والإسلاميين الذين صارت الهيمنة على النشاط السياسي داخلها من نصيبهم، ما لا ينفي تواصل الوجود اليساري المؤثّر بها.

وعرفت تونس بعد انقلاب 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 بقيادة الجنرال بن علي انفراجاً سياسياً نسبياً دام 3 سنوات، عاد خلالها النشاط السياسي للانتعاش وعاد فيها النضال الطلابي للاضطرام داخل أسوار الجامعة. وقد مثّلت هذه الفترة فسحة نشاط علني وجماهيري لليسار والإسلاميين، بعد اعتراف النظام رسميّا بمنظمتيهما سنة 1988: "الاتحاد العام لطلبة تونس"، النقابة التاريخية التي مُنعت من النشاط العلني لقرابة الـ 17 سنة، وأصبح اليسار يهيمن عليها بشكل تام، و"الاتحاد العام التونسي للطلبة" الذي أسّسه طلبة "الاتجاه الإسلامي" سنة 1985 كتنظيم نقابي.

إبّان هذه الفترة، تنامى لدى السلطة والإسلاميين شعور بأن "حركة النهضة" (كان إسمها "الاتجاه الإسلامي" سابقاً) قوة سياسيّة قادرة على لعب دور أساسي وربما الحصول على الحكم إن أتيحت لها الفرصة، وهو شعور زادته نتائج انتخابات 1989 التشريعيّة رسوخاً. عقب ذلك، دخل الطرفان منذ بداية 1991 في مواجهة مفتوحة، أطلقها النظام لاجتثاث الإسلاميين والقضاء على تهديدهم لسلطته التي لا يرى فيها لنفسه شريكاً. في حين دخلها الإسلاميون دفاعاً عن أنفسهم ضد هذا الهجوم ولكن أيضا قناعة منهم بأن قوتهم صارت تسمح لهم بإسقاط حكم بن علي. شملت هذه المواجهة كل الفضاءات الاجتماعية، وكانت الجامعة ميدانها الأشرس. انتهت المواجهة بقمع الإسلاميين بشكل عنيف والقضاء عليهم تنظيميّاً، ففككت هياكلهم وزج بآلاف منهم في السجون وهرب البقية من تونس ليستقرّوا بالمهجر، بالإضافة إلى قرار حل "الاتحاد العام التونسي للطلبة" في 8 تموز / يوليو1991. ولم يكن "الاتحاد العام لطلبة تونس" في مأمن من هذا الاتجاه القمعي، إذ أن إمكانيّة حلّه كانت مطروحة بجدّية، وعاش لعقدين من الزمان تحت الحصار الأمني والإداري المشدد، مما حوّله إلى منظمة شبه ممنوعة على الرغم من طابعها القانوني ظاهرياً. كما تعرضت عناصره المنتمية إلى تنظيمات يساريّة وقوميّة متنوعة إلى أشكال قمع متعدّدة، من الإيقاف والاعتداء بالعنف المعنوي والجسدي، إلى التعذيب والسجن، مروراً بالتضييق الإداري والطرد من الجامعة والحرمان من الشغل، وغيرها.

وهكذا فالاتحاد العام لطلبة تونس خلال هاتين العشريتين عرف تعطّلاً تنظيميّاً كبيراً، كان من بين تمظهراته مثلاً عدم إنجازه لأي مؤتمر وطني طيلة عشر سنوات وهي الفترة الفاصلة بين المؤتمر 24 المنعقد في صيف 2003 والمؤتمر 25 المنعقد في 2013. ولعل انجاز المؤتمرات نفسه كان من أسباب هذا التعطّل حيث أن الصراع كان على أشده بين التنظيمات اليساريّة نفسها للهيمنة على المنظمة وضمان موقع قانوني يوفر لها حدّاً أدنى من الحماية تجاه القمع بالإضافة إلى ما يتيحه من امتيازات سياسيّة وتنظيمية (على محدوديّتها). وقد عرفت المنظمة صراعات ثابتة على قيادتها وهياكلها المُسيِّرة منذ عودتها للقانونيّة في 1988. ولم تزد سنوات التصحّر السياسي والقمع المفتوح بعد ذلك الأمر إلا تأزماً حيث زادت حدّة الصراعات للسيطرة على هياكله لدرجة أن القيادة انقسمت إلى جزئين بعد المؤتمر21 الذي انعقد في 1995، يدعي كلّ منهما الشرعيّة (القانونيّة و/أو النضاليّة)، وهو انقسام تكرر في كل المؤتمرات اللاحقة، لتبلغ المسألة درجة غير مسبوقة سنة 2004 عند ظهور الازدواجية الهيكليّة لأول مرّة منذ عودته للقانونيّة، حيث قامت مجموعات سياسيّة طلابيّة تطعن في شرعية مقررات المؤتمر 24، بعقد "مؤتمر التصحيح"، ليتمخض عن ظهور مكاتب محليّة تابعة للمؤتمريَن داخل عدد من الأجزاء الجامعيّة، وهو ما أثّر بشكل كبير على الاتحاد.

طبع اليسار النشاط السياسي داخل الجامعة طيلة سبعينات القرن الماضي التي عرفت إحتجاجات إجتماعية عمت البلاد، ولم ينجح القمع الوحشي لها في اجتثاثها. ثم تحولت الجامعة انطلاقاً من ثمانينات القرن العشرين إلى حلبة صراعٍ ضارٍ بين اليساريين والإسلاميين الذين صارت الهيمنة على النشاط السياسي داخلها من نصيبهم.

على الرغم من هذا، لم يتم القضاء نهائياً على الجامعة كواحدة من أهم فضاءات إنتاج النقد الاجتماعي في البلاد. يشهد على ذلك تواصل التحركات الاحتجاجيّة داخل المؤسسات الجامعيّة ولو بشكل محتشم جدّا خلال عشريَتي القمع الشديد، وعودتها بقوة نسبيّة بعد ذلك. مثّلت الجامعة خلال هذه الفترة الفضاء الوحيد في تونس الذي يمكن أن يتوجّه فيه شخص، بشكل علني، إلى جموع من المواطنين، بخطاب ينقد خيارات نظام الحكم عموماً أو الحزب الحاكم أو أحد أجهزة السلطة التنفيذية، وخصوصاً وزارة التعليم العالي: هناك الإضراب العام 10 آذار/ مارس 2005 كأحد المحطات الهامة في التاريخ الحديث للجامعة التونسيّة، إذ أضرب يومها أكثر من 200 ألف طالب/ة تنديداً بالقمع الوحشي الذي تعرّضت له الاحتجاجات الطلّابيّة التي سبقته ودامت أكثر من عشرة أيّام في عدد من المدن، ضد دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون الى قمة المعلومات التي نظمتها تونس لاحقاً في تشرين الثاني / نوفمبر من السنة نفسها. وقد كان اليسار الطلابي في قيادة هذه التحركات السياسيّة، تحت يافطة "الاتحاد العام لطلبة تونس". ولكن السمة الغالبة على التحركات الاحتجاجيّة خلال هذه الفترة هي المحدوديّة العددية والجغرافيّة.

كان لتمكّن اليسار الطلّابي من ضمان حدّ أدنى من الوجود طيلة هذه الفترة، أهميّة بدءاً من اندلاع أولى الوضعيات الثوريّة في كانون الاول/ ديسمبر 2010. إذ مثّل "الاتحاد العام لطلبة تونس" فضاء تدرّب فيه الآلاف من الشباب على أشكال مختلفة من التحركات الاحتجاجيّة، مكّنتهم من تملّك معارف سياسيّة ومهارات ميدانية في التحريض ومواجهة قوات البوليس وحماية التحركات الاحتجاجيّة لأقصى وقت ممكن، وخصوصاً ربط التحركات الميدانيّة ببعضها ومراكمتها. أما أهمّ ما ساهمت به هذه التجارب النضاليّة فهو نسجها لشبكات معقّدة من النواتات (2) العفويّة غير المهيكلة والتي تجمع مناضلين اشتركوا فيما بينهم في تجارب ميدانيّة. وهي نواتات ترتبط فيما بينها بعلاقات ذاتية أحياناً، وبأشكال من التضامن الجهوي أو المهني أو السياسي في أحيان أخرى.

تحوّلت هذه النواتات، التي كانت بالكاد مرئية قبل 17 كانون الاول / ديسمبر 2010، حتّى من قِبَل العناصر التي تُشكّلها، إلى شبكة نشيطة لتبادل المعلومات وتنظيم التحركات والدعاية والتحريض انطلاقا من ذلك اليوم. شيء يشبه مفهوم "خلايا الاستنهاض" لفرتا تايلر (3) في حديثها عن سُبَات حلقات المناضلات النسويّات الأمريكيّات خلال فترات الركود والقمع في أمريكا خلال ثمانينات القرن الماضي. لا يعني هذا أن اليسار الطلابي قد تقمّص دور قيادة التحركات الاحتجاجيّة، فمن الجليّ أن الحراك الثوري الذي شهدته تونس بين 17 كانون الاول/ ديسمبر 2010 و14 كانون الثاني/ يناير 2011 قد تمّ دون قيادة ممركزة. بل إنّ الفكرة تحاول تفنيد مقولة "العفويّة" بخصوص الحراك الثوري الذي عرفته تونس. إذ أنّ غياب القيادة المركزيّة لا يعني غياب أشكال متعددة للوعي السياسي داخل المجموعات المحتجّة بتنوعها. وقد كانت "خلايا الاستنهاض" المنتمية لليسار الطلابي إحدى هذه المجموعات المتعدّدة التي ساهمت من موقعها في تأجيج الاحتجاج. وكانت عناصرها تتكون من مناضلين/ات من اتحاد الطلبة أتمُّوا أو لم يتموا بعد حياتهم الجامعيّة، وآخرين تركوا الجامعة والاتحاد منذ سنوات دون أن يقطعوا ارتباطهم بهما فعليّاً جرّاء البطالة ونشاطهم داخل مختلف الديناميات التي تأسست للدفاع عن العاطلين عن العمل من حاملي الشهادات الجامعية، وهي ديناميات بقيت لغاية 2011 تحوم حول الاتحاد العام لطلبة تونس. وقد بقي هؤلاء المناضلون مرتبطين عبر مجموعات صغيرة متقاربة من الناحية الشخصية. أمّا دور الربط بين هذه المجموعات فقد لعبه أفراد كانوا يتميزون بتعدد تموقعهم (نضالي، جهوي، قطاعي...).

عرف "الاتحاد العام لطلبة تونس" صراعات ثابتة على قيادته وهياكلها المُسيِّرة منذ عودته للقانونيّة في 1988. وزادت سنوات التصحّر السياسي والقمع المفتوح بعد ذلك الأمر تأزماً لدرجة أن القيادة انقسمت الى جزئين بعد المؤتمر 21 الذي انعقد في 1995، يدّعي كلّ منهما الشرعيّة. وهو انقسام تكرر في كل المؤتمرات اللاحقة، حتى 2014، مع ظهور الازدواجية الهيكليّة لأول مرّة.

كما أن من أبرز الأدوار التي اضطلعت بها تلك الشبكة اليساريّة هي نجاحها في أن تكون إحدى حلقات الوصل بين شباب الأحياء الشعبيّة للمدن، وبين فضاءات التسييس الكلاسيكيّة كالساحات المقابلة لمقرّات "الاتحاد العام التونسي للشغل" وتلك المستحدثة كشبكات التواصل الاجتماعيّة. وقد نجحت في لعب هذا الدور أيضا بفضل مبادرتها بمعيّة مناضلي اليسار النقابي في الاتحاد في تنظيم أُولى التحركات الاحتجاجيّة في جلّ مدن البلاد، رغم محدوديتها التعبويّة طيلة الأسابيع الثلاثة الأولى، موفّرة أرضية ملائمة لانتشار التحركات في الأحياء الشعبيّة.

حضور على الرغم من استمرار أزمات اليسار الداخليّة

عرفت تونس بعد فرار بن علي وتفكك جزء هام من قيادة الجهاز التنفيذي للنظام والحزب الحاكم فراغاً سياسياً كبيراً ملأته المئات من التنظيمات السياسيّة والمدنيّة الجديدة. لم تكن تلك العمليّة هيّنة في استتباعاتها على الإطار السياسي العام في البلاد، حيث ترنّح عدد كبير من مؤسسات الهيمنة الاجتماعيّة. وقد كانت تلك الفترة مفتوحة على عديد الاحتمالات وكان لكل الفاعلين أوراق يمكن لعبها لتغيير المشهد العام والواقع السياسي والاجتماعي.. وهو ما جعل عدداً من الفاعلين يغيّر حساباته ومجموعات سياسيّة تأخذ قرارات كانت لتكون غير منتظرة خارج هذا السياق، ودفعت للميدان السياسي فاعلين هامشيّين سابقاً وفّرت لهم وضعيّة "الضبابيّة الهيكليّة" مدخلاً ليتحولوا إلى لاعبين ذوي تأثير على المشهد العام.

كانت السلطة السياسية حينها تعرف تواصلاً لجزء من الجهاز التنفيذي السابق، كامتداد لـ "شرعيّة" مزعومة، قام بتوكيل نفسه للقيام بمهمة "الحفاظ على ديمومة ووحدة الدولة"، يكرّسه استمرار محمّد الغنوشي وزير بن علي الأول في منصبه رئيساً للحكومة وتولي فؤاد المبزع رئيس مجلس نواب بن علي منذ 1997 منصب رئاسة الجمهورية مؤقتاً منذ الليلة التي اعقبت فرار بن علي. حصل هذا على الرغم من محدوديّة سلطة هذا الجهاز ميدانيّاً خلال الأسابيع الأولى. وقد كانت وحدته نفسها موضع تساؤل، وشرعيّته محلّ تشكيك من قوى متعدّدة. لكن ما مكّن هذه الشرعيّة - على وهنها - من الاستمرار هو التشتت والارتباك الذي اتّسمت بهما القوى التي ساهمت في إسقاط بن علي ومحدوديّة ما راكمته من تجربة ميدانية ومن نضج سياسي ومن روابط تنظيمية تحصّنها من رد الفعل العنيف لمختلف القوى المتضررة من تجذّر الحراك الثوري.

فعلى الرغم من أن أطرافاً متعددة قد شاركت في إسقاط بن علي، إلا أن سرعة العمليّة جعلت ما تمّت مراكمته ميدانيّاً وسياسيّاً غير كافٍ بعد للتأسيس لمرحلة "ما بعد بن علي". فالمشترك الذي تم تأسيسه بين هذه القوى، أي مركز "الشرعيّة الثوريّة"، لم يكن بالوضوح والقوّة التي تجعله يتحوّل لديناميّة تجمّع حولها مختلف هذه المجموعات. ولئن برزت محاولات هامة في الانتظام الجماهيري بعدد كبير من أحياء ومدن البلاد منذ ليلة 14 كانون الثاني / 2011، إلا أن التجمّعات التي أنشأت لم تتجاوز دور مجموعات التأمين الأهلي للأحياء، وقلّما نجحت في التحول إلى فضاءات تسييس جماهيرية ذات إشعاع محلي، تطرح القضايا السياسيّة، المحلّية منها والوطنيّة (عدا بعض الاستثناءات التي تحصى على أصابع اليد كتجربة "لجنة حماية الثورة" في جمنة، مما جعلها تبقى هامشيّة على العموم.

بعد ذلك قامت أكثر المجموعات نضجاً سياسيّاً وتنظيماً، وهي المجموعات الشبابيّة والأهليّة التي تشكلت في المدن التي عرفت أكبر المواجهات مع قوات البوليس لأسابيع، حيث سقط العدد الأكبر من الشهداء (منزل بوزيان، سيدي بوزيد، القصرين، تالة...)، بالتصعيد لاسترداد المبادرة السياسيّة وحشد الحراك الشعبي الذي خفت نسبيّاً لما يقارب الأسبوع. تمثّل هذا التصعيد في تنظيم اعتصام القصبة الأول انطلاقا من يوم 23 كانون الثاني /يناير، والذي دعا إلى تفكيك الجزء الباقي من قيادة الجهاز التنفيذي الباقي تحت سيطرة رجال النظام السابق. جمع الاعتصام أكثر من ألفي معتصم ودام لأربعة أيام وانتهى بقمع كبير للمعتصمين وتفريقهم بالقوة من قبل قوّات البوليس. وعلى الرغم من الإخفاق النسبي للاعتصام، إلا أنّ قمعه بذلك الشكل وتشبّث المشاركين فيه بمطالبهم، ساهم في استنهاض مجموعات أخرى لم تشارك فيه وساهم في إعادة مركزة الحراك الاحتجاجي في مواجهة عدو مشترك، بالإضافة إلى أنه دفع عدداً من القوى المدنيّة والسياسيّة التي كانت تعيش ارتباكاً حينها بين خيارين: الدخول مباشرة في انتخابات تشريعية ورئاسيّة من تنظيم الجهاز التنفيذي القائم، أو إسقاط قيادة هذا الجهاز وتأسيس إطار سياسي جديد، إلى حسم موقفها نحو المراهنة على الخيار الثاني.

بالطبع لم تكن العديد من التنظيمات السياسيّة معزولاً عن اعتصام القصبة الأول، بل أن بعضها - خصوصاً المجموعات اليساريّة الصغرى المحلّية والأكثر كفاحيّة - انغمس بشكل كليّ في تنظيمه رفقة أغلبيّة العناصر التي لم تكن منتمية لأي تنظيم. إلا أن الانتماء الى تلك المجموعات كان فرديّاً ويمرّ عبر الشبكات النضاليّة المحليّة السابقة والتي تعززت بشكل كبير بعناصر جديدة منذ انطلاق الحراك الثوري. أي أن المحدّد في الانتماء لهذه المجموعات، على الأقل خلال الفترة الرابطة بين لحظة 17 كانون الاول/ ديسمبر 2010 وأواسط شهر شباط/ فبراير 2011، كان التوازنات المحليّة والعلاقات الشخصيّة بين المشاركين وثقتهم ببعضهم، المبنيّة على التضامن الميداني، وبدرجة أقل على تقاسم مجموعة من الشعارات والتصورات السياسيّة الأكثر عموميّة والتي قد ينقصها الانسجام في عديد الأحيان.

وقد دعمت القيادات المحلّية لاتحاد الشغل الاعتصام، خصوصاً تلك الواقعة في الجهات التي بلغ فيها الحراك الثوري درجات عالية من الحشد والقوة، ووفرت الحافلات لنقل المعتصمين وغيرها من الاحتياجات اللوجستية، بالإضافة إلى مساهمتها في دفع القيادة البيروقراطية للاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر قوّة حشد في البلاد على مرّ السنين) للعب دور في كسر الحصار الرسمي والإعلامي على الاعتصام، عبر توفير غطاء سياسي له. وهو ما قامت به البيروقراطية النقابيّة حماية لنفسها من الدخول في مواجهة مع أكثر قواعدها حركيّة وتأثيراً، مع المحافظة نسبيّا على دورهاً في العمليّة لكبح جماح النزعات الأكثر راديكاليّة في الحراك الثوري كلّما وُجدت حاجة لذلك.

شارك في إضراب 10 آذار/ مارس 2005 أكثر من 200 ألف طالب/ة، تنديداً بالقمع الوحشي الذي تعرّضت له الاحتجاجات الطلّابيّة التي سبقته، ودامت أكثر من عشرة أيّام في عدد من المدن، وكانت ضد دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون الى قمة المعلوماتية التي نظمتها تونس لاحقاً في تشرين الثاني / نوفمبر من السنة نفسها.

وجدت تنظيمات اليسار الطلابي نفسها خلال هذه الفترة تعيش وضعا ساهمت، ولو بشكل محدود، في إنتاجه. ومن الهام قبل الخوض في خيارات اليسار الطلابي التأكيد على تنوّعه حد التناقض. فكما أن المجموعات التي تشكّل هذا اليسار كانت قبل لحظة 2011 متناحرة حول المواقع القياديّة في المنظمة الطلابيّة، فإنها كانت متصارعة حول عدد كبير من الرهانات السياسية والاجتماعيّة الكبرى، كقضايا آفاق الثورة الاشتراكية، والموقف من النظام الاقتصادي القائم وسبل تغييره، وقضايا الحرّيات الفردية ومسألة استقلاليّة المنظمات المدنيّة... بل أن هذه الخلافات تضاعفت حينذاك مرّات. والتعميمات هنا تهدف فحسب لاستخلاص الديناميات السياسيّة الكبرى التي كانت تشق هذا اليسار الطلابي.

في هذا السياق، كانت هناك ديناميتان أساسيتان. الأولى، وهي الغالبة، مثّلتها تنظيمات كانت في طليعة القوى الدافعة نحو القطيعة مع نظام الحكم السابق ("حزب العمّال الشيوعي التونسي"، "الوطنيّون الديمقراطيّون"...)، وقد جمعتها المحطة الثانية من الحراك الثوري التي عُرفت باسم اعتصامي القصبة 1 و2 بساحة الحكومة بالعاصمة. شاركت العناصر المنتمية لهذه التنظيمات، إلى جانب العناصر اليساريّة غير المنتظمة في مجموعات، في إعداد الاعتصامين ولعبت أدواراً مهمة فيهما، واضطلعت بمهام متنوعة استغلت فيها تجربتها النضالية السابقة ومهاراتها الميدانيّة المكتسبة من الإعداد اللوجستي والتحريض والخطابة، إلى تقنيات مواجهة قوات البوليس في الفضاء العام.. وعلاوة على انخراط جزء هام من عناصر الاتحاد العام لطلبة تونس في اعتصام القصبة فقد دعمه سياسياً كتنظيم نقابي طلابي، وعلى الرغم من كل التشتت الذي كان يعانيه.

أمّا الجزء المتبقي، الأقلّي، من اليسار الطلابي (في "الحزب الاشتراكي اليساري"، "حركة التجديد"، "الحزب الديمقراطي التقدمي"...) فكان يراوح بين خياري السير في الانتخابات مباشرة وإيقاف الحراك الثوري. وقد جعله هذا الارتباك السياسي أكثر هشاشة ميدانيّاً، مما قلّص من تأثيره في مجرى الأحداث. وقد بقيت هذه القوى منذ 2011 وإلى غاية اليوم في مواقع هامشيّة داخل الساحة السياسيّة.

تواصل منذ بداية شباط/ فبراير 2011 الحشد داخل مختلف الديناميات المناهضة لحكومة محمد الغنوشي، بأنساق وأهداف مختلفة. عملت التنسيقيّات الشعبيّة التي انتعشت بعد اعتصام القصبة الأول على الدفع قُدُماً للاعتصام من جديد بغية إسقاط الحكومة بوصفها تجسيداً لتواصل ما اصطلح على تسميته بـ"النظام السابق". وقد كانت هذه التنسيقيّات، المتنوّعة في طرق تنظيمها وأساليب عملها، تزداد انتظاماً ومطالبها تزداد تجذّرا بشكل يومي كلما اشتد انخراطها الميداني استعداداً لتنظيم اعتصام سيفوق في جماهيريّته وتأثيره الاعتصام الأول.

خلال هذه الفترة، كانت التنظيمات السياسية والمدنية والنقابيّة تعمل على إعادة هيكلة نفسها، انطلاقاً من وضعية الموت السريري التي كان بعضها بلغها أحياناً في أواخر سنوات حكم بن علي. وهو الوضع الذي كانت عليه الأحزاب اليساريّة والقوميّة، وهو أيضاً الوضع الذي كانت تعيشه حركة النهضة ربما بشكل أكثر حدّة، ويدلُّ عليه غيابها السياسي والميداني عن مجرى الأحداث إلى غاية هذه الفترة التي مثّلت فرصة ملائمة لهذه التنظيمات لتجميع شتاتها وإعادة بناء هياكلها (ولو بطريقة متسرّعة وغير ديمقراطيّة في غالب الأحيان)، للتصدي للرهانات التي كانت تواجه البلاد وللاستفادة قدر الإمكان من الفراغ السياسي الكبير الذي تركه "التجمع الدستوري الديمقراطي" بتفككه الذاتي (4). وقد مثّلت هذه الفترة فرصة لهذه الأحزاب والتنظيمات المدنيّة (5) للعودة إلى صدارة الأحداث سياسيّاً. وقد مثّل تأسيس "المجلس الوطني لحماية الثورة" إعلاناً رسميّاً (6) عن عودة التنظيمات القانونيّة المؤسساتيّة لموقع الصدارة، والتحول من دور الداعم لاعتصام القصبة الأول إلى عناصر مقررة ومهيمنة في اعتصام القصبة الثاني.

على الرغم من كل الاختلافات التي شقّت هذه التنظيمات، فإن المهمّة الأساسيّة التي أنجزتها، عبر وحدتها وقيادتها السياسيّة لاعتصام القصبة الثاني، تمثّلت في الرفع من سقف المطلب السياسي، إذ تحول من استقالة الحكومة إلى تعليق العمل بالدستور وانتخاب مجلس وطني تأسيسي جديد. ولكنه قام بتعيين المطالب الجماهيريّة في هذا الحد، وإلغاء أي إمكانيّة لتجاوز الحراك للسقف المؤسساتي الشرعوي. ويمكن الجزم في هذا المستوى بأن ما حصل كان أكثر تقدماً مما رفعه المعتصمون في الاعتصام الأول، لكنه كان أقل راديكاليّة من الوجهة التي كانت تسير نحوها عمليّة تجذّر الاحتجاج في خضم النضال والصراع الميداني الذي خاضته لجان الاعتصام الثاني في القصبة انطلاقا من يوم 20 شباط/ فبراير وإلى غاية حلّ الاعتصام يوم 3 آذار/ مارس 2011.

سعى "المجلس الوطني لحماية الثورة" لفرض نفسه شريكاً في السلطة وممثلاً سياسياً للقوى الثورية المتحرّكة خلال تلك الفترة في مختلف أنحاء البلاد. وفي هذا المسار إقرار أولاً بالشراكة مع القيادة السياسية الانتقالية، كمصدر لشرعيّة أصليّة لم تكن تمتلكها. كما أنه مثّل ثانياً إعادة إنتاج للعلاقة الهرميّة بين النخب السياسيّة و"الجماهير"، تلعب فيه الأولى دور القيادة والتخطيط والتفاوض في حين يكون للأخيرة "شرف" لعب دور وقود المعركة. وهو تقسيم كان أصلاً موضع مسائلة في ذلك الحين من طرف المجموعات الشعبيّة التي تشكلت في كل المدن والتي دفعت لانجاز "القصبة الأولى والثانية". إذ كانت هذه المجموعات خلال تلك الفترة بصدد صياغة ميكانيزمات جديدة كانت تنمو في موازاة المنظومة الحزبيّة القائمة (دون الدخول في مواجهة معها)، وقد ظهرت بينها أصوات تسائِل الشكل التنظيمي الحزبي الهرمي وتدافع عن القيادة الميدانيّة الديمقراطيّة. وقد مثّل فرض مجلس حماية الثورة لانتخاب مجلس وطني تأسيسي جديد كمخرج أساسي لاعتصام القصبة الثاني إخراجاً لكل هذه الشبكات المواطنيّة من دائرة الفعل المباشر إلى موقع المساند لأحد الأحزاب أو الرافض للانتخابات برمّتها، وهو دور ثانوي في كل الأحوال، يختلف عن انماط الحكم غير المركزيّة والديمقراطيّة الشعبيّة التي كانت تختمر في صلب المجموعات الأكثر راديكاليّة من بين المعتصمين.

أهمّ ما ساهمت به هذه التجارب النضاليّة الطلابية نسجها لشبكات معقّدة من النواتات العفويّة التي تجمع مناضلين اشتركوا معاً بتجارب ميدانيّة، كانت بالكاد مرئية قبل حدث 2010، وهي نواتات ترتبط فيما بينها بعلاقات شخصية، أو بأشكال من التضامن الجهوي أو المهني أو السياسي. وقد تحولت إلى شبكة نشيطة لتبادل المعلومات وتنظيم التحركات والدعاية والتحريض.

ولم تنجح القيادات الميدانيّة لاعتصام القصبة الثاني في مقاومة هذه الهيمنة على الرغم من التنظيم الجيّد للمحتجّين الذين انتظموا في شكل تمثيليّات للجهات المشاركة في الاعتصام ولِما اصطُلِح على تسميته بـ "شباب الثورة" وعائلات الشهداء وجرحى الثورة التونسيّة. وقد عرف الاعتصام ابتلاعاً سياسياً من قبل التوجه المؤسساتي الذي مثّله "المجلس الوطني لحماية الثورة".

تموقعت جلّ قوى اليسار الطلابي خلال هذه المعركة في موقع الداعم التام لاعتصام القصبة الثاني وساهمت عناصرها بفاعلية في تحقيقه، إلا أنهم كانوا في الوقت نفسه الذراع الميدانيّة للدفاع عن خيار مأسسة السقف السياسي للاعتصام، خلف قيادات الأحزاب السياسيّة التي كان لها دور الريادة في هذا المجال. وقد لعب شباب التنظيمات اليساريّة خلال اعتصام القصبة دوراً ميدانياً هاماً في الدفاع عن الاعتصام وضمان استمراره، لكنّهم كانوا سياسيّاً أقرب الى الانضباط في أجندات أحزابهم منهم إلى العمل الميداني الأفقي كما حصل في اعتصام القصبة الأول.

عودة الصراع بين الاتحادَين وواقعة اعتصام "باردو"

عرفت هذه الفترة ابتعاداً نسبيّاً من الطلاب اليساريّين عن الالتزام الجامعي نظراً لكثافة النشاط السياسي خارج أسوار الكلّيات. وزادت سهولة تأسيس الجمعيات والأحزاب والنشاط الميداني في إبعاد المناضلين/ات عن العمل النقابي والسياسي داخل الاتحاد العام لطلبة تونس. لم تُولِ التنظيمات السياسيّة التي كانت تتصارع حول قيادة المنظمة الطلابية سابقاً، إعادة هيكلتها وانجاز مؤتمرها الوطني أهمّية تذكر. فبقي الاتحاد لسنتين تقريباً بعد نهاية الحراك الثوري دون قيادة فعليّة، بعدما ترك كل عناصر مكتبه التنفيذي وهياكله الوسطى الجامعية منذ سنوات طويلة.

كما أن التنظيمات اليساريّة والقوميّة التي استفادت من الحراك الثوري وتضخّمت صفوفها بالمناضلين كانت خارج القيادة، في حين أن التنظيمات التي كانت تهيمن على أغلبية المواقع القياديّة في المنظمة سابقاً هي التي خسرت جزءاً كبيراً من إشعاعها الطلابي، وهو وضع زاد من تعقيد إمكانية إنجاز المؤتمر الوطني للاتحاد وفي إطالة وضعيّة العطالة التنظيميّة داخله.

لكن معطيَين استجدّا خلال هذه الفترة ساهما في إعادة الاعتبار تدريجيّا لدور الاتحاد لدى الشباب الطلابي اليساري. الأول هو عودة الاتحاد العام التونسي للطلبة، المنظمة التاريخية للطلبة الإسلاميين، للنشاط في الجامعة مع انطلاق السنة الجامعيّة 2011-2012، بعد حصوله على تأشيرة العمل القانوني في حزيران/يونيو 2011. وقد كان الخوف الذي يعتري اليساريين جميعاً أن يفقدوا الجامعة التي يعتبرونها فضاءهم الحيوي بعد أن فقدوا في انتخابات تشرين الاول / اكتوبر 2011 آمالهم في لعب دور سياسيّ وطني هام. ففوز حركة النهضة الساحق بانتخابات المجلس الوطني التأسيسي مهّد لها السيطرة على جزء هام من مفاصل السلطة التنفيذيّة والقضائيّة بالإضافة إلى سيطرتها المُحكمة على السلطة التشريعيّة. مثّلت عودة "حركة النهضة" الى الجامعة ثأراً معنوياً ورمزيّاً لهذا الشباب اليساري الذي عانى هامشيّة سياسيّة مزدوجة منذ نهاية اعتصام القصبة الثاني، وصار يحتل موقعاً غير مؤثر على الساحة السياسيّة وطنيّاً، بالإضافة إلى أنه وجد نفسه في المواقع الخلفيّة في تنظيماته الأمّ بعدما عادت آليّات العمل الحزبيّة الهرميّة للاشتغال.. وهكذا - على الأقل كما خيّل لها - وجدت التنظيمات الشبابيّة اليساريّة نفسها كمن يدافع عن "آخر المواقع" التي لم تسيطر عليها النهضة بعد. ولعل الاحتفال بالفوز التاريخي للقوائم المدعومة من الاتحاد العام لطلبة تونس في انتخابات مجالس الكلّيات في آذار/ مارس 2013 يشهد على هذا. إذ مثّل الحدث فرصة لكل القوى المناوئة للنهضة للاحتفال، بما فيها تلك التي لطالما امتلكت أشدّ العداء لاتحاد الطلبة.

كما ساهم تقلّص فضاء النشاط السياسي المفتوح خارج أسوار الجامعة في عودة الاتحاد العام لطلبة تونس إلى صدارة إهتمامات القوى اليساريّة. وقد شهدت السنة الدراسيّة 2012-2013 نقاشات ومفاوضات وصراعات لا تنتهي بين مكونات اليسار الطلابي بمختلف تلويناتها الأيديولوجية والسياسيّة لإعداد المؤتمر الوطني للمنظمة حتى تُجدّد هياكلها وتعود لتضطلع بأدوارها، التي تختلف تلك القوى في تحديدها لكنها تشترك في أنّ انجاز المؤتمر حيوي للاضطلاع بها. لم تنجح المكونات الطلابيّة اليساريّة والقومية مرة أخرى في انجاز مؤتمر موحّد، بل انقسمت إلى مؤتمريْن من جديد، انعقدا في أيار/ مايو 2013.

وقد ساهمت الصراعات الكبرى التي شقت اليسار الطلابي خلال هذه السنة في تهميش موقع النضال النقابي داخل سلّم أولويّات التنظيمات السياسيّة الشبابيّة. في المقابل لعب الاتحاد العام التونسي للطلبة دورا نقابياً أكثر وضوحاً، على الرغم من قربه المعلوم من حركة النهضة الحاكمة.

على الرغم من كل الاختلافات التي شقّت التنظيمات اليسارية، فإن المهمّة الأساسيّة التي أنجزتها، عبر قيادتها السياسيّة لاعتصام القصبة الثاني، تمثّلت في الرفع من سقف المطلب السياسي، إذ تحول من استقالة الحكومة إلى تعليق العمل بالدستور وانتخاب مجلس وطني تأسيسي جديد... وهو السقف الذي حدَّ من جهة ثانية من المطالب الجماهيريّة، وألغى أي إمكانيّة لتجاوز الحراك للأفق المؤسساتي الشرعوي.

أرغمت حركة النهضة على عقد تحالفات مع بقايا النظام القديم، أو ما اصطلح على تسميته بـ"الإدارة العميقة"، التي حافظت في مجمل آليات عملها وتنظيمها الداخلي على إرث النظام التسلطي طيلة 55 سنة وكانت قادرة، على الرغم من تغيّر القياديين والتقسيمات الإداريّة، على إعادة إنتاج نفسها بشكل مذهل. وكان لهذه التحالفات انعكاسين أساسيّين على المستوى السياسي. الأول أنه أعاد الشرعية لأيديولوجيّة "هيبة الدولة" كمرجعيّة مشتركة لا يختلف عليها الخصمان السياسيّان الأساسيّان، بل يرسّخانها، مع سعي كل منهما لتوجيهها صوب حسابه الخاص. الثاني أنها خلّصت شتات "الإدارة العميقة" من تخبطها السياسي بأن أعطتها قياديين ميدانيين يفاوضون باسمها. وفي الفترة نفسها، في شهر نيسان/ إبريل 2012، تم تأسيس حزب "نداء تونس" كتعبير سياسي يوحّد قوى النظام القديم، حتى وإن لم يكن انعكاساً صافياً لطموحات تلك القوى.. ومثّلت شخصيّة الباجي قائد السبسي، وزير بورقيبة السابق، ورئيس الحكومة الانتقالية التي أعدّت انتخابات المجلس الوطني التأسيسي (التي تم الاتفاق عليها عقب فضّ اعتصام القصبة الثاني)، نقطة ارتكاز هذا الحزب الهلامي الذي جمع حوله تحالفا من مجموعات مثّلت بقايا "حزب التجمع الدستوري الديمقراطي"، ومجموعات يساريّة سابقة، ورجال أعمال وحقوقيّين وكوادر عليا في الإدارة.

تزامن هذا مع ما عاشته البلاد من وضع سياسي استثنائي أعقب اغتيال زعيمين سياسييّن (شكري بلعيد ومحمد البراهمي) من الجبهة الشعبية، وهي القوة اليساريّة الأساسيّة في البلاد. إذ تميّز بحالة احتقان سياسي قصوى يمكن تلخيصها في استقطاب ثنائيّ غير مسبوق، زادت من حدّته التطورات التي شهدها الوضع في مصر. مثّلت حركة النهضة وحلفائها في الحكم وخارجه قطبه الأول، فيما مثّلت "جبهة الانقاذ" القطب الثاني. وعلى الرغم من التنوع الذي قد يبدو على هذه الجبهة عند تلاوة القائمة الطويلة للأحزاب والمنظمات المؤسِسة لها، فإنّه لا يمكن أن يحجب الهيمنة التي كانت لـ"نداء تونس" وممثلي النظام القديم عليها بعد أن نجحوا تدريجيّا في إعادة تشكيل أنفسهم كقوة سياسيّة أساسيّة في البلاد.

وحدد القطبان المتصارعان محاور الصراع حول مسألة الهُويّة التي يجيدان التعامل معها، لتنخرط أغلب قوى اليسار في المعركة على أساس هذا المحور. في المقابل لم يفلح اليسار في التحول بدوره إلى قطب مستقل عن القطبين سابقي الذكر، على الرغم من الأزمة الاجتماعيّة التي كانت تحتد في البلاد واستمرار راهنيّة المطالب الاجتماعيّة التي حركت الشرائح الأوسع من المنتفضين في شتاء 2010، بالإضافة إلى أنّ "شرعيّة الدم" كانت من ناحيته ويجسّدها شهيداه بلعيد والبراهمي.

دارت المعركة الميدانية انطلاقا من يوم 25 تموز/ يوليو2013، يوم اغتيال محمد البراهمي. وكان محيط المجلس التأسيسي في ضاحية "باردو" بالعاصمة هو حلبتها. ولعبت مختلف القوى اليساريّة، وخاصة فصائلها الشبابيّة (الطلّابيّة بالأساس)، دورا حيويّاً في أوّل يوميْن للاعتصام. إذ شهدت ساحة باردو يومي 26 و27 تموز/ يوليو محاولات متكررة لتركيز الاعتصام من قبل شباب التنظيمات اليساريّة ومجموعات من الشباب المستقل، قوبلت باعتداءات عنيفة من قبل قوات البوليس، لكنّها نجحت في النهاية في فرض الاعتصام انطلاقا من اليوم الثالث بعدما التحق به نواب المعارضة الذين جمّدوا عضويتهم أو هددوا بالاستقالة من المجلس (كان أغلبهم من النواب اليساريين). وشارك جزء هام من ماكينة الاتحاد العام لطلبة تونس خلال هذه الأيام الأولى، بالإضافة إلى أغلب التنظيمات اليساريّة الطلابيّة. ولم يكن اعتصام "باردو"، الذي سيكون له دوراً كبيراً في إعادة ترتيب الأوراق السياسيّة في تونس، ممكناً لولا تلك المشاركة. وقد حاول الشباب اليساريّ الحاضر (بما فيه عناصر الفصائل الشبابيّة للأحزاب اليساريّة) الدفع نحو أفق سياسي أكثر جذريّة عبر السعي لتأسيس نواتات ثوريّة للاعتصام في الجهات تسعى لجمع المواطنين حولها والسيطرة على السلطة المحليّة.

لكنّ هذه المشاركة كسابقاتها، لم تمتلك شروط النجاح والوصول الى الانجاز. حيث أن تذيّل اليسار عموماً لـ"نداء تونس" جعله في موقع الهامشية السياسية والإعلامية، وجرّد المبادرات الشبابيّة من أي مصداقيّة ثورية فبدت كمجرّد مناورات ميدانيّة لتحسين شروط التفاوض الذي كان "نداء تونس" يمتلك خيوطه. وكان دخول المال السياسي المقرّب من النداء على الخط، لحشد أنصاره في الاعتصام، إعلان النهاية لوجود اليسار الطلابي فيه، حيث أن أغلب عناصره انسحبت تدريجيّاً من "باردو" وهي تجرّ خلفها أذيال الخيبة من جديد.

وعلى الرغم من أن اعتصام "باردو" نجح في تحقيق أهدافه الرسميّة التي أعلنت عنها جبهة الانقاذ، بفرض إنهاء المرحلة التأسيسيّة على حركة النهضة، والتصويت على دستور يضمن الحد الأدنى من الحقوق والحريّات العامة والشخصيّة، وتحديد موعد للانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة القادمة وتعيين حكومة تكنوقراط، فإن اليسار خرج الخاسر الأكبر منه بعد أن سلّم عصارة نضالاته وتضحياته لسنين إلى "نداء تونس"، مع أن هذا الأخير كان في موقع سياسي ثانوي مقارنة باليسار سنة 2012. وتحوّل اليسار داخل المشهد السياسي إلى مكمّل لليمين الليبرالي في مواجهة اليمين المحافظ، لا كقطب سياسي مستقل بذاته.

كانت انعكاسات اعتصام "باردو" عميقة داخل اليسار الطلابي أيضاً، إذ أنّ الخيبة زادت في تأجيج الصراعات وإحباط العزائم. تعمّقت الصراعات التنظيميّة حول الهياكل الشرعية للاتحاد العام لطلبة تونس، وقد عرفت عدة كلّيات صراعات دموية أحياناً بين مناضلين من مختلف الفصائل اليساريّة لحسم وضعيّة الازدواجيّة (أو حتى التعددية) التنظيميّة داخل هياكل المنظمة. وقد أبقى هذا الوضع الاتحاد واليسار الطلابي عموماً في وضع عبثي تستنزف فيه الطاقات في الأعمال التخريبيّة بدل المراكمة النضاليّة والصراع الديمقراطي. زاد هذا الواقع في عزلة اليسار الطلابي وانحسار تأثيره حيث أنه لم يكن حاضراً لخوض المعارك الكبرى، بينما كانت الجماهير الطلابيّة تحتاجه لخوضها. فلا هو ملأَ هذا الفراغ ولا اندثر حتّى يترك المجال للحركة الطلابيّة كيْ تنتج تعبيرات أخرى أقرب إلى واقعها اليومي واحتياجاتها.

فوّت اليسار الطلابي أهم المعارك الوطنيّة والقطاعيّة والمحلّية بسبب تلك الصراعات العدميّة لكن أيضا بسبب رسوخ مجموعة من الآليّات والمبادئ التنظيمية المشتركة التي تعيق إمكانيّات تجذير النضال الديمقراطي داخل الاتحاد العام لطلبة تونس.

تواصل الهامشية السياسيّة بعد 2014

لعلّ أهمّ المسائل التي تعترض من يبغي فهم كيفيّة اشتغال الاتحاد العام لطلبة تونس هي قضيّة العلاقة بين النقابة الطلّابيّة والأطراف السياسيّة (اليساريّة والقوميّة ضمنيّاً). وتناول هذه القضيّة يُحيلنا إلى الحاجة لتعريف دور الاتحاد في الجامعة وخارجها، وهي المهمة التي شغلت أجيال من المناضلين وكانت موضوع مئات من الإصدارات النظرية - السياسيّة التي صاغت فيها مختلف التنظيمات السياسيّة التي تواجدت في النقابة الطلّابية تصورها لدورها.

وتلخيصاً:

فلعلّ أهم استنتاج قد نخرج به عند جرد قراءات مختلف الأطراف السياسيّة وسلوكها الفعلي طيلة عقود لدور الاتحاد، هو قناعتها بأن الاتحاد هو أولاً حاضنة للتنظيمات السياسيّة، لا للطلبة كأفراد. أي أنّه منظمة تنتمي لها تنظيمات سرّية وعلنيّة تنشط داخلها وتستقطب الطلبة للعمل النقابي وبعدها يسعى كل منها لاستقطابهم إلى صفوفه الخاصة.

ومن متلازمات ذلك أن الإرث الطلابي صاغ معنى فريدا للمناضلين في داخله وللطلبة الذين يمكن لهم أن ينخرطوا فيه. فالمنخرط ليس أيّ طالب يرغب بذلك، بل هو الطالب الذي تنتدبه إحدى التنظيمات السياسيّة الموجودة بالمؤسسة الجامعيّة. وبما أن التنظيمات السياسيّة كثيراً ما سعت إلى نفخ أحجامها في إطار صراعاتها، عبر إدخال أفراد ليس لهم بالضرورة علاقة تنظيمية أو حتى انتماء سياسي لها، فإن ذلك جعلها مجبرة، حتى تضمن ديمومة سيطرتها، على خلق مستوى ثانٍ من التمييز بين المنخرطين، عبر خلق ما يسمّى بـ"المناضلين"، وهم عادة المنتمون للتنظيم السياسي. ويتطلب الأمر من شخص حصل على انخراط دون أن تكون له رغبة في الانتماء لإحدى هذه التنظيمات، جهداً كبيراً لفرض نفسه كـ "مناضل" بالاتحاد، وقد بلغ الأمر بالبعض حد خلق تنسيقيّات لـ "المستقلّين" (غير المنتمين) للدفاع عن تواجدهم في الاتحاد دون أن يُجبروا على الانتماء لأحدها، لكن وبسبب محدوديّة تأثيرهم، فإن تاريخهم كثيراً ما كان يتلخص بالتبعيّة لأحد الأطراف الجامعيّة. وقد تتعقد الوضعيات أكثر ميدانيّاً (وهو الغالب) عند حضور خلافات أو صعوبات تنظيميّة تعطّل توزيع الانخراطات داخل الاتحاد، مما يجعل عملية الانتماء للاتحاد تتحول إلى عمليّة تزكية من طرف التنظيمات السياسيّة. وهو ما يزيد في تعقيد اكتساب غير المنتظمين لصفة المنتمين للاتحاد.

أما المتلازمة الثانية لهذا الإرث، فهيَ أنّ الديمقراطيّة داخل الاتحاد، في أكثر تجلّياتها مثاليّة، تعني ضمان مشاركة الأطراف السياسيّة في عمليّة اتخاذ القرار. أي أن إقصاء منخرطين غير مصنفين كمناضلين ليست في هذا السياق علامة على غياب الديمقراطيّة لدى مناضلي الاتحاد. بل أن الأمر قد يصل في مراحل تشتد فيها الصراعات، والقمع أيضاً، إلى حد الاكتفاء باتفاق قيادات التنظيمات على الخطوات العمليّة، لمباركة "ديمقراطية الاتفاقات"، في غياب لأيّ آليات قرار جماعي مفتوحة لعموم المناضلين، فما بالك ببقية المنخرطين. ومن المفارقات أن هذا القدر الضئيل من الاتفاق (بين القيادات) لم يكن أبداً مُحتَرَماً ميدانيّاً، خلال جلّ المحطات التاريخية التي عاشها الاتحاد إذ أنّ عدم ربط الاتفاقات السياسيّة بشرعية قاعديّة يجعل نقضها سهلاً والتلاعب بها من طرف التنظيمات الأكثر تنفذاً من الناحية السياسيّة واللوجستية أمراً يسيراً.

سيكون من التعسّف على تاريخ الاتحاد وتاريخ هذه التنظيمات السياسيّة إنكار الدور الذي لعبه القمع وغياب الحرّيات السياسية في صياغة هذه الآليات التنظيميّة. لكنّ إنكار استمرار هذه الأشكال حتّى في فترات الانفراج السياسي (بداية الثمانينات، أواخر الثمانينات، بعد 14 كانون الثاني/ يناير 2011..) يؤكد أن عوامل أخرى، غير مجرّد التعوّد، تساهم في إدامته.

اليساريّون (مع الحذر من التعميم) مدعوّون أولاً للتوقّف عن "إبعاد الناس" عنهم. كما أنهم مدعوّون ثانيّاً للوعي بتموقعهم الاجتماعي فرديّاً وجماعيّاً. قد يبدو ذلك مستغرباً لأوّل وهلة، إلا أنه في الواقع أحد المعايير التي قد تفسِّر المسافة الفاصلة بين هذا اليسار ومن يفترض بأنهم حاضنته الاجتماعيّة من الفئات الشعبيّة.

تشترك هذه التنظيمات أيضاً في قراءة وظيفيّة للاتحاد. فهو الإطار الذي يجب أن يوحّد "الحركة الطلابيّة كذراع من أذرع الحركة الشعبية في نضالها من أجل بديل ثوري عن نظام الحكم القائم". وعلى الرغم من أن القراءات تختلف في كيفيّة التوحيد وماهية هذا البديل، فإنها تشترك في أن الاتحاد العام لطلبة تونس هو حاضنتها. فالاتحاد بحسب هذه القراءات فضاء جماهيري يمكن أن تتواجد فيه "الجماهير الطلابية" التي قد تخشى، في ظلّ قمع النظام التسلطي الذي عاشته تونس سابقا، أن تنخرط مباشرة في عمل سياسي مُكلِف. يتم جلب الطلبة إل هذا الفضاء بناءً على رغبتهم في الدفاع عن مصالحهم المادية المباشرة، ليحدث بعد ذلك تسييسهم من قبل الأطراف السياسيّة داخل الاتحاد عبر عمليّة تأطير حثيثة. ساهمَت هذه القراءة في ترسيخ قناعة حول دونيّة المهام النقابيّة، على اعتبارها مجرّد "حجة" لجلب الطلبة إلى "المهمة الحقيقيّة"، وهي التغيير السياسي. وساهمَت أيضاً خلال حكم الأنظمة التسلّطيّة قبل 2011 في إثقال كاهل الاتحاد بصراعات تتجاوزه، لم تتمكن الأطراف السياسيّة من فضّها خارجه. وهو ما جعله يعيش تناقضاً دائماً بين خطابه الذي يروّج فيه لدوره النقابي أساساً وواقع فعله الذي كان سياسيّاً وحزبيّاً في غالب الأحيان.

ولم تتم بعد 2011 مراجعة هذه المقولات، أو على الأقل نقدها لمكافحتها بالتغيّرات الكبرى التي تعيشها البلاد عموماً والجامعة خصوصاً. فانغلاق الاتحاد على عموم الطلبة لم يعد تبريره ممكناً كالسابق بخطر الاختراق الأمني (الذي يحتاج أصلاً للمسائلة)، كما لم يعد الاتحاد محتكِراً للنشاط القانوني، إذ أن الجمعيّات والأحزاب تنشط بحرّية نسبيّة اليوم. وقد تسبب غياب المسائلة بوضع الاتحاد في مفارقة زمانيّة، هي نفسها التي تعيشها تنظيمات اليسار خارج الجامعة أيضاً. وقد شهد جلّ هذه التنظيمات خلال السنوات الأخير خسارة أعداد كبيرة من مناضليها وتقلّص إشعاعها بشكل أصبح يهدّد وجودها.

فإن عدنا للجامعة، نرى مثلاً أن قوّة التجربة النضاليّة وكلفة الانتماء مثّلت سابقاً حاجزاً أمام العناصر المفتقدة لتربة نضالية سابقة للاقتراب من الاتحاد العام لطلبة تونس وبقية التنظيمات السياسيّة اليساريّة والقوميّة. ويكمن سبب ذلك في إنتاج مجموعات المناضلين لأطر جماعيّة يتم من خلالها مواجهة الحياة اليوميّة عبر استعمال مصطلحات خاصة، ومزاح ذي رسائل مشفّرة وذوق لباسي وفنّي وقراءات واهتمامات بعينها. ويتحوّل هذا الإطار الشفاف غير الرسمي عموماً إلى مصدر تنفير للطالب الجديد أو على الأقل الى مصدر شعور بالغربة لديه وهو برفقة هذه المجموعة. وعلى الرغم من أن كلفة الانتماء قد قلّت بشكل واضح منذ 2011 إلا أن هذه العوائق أمام المنخرطين الجدد لم تتغير كثيراً بل أنها اليوم أصبحت أكثر إبهاماً وتجريداً، خصوصا بعد تغيّر الوضع الذي كان مصدر ظهورها. وعلى عكس الخطاب الرائج بين صفوف اليساريين (حول ضرورة تبسيط الخطاب اليساري لأن "الطالب العادي" غير قادر على فهمه)، فما يحصل فعليّاً هو سعي اليساريّين عموماً إلى تبنّي خطاب معقّد (حتّى بالنسبة لجلّ عناصرهم) كعنوان لسعي يائس للانتماء إلى ما يُسمّى "النخبة"، وكمصدر تميّز اجتماعي لهؤلاء المناضلين عن غيرهم من "عموم الطلبة". أي أن العمليّة تتعلق باستراتيجيّات منتشرة جداً للتموقع الاجتماعي.

فاليساريّون (مع الحذر من التعميم) مدعوّون أولاً للتوقّف عن "إبعاد الناس" عنهم. كما أنهم مدعوّون ثانيّاً للوعي بتموقعهم الاجتماعي فرديّاً وجماعيّاً. قد يبدو ذلك مستغرباً لأوّل وهلة، إلا أنه في الواقع أحد المعايير التي قد تفسِّر المسافة الفاصلة بين هذا اليسار ومن يفترض بأنهم حاضنته الاجتماعيّة من فئات شعبيّة. ويجمع اليسار التونسي عناصر تنحدر عموماً من عائلات تنتمي للفئات الدنيا للطبقات الوسطى المتعلّمة المدينيّة. ومن شأن مساءلة انعكاسات هذا التموقع الاجتماعي أن توضّح بعض أسباب الصراعات التي تشق صفوفه، بعيداً عن التحليلات الباثولوجيّة الشخصيّة المهيمنة تحت مسمّى "الصراعات الشخصيّة". كما أنها تكشف بعض أوجه السقف السياسي وحدود جزء من اليسار، بعيداً عن التخوين والاتهامات بالعمالة واليمينيّة الخ..

كما أنه من الضروري الإقرار بأن اليسار يجهل الكثير عن محيطه. جزء من هذا الجهل مفهوم ومنطقي في بلد عاش 55 سنة من الحكم التسلطي الذي يعيق إمكانيّات مراكمة المجتمع للمعارف حول نفسه، ويعيق إمكانية إنتاج معرفة نقديّة متصلة بواقعها. هذا الجهل النسبي ليس طبعاً حكراً على اليسار، بل هو قاسم مشترك لكل القوى السياسيّة والمدنية، وهو واقع موضوعي. فنحن نجهل الكثير عن كيفيّة سير حياتنا الجماعية، في السابق كما اليوم، فما بالك بالمستقبل. لعل الأمر أقلّ خطورة عند قوى تسعى لاستمرار الأمور على ما هي عليه، وهو ما يعني عموماً جعل الميكانيزمات الاجتماعية تواصل اشتغالها كما في السابق. لكنّ ذلك يصبح معطِّلاً حقاً حين يتعلّق الأمر بقوّة تدّعي البحث عن تغيير علاقات السلطة وعلاقات الانتاج والعلاقات الاجتماعيّة برمّتها. فكيف لها أن تفعل ذلك دون فهم معمّق لواقع هذه العلاقات؟ إن إنتاج هذه المعرفة لا يتم طبعاً عبر خبراء مزعومين منغلقين على أنفسهم في مكاتب، بل عبر مجهود جماعي تُنتَج فيه المعرفة الثورية من رحم الممارسة الثورية الميدانيّة (أي "البراكسيس" كما نظّر له غرامشي). ويتطلّب مساءلة العلاقات الاجتماعيّة المهيمنة داخل التنظيمات اليساريّة وعلاقتها بمحيطها، وهو ليس بأمر هيّن، وليس ممكناً من دون توفر الإرادة الجماعية للتصدّي له.

وقد عرفت كل التنظيمات الشبابيّة اليساريّة خلال السنوات الأخيرة موجات استقالات كبيرة ضربت إشعاعها وأدخلتها في أزمات. ولن نفشي سرّاً إن قلنا بأن ضعف ديمقراطيّتها الداخليّة وتقوقعها على أنفسها وعدم فلاحها في إيجاد مخارج لعقمها السياسي طيلة السنوات الأخيرة تمثّل أهم أسباب ذلك. كما أن تتبع مسارات المستقيلين مهماً لفهم دواعيه. إذ وعلى خلاف فرضيّة العزوف السياسي التي يدّعي البعض أنها بصدد الانتشار بين الشباب، فإنّ الواقع يحيلنا إلى استمرار الاستعداد للالتزام المدني والسياسي لدى أعداد هائلة من المستقيلين، تشهد عليه مشاركتهم في التحركات الكبرى التي نجحت في تحفيزهم، كتلك التي جدّت ضد ما يسمّى "قانون المصالحة" أو دعماً للتجربة التعاونية الفلاحيّة الفريدة التي أسسها أهالي مدينة جمنة في الجنوب التونسي، وغيرها من المحطّات النضاليّة الكبرى.

يمكن اعتبار الحركات الاجتماعية، التي انتشرت بعد الانفتاح السياسي الذي عرفته البلاد، أحد أهم الفضاءات التي ملأها مناضلون ترعرعوا داخل الحركة الطلّابيّة بعد 2011. ولئِنْ كان انتشار هذه الحركات قد تم بمعزل عن إرادة أي من الفاعلين السياسيّين، بل بإرادة ذاتية من عناصر تلك الحركات كردّ على التدهور المستمر للوضع المعيشي في البلاد، حيث تتشكل كل مرة مجموعات محلّية لمواجهة إشكاليّات طارئة تهم قضايا التشغيل، التلوّث، التزوّد بالمياه الصالحة للشرب وغيرها.. فإن العناصر التي راكمت تجربة نضاليّة داخل الاتحاد العام لطلبة تونس كثيراً ما توجد في هذه التحركات في جلّ مناطق البلاد. وقد عملت هي وغيرها منذ سنوات على تجاوز الطابع المناسباتي عبر تشبيكها وتوفير أطر للتضامن بينها تحميها وتمكّن من مراكمة تجاربها.

بالإضافة إلى هذه الحركات شبه العفويّة (على الأقل في بدايتها)، فإن نوعاً ثانياً من الحركات قد نشأ أيضاً وكان للمناضلين/ات الذين مرّوا عبر الاتحاد دوراً أكثر محوريّة فيه، وهي الحركات الاجتماعية ذات المطالب السياسيّة، وتلك التي تتناول قضايا الحرّيات الفرديّة والعامة. وقد بيّن هذا الشباب اليساري مرّات عدّة قدرته الميدانية وتمرّسه ومرونته السياسيّة خلال تحرّكات المعطّلين عن العمل من قدماء الإتحاد، أو خلال تعامله مع مختلف التناقضات السياسيّة التي أحاطت بالحشد ضد قانون المصالحة والحملات التي تناهض العنف البوليسي وتلك التي تساند إلغاء التجريم عن استهلاك مادة القنب الهندي مثلاً.

إلّا أنّ هذا الوضع لا يجب أن يحجب الصعوبة التي يجدها الشباب اليساري لغاية اليوم في تأسيس تصوّرات لمشاريع سياسيّة عامة. فلئن كان التخلّي النسبي عن العمل الميداني المعضلة التي تواجه التنظيمات اليساريّة، بشكل يعمّق عزلتها عن محيطها ويبقيها حبيسة تحاليل نظرية مفارِقة زمانيّاً، تتحدث بأدوات تحليل ماضويّة عن واقع متغيّر لا تملك نواميسه، فإنّ الانغماس الحركي للعناصر اليساريّة غير المنتظمة وتشتتها لم يتح لها أخذ مسافة نقديّة من تجاربها لصياغة تصوّرات عامة عن الواقع الذي تواجهه يوميّاً. وعلى الرغم من ثراء التجارب السياسيّة التي راكمها طيلة السنوات السبع الماضية وقبلها، فإنّ عمليّات التوليف العام ما زالت ضعيفة، وتبقى الحركات الاجتماعية الدفاعية والمعارك الجزئية هي السمة البارزة لدى الشباب اليساري. والخطير في هذا الوضع هو الغرق في الحركة اليوميّة والتعوّد على عدم إمكانيّة تغيير شيء جوهري والاكتفاء بالنضالات الجزئية، وفي ذلك مدخل واسع لتحلُّل النزعات الراديكاليّة وتسهيلٌ للابتلاع من قبل آليات السوق عبر المانحين الدوليّين ومنظومة الحكم القائمة.

بالإضافة إلى ما سبق، فإنّ الخطاب الناقد للتنظيمات الحزبيّة لم يبلغ لغاية اليوم نضجاً يجعله يخرج من الانطباعيّة وآنيّة التجارب الذاتيّة للمستقيلين. وباستثناء أضغاثُ تصورات تبرز على الساحة من حين لآخر، فإنّ غياب القراءات المعمّقة بيِّنٌ للعيان. ولعل أهم ما يغيب عن هذا النقد هو محاولات التفكير الجماعي المفتوح الذي يوفّر فرصاً للمراكمة الفكريّة والصراع النقدي حول المحتويات والبرامج، ويُخرج الصراعات اليساريّة من تقليد الشخصنة الذي شوّهها وحجب الأسباب الحقيقيّة للصراعات القائمة.

على خلاف فرضيّة العزوف السياسي التي يدّعي البعض أنها بصدد الانتشار بين الشباب، فإنّ الواقع يحيلنا إلى استمرار الاستعداد للالتزام المدني والسياسي لدى أعداد هائلة من المستقيلين من التنظيمات اليسارية، تشهد عليه مشاركتهم في التحركات الكبرى الجارية التي نجحت في تحفيزهم.

ويُسهّل غياب هذا النقد الجماعي والمُمَنهج انتشار ثقافة الاستهلاك الفكري، عبر محاولات استنساخ تجارب حصلت في مناطق أخرى من العالم دون الإلمام بإكراهات الأطر الخاصة بكل تجربة، ممّا يعيق التعامل النقدي مع التجارب الأخرى والقدرة على إنتاج أشكال تنظيمية ومحتويات مستقاة من واقع الصراع الطبقي والاجتماعي في تونس. من هنا نقرأ مثلا سطحية الخطابات حول الصراع القائم بين أشكال التنظيم الأفقيّة والهرميّة عبر ترديد مقولات عامة مستعارة، وغياب إنتاج فكريّ ذي شأن حول الموضوع من الطرفين. والحال أن التجربة النضاليّة في تونس على قدرٍ عال من الثراء في الصراع الجدلي بينهما، ولها أن تزودنا بحجج أبلغ وأصلح لواقعنا.

في الختام

لعل ما نستخلصه من كل ما سبق، أن اليسار التونسي لم ينجح لحدّ اليوم في التحول إلى طرف سياسي مستقل وواضح المعالم. لطالما اعتبر اليسار في أدبيّاته، نقلا عن ماركس، بأن أهم خطوة للقضاء على الاضطهاد الرأسمالي هي تحوّل البروليتاريا من طبقة "في ذاتها"، أي بالقوة وبالوعي العفوي، إلى طبقة "لذاتها"، أي بالفعل والممارسة والوعي الثوريّيْن. إلّا أنّ الواقع السياسي التونسي يؤكد أنّ يسارنا يفتقد لغاية اليوم إلى الوعي بذاته ولذاته، فهو لم يزل منذ عقود حبيس المشاريع السياسيّة الكبرى، يساند أحدها على حساب الأخر بداعي التكتيك.

فاليسار لم يخرج إلى اليوم من السرديّة التأسيسيّة للدولة الطبقيّة الحديثة في تونس، وهي السرديّة الإصلاحية(7). والمهم في هذا المجال هو الجانب العلائقي من هذه السردية، الذي صاغ علاقة الفئات التي أطلقت على نفسها اسم "النخب" وأعطت لنفسها مهمّة إخراج "الشعب" من واقعه المتخلّف. وتكمن ميزة هذه النظرة في قناعة هذه النخب بعجز هؤلاء "العوام" عن الاضطلاع بالمهام التاريخيّة بأنفسهم، بل أكثر من ذلك، فهم غريزياً ضد الاضطلاع بهذه المهام، ويصبح دور النخب بناء على هذا متمثلاً في كيفيّة قيادة هؤلاء "الرعاع" إلى الجنّة بالسلاسل. لا تختلف العائلات الفكريّة الكبرى في تونس حول هذا التقييم عموماً، على الرغم من استعمالها ألفاظا أقل حدة في أغلب الأحيان، بل هي تتفارق في السبل التي يجب استعمالها للنهوض بهذه المهمّة التاريخيّة لـ"النخبة".

يُسهم تصور كهذا في إدامة العلاقة العموديّة بين التنظيمات السياسيّة وبين من تتوجه لهم بخطابها. وهو أسلوب، وإن لم يكن مضراً بالنسبة للقوى التي تدافع عن مشاريع تهدف إلى تكريس الهرميّة الاجتماعيّة، كالدستوريين ومشتقاتهم، والإسلاميين بأنواعهم، لأنه في تناسق مع مشاريعهم، فإنه خَطِرٌ على القوى التي تدّعي الدفاع عن العدالة الاجتماعيّة.

لم يتزحزح الإيمان اليساري بالدور "الطلائعي" للجامعة، كجزء من المهمّة التاريخيّة ل"النخبة" في إخراج "الشعب" من واقعه المتخلّف. ولم تجر مساءلة الدور الذي اضطلعت به الجامعة التونسيّة منذ تأسيسها في البناء الأيديولوجي للدولة التسلطيّة بتونس. والجامعة قد لا تكون الاستثناء داخل هذا النظام التسلّطي والتمييزي الذي عرفته تونس منذ استقلالها، بل أحد شروطه

ولعلّ أولى الخطوات لمساءلة هذا التصوّر المأزوم تنطلق من التشكيك في دور وفائدة "النخبة" اجتماعيّاً، وفي مساءلة علاقتها بطبقة المثقفين وفئاتهم. هل تتماهى النخبة مع المثقّفين أم أنها جزء منهم أو أنها مجموعة مختلفة تماماً عنهم؟ ما هي الشروط الاجتماعيّة اللازمة كي يصبح شخص ما في عداد النخبة؟ أمّا ثاني خطواتها فهي مساءلة موقع الجامعة كمكان مفترض لإنتاج هذه النخبة. لعلّ أحد أزمات اليسار عموماً والطلابي منه بالخصوص في هذه السياق، تكمن في تعامله مع الجامعة كمنطلق وغاية لعمله السياسي. ولعل الإيمان بالدور "الطلائعي" للجامعة يفسّر مثلاً كيف أن التنظيمات اليساريّة قد وجدت بالأساس في الجامعة. كما أن خطابها حول الجامعة، وبالتالي خطاب الاتحاد العام لطلبة تونس نفسه، لم يتجاوز بعد في عمق تحليله لواقع الجامعة الراهن، مقارنة وضعها الرديء اليوم بوضعها المميز في بداية الستينات من القرن الماضي، عندما كان الطالب شخصاً مهاباً اجتماعيّاً، متمتعاً بكثير من الامتيازات، في استذكار حنيني لماضي سعيد نرجو عودته. وفي هذا غياب لمساءلة عميقة للدور العميق الذي اضطلعت به الجامعة التونسيّة منذ تأسيسها في البناء الأيديولوجي للدولة التسلطيّة بتونس. فالجامعة التونسيّة قد لا تكون الاستثناء داخل هذا النظام التسلّطي والتمييزي الذي عرفته تونس منذ استقلالها، بل أحد شروطه!

.. أكثر ما يختمر في ذهني اليوم هي الأسئلة والشكوك، وما أقلّ الإجابات الشافية عندي.

______________

1 - لمزيد الاطلاع على تفاصيل هذه العلاقة خلال فترتي الخمسينات والستينات يمكن العودة إلى مقال "'مارس 1968' وتجذّر النضال الطلابي".

2 - تشابه استعمال هذا المصطلح المألوف مع المعنى الذي يعطيه دولوز وغتاري في كتابهما "الرأسماليّة والشيزوفرينيا "لمصطلح/نظريّة ال"ريزوم".

3- V. Taylor (1989), “Social movement continuity: the women’s movement in abeyance”, American Sociology Review, pp. 761-775.

4- تحتاج عمليّة "التحلل البرقي" التي عرفها هذا الحزب الذي جمع مليوني تونسي من المنخرطين في بضع أيام، الى دراسات مدققة لفهم ما حصل وكشف ملابساته، وهو ما سيكون له فوائد جمّة في فهم الميكانيزمات السياسيّة الأساسية في سنوات حكم بن علي الأخيرة وشروط وإمكانيّة إعادة تشكيل ما يطلق عليه "النظام القديم" في عديد الأحزاب والتنظيمات لاحقاً.

5- لا تختلف الوضعيّة الكارثيّة لجل هذه التنظيمات المهنية (محامين، قضاة، كتّاب...) والجمعيّات (رابطة حقوق الانسان...) عن الأحزاب.

6- https://www.turess.com/alchourouk/181552

7- B. Hibou (2006), La force de l’obéissance. Économie politique de la répression en Tunisie. La Découverte, Paris.

محتوى هذه المطبوعة هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

مقالات من تونس