تم دعم هذه المطبوعة من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المطبوعة أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
نورهان جمال فتحي (20 سنة، البحيرة)، نشوى محمد خميس الغول (17 سنة، البحيرة)، غادة فتحي عبد الحميد منصور (24 سنة، الشرقية)، عطيات أحمد سيد أحمد (23 سنة، الشرقية)، أميرة أشرف عبده عبد العليم (17 سنة، الفيوم)... أسماء وردت ضمن قوائم ضحايا مركب رشيد (أيلول/ سبتمبر 2016). لم تزودنا هذه القوائم بطبيعة الحال بمزيد من التفاصيل عن هؤلاء النسوة: حالتهن الاجتماعية، هل كن بمفردهن أم بصحبة أسرهن، دوافعهن للهجرة... لكنّ إلقاء نظرة على أعمار سائر الضحايا يمكن أن يفيد في استنتاج بعض المعلومات. فمن بين الضحايا عدد من الرضع والأطفال الصغار، وهو ما يعني أن بعض هؤلاء النسوة على الأقل قد خرجن بصحبة أطفالهن (وأزواجهن؟). تؤكد ذلك القصص التي نشرتها الصحف وقتها لبعض الناجين مثل متولي محمد أحمد (29 سنة) الذي فقد أسرته بالكامل المكوّنة من زوجته الشابة وابنه البالغ من العمر عامين ونصف.
لم تكن هذه الرحلة التي تحولت إلى مأساة استثناء بالطبع بين رحلات المصريين للهجرة غير النظامية فيما يتعلق بمشاركة نساء فيها، سواء تلك التي كانت تنطلق من مصر أو التي تنطلق حاليّا من ليبيا التي باتت محطة رئيسية للهجرة بعد التشديدات المتبعة مؤخراً على السواحل المصرية. ففي تموز/ يونيو الماضي أعلنت البحرية الليبية أن قوات حرس السواحل أنقذت 16 مهاجرا غير نظامي، وانتشلت 3 جثث لرضّع، بينما اعتبر أكثر من 100 شخص في عداد المفقودين. ووفقا لإفادة أحد الناجين، فإن ما بين 120 و125 شخصاً كانوا على متن المركب، من جنسيات عربية وأفريقية. وأن من بين المفقودين رضيع مصري. يشير ذلك إلى أن أسراً مصرية كاملة، بما في ذلك أفرادها من النساء بطبيعة الحال، ما تزال تتجه لركوب البحر للوصول إلى أوربا، ويعطي تأكيداً جديداً على أن ظاهرة الهجرة غير النظامية في مصر ليست ذكورية تماماً كما يُنظر لها عادة، على الأقل خلال السنوات الأخيرة.
التغيّر في الأرقام والنسب
يقول مسؤول برامج المنظمة الدولية للهجرة في مصر، لوران دي بويك، إن تحديد عدد المهاجرين غير النظاميين بدقة ونسبة المهاجرات بينهم يعد أمراً صعباً، بسبب طبيعة هذا النوع من التحركات التي تجري خارج القنوات النظامية، لذلك لا نجد إحصائيات رسمية حول الهجرة غير النظامية في مصر. أما بالنسبة لتقديرات المنظمة ووفقا للمعلومات المتوفرة لديها عن عدد المهاجرين المصريين غير النظاميين لأوروبا ونسبة المصريات بينهم فهي كالتالي:
عام 2016
بلغ مجموع المهاجرين 4230 مهاجراً،
58 في المئة منهم أطفال غير مصحوبين،
2 في المئة نساء بالغات،
37 في المئة رجال بالغون،
والنسبة المتبقية أطفال مصحوبون.
عام 2017
بلغ مجموع المهاجرين 988 مهاجرا،
7.3 في المئة منهم أطفال غير مصحوبين،
1.7 في المئة نساء بالغات.
وقد سجل هذا العام انخفاضاً اجمالياً بنسبة 76 في المئة مقارنة بعام 2016، وكذلك انخفضت بحدة نسبة القصر غير المصحوبين، ولعل السبب يعود الى اتجاه المهاجرين الى ليبيا لمحاولة العبور، مما يعقد المهمة.
وفي الربع الأول من عام 2018
بلغ العدد الكلي للمهاجرين 94 شخصاً.
ومن كانون الثاني / يناير إلى أيار/ مايو 2018، تمّ اعتراض 85 مصرياً أثناء عبورهم حدودا غير نظامية إلى اليونان وقبرص وإسبانيا.
وبوجه عام - كما يقول السيد لوران وكما توضّح الأرقام - ثمة انخفاضاً في حركة المهاجرين المصريين المغادرين من السواحل المصرية، حيث تشير كل التقارير إلى أن عدد المغادرين يساوي صفراً، وتنحصر كل تحركات المصريين بليبيا وبالسواحل الغربية لجنوب البحر الأبيض المتوسط. يرجع ذلك بصورة أساسية إلى الإجراءات التي اتخذتها الحكومة المصرية لمكافحة الهجرة غير النظامية من سواحلها الشمالية، مما أدى إلى توقف كبير للتحركات من هذه السواحل، حيث يمثل منع الهجرة غير النظامية للمصريين أولوية رئيسية للحكومة. وعلى المستوى الدولي (ولا يزال الكلام للسيد لوران) لاحظت المنظمة تأنيث الهجرة على مدى العقد الماضي، وهي ظاهرة لامست مصر أيضاً وإن كان بدرجة بأقل. وهو أكد أنه، عبر آليات المساعدات المباشرة المقدمة من خلال المنظمة، لوحظ أن الجنسين يسجلان نسباً متساوية تقريباً من العدد الكلي للمهاجرين غير النظاميين، وذلك على مستوى العالم وليس في نطاق جغرافي محدد، وأن أدوار النساء في المجتمع تستمر في التغير، وهو ما سيكون له بالضرورة آثاره على الهجرة: "استنادا إلى إحصائياتنا الخاصة بالمهاجرين الذين يطلبون مساعدة مباشِرة من منظمتنا، فإننا نقدر أن 52 في المئة من المهاجرين غير النظاميين هم من الإناث، أكثر من 75 في المئة منهن أمهات عازبات يسافرن مع أطفالهن"، مشيراً إلى أن النساء يواجهن مخاطر إضافية عندما يقررن الهجرة غير النظامية بسبب ضعفهن المزدوج كمهاجرات وكنساء، وأن الفقر وعدم المساواة بين الجنسين وانعدام فرص عمل مستقرة تعد أسباباً جذرية ومترابطة تجعل النساء معرضات للمخاطر، وأبرزها الاتجار بهن، سواء لأغراض جنسية أو لأغراض العمل القسري، حيث تكون المهاجرات عرضة للاستغلال في مكان العمل خاصة في قطاع المصانع والأعمال المنزلية.
أوجه متعددة لعلاقة المصريات بالهجرة
على أن المرأة المصرية لا تتصل بقضية الهجرة غير النظامية من هذا الجانب فقط، أي كونها هي نفسها مهاجرة. الجانب الآخرالذي يخصها يبدو أكثر اتساعاً، أي كونها أمّاً أو زوجة لمهاجر. ووفقاً لتصريحات سابقة أدلى بها مسئولون دوليون يعملون في مصر، ووفقاً لتقارير المنظمات الدولية ذات الصلة، فإن نسبة كبيرة من المهاجرين المصريين، تصل إلى 60 في المئة، هم من الأطفال والقصّر، العديد منهم يكونون المعيلين الرئيسيين لأسرهم، وبعضهم اتخذ قرار الهجرة بصورة مستقلة عن أسرهم بينما كان قرار البعض الآخر بالشراكة مع الأسرة. ويُفسَّر ذلك بالرغبة في الاستفادة مما تكفله القوانين الأوروبية من حقوق وامتيازات للأطفال طالبي اللجوء. وقد تراوحت أعمار عدد غير قليل من ضحايا مركب "رشيد" بين 12 و17 عاماً.
قرية الجزيرة الخضراء بمركز مطوبس بمحافظة كفر الشيخ شمال مصر، من القرى التي ترتفع نسبة الهجرة غير النظامية بين أبنائها، يفصلها عن "رشيد" (بمحافظة البحيرة) مجرى فرع رشيد/ نهر النيل الذي يمكنك عبوره خلال دقائق على متن مركب خشبي متوسط الحجم، وعلى الجانبين تستقر مراكب صيد أكبر حجماً.يحدّ القرية من الجانب الآخر البحر المتوسط. في محيط القرية قرى أخرى مثل قرية برج رشيد (بمحافظة البحيرة) وقرية برج مغيزل (بمحافظة كفر الشيخ) وغيرهما من القرى المشتهرة بانتشار ظاهرة الهجرة غير النظامية فيها.
نسبة كبيرة من المهاجرين المصريين، تصل إلى 60 في المئة، هم من الأطفال والقصّر. والعديد منهم من المعيلين الرئيسيين لأسرهم، وبعضهم اتخذ قرار الهجرة بصورة مستقلة عن أسرهم بينما كان قرار البعض الآخر بالشراكة معها.
وأنت تتجول في طرقات القرية ذات الأرض الترابية غير المستوية، تجد الرجال والنساء جالسين على عتبات البيوت، والأطفال يلهون جماعات، بعضهم يقذفون بالطوب النخيل الذي تزخر به القرية فيتساقط على الأرض البلح، أحمرَ وأصفرَ، بينما بعض الرجال والنساء ينخرطون في عمل القُفـَف من خوص النخل، حرفتهم التي يتكسبون منها.
ثمة ترعة ضحلة آسنة المياه مليئة بالقاذورات، وعدد كبير من المقاهي، وأنابيب مرصوصة أحضرت مؤخراً لتوصيل شبكة صرف صحي بالقرية التي طالما عانت، ولا تزال، من مشكلات في هذا المجال. بوجه عام، فإن القرية، كقرى مصر كافة، تعاني من العشوائية في البناء وانعدام النظافة وتردّي الخدمات أو غيابها بالكلية، من بنية تحتية وخدمات طبية وغير ذلك مما هو ضروري لحياة لائقة.
النشاط الأساسي للقرية هو الصيد، ولكنّ أحوال صيادي القرية صارت للأسوء بعد افتتاح مشروع الاستزراع السمكي ببركة غليون بمحافظة كفر الشيخ العام الماضي (وهي المحافظة المعروفة بوفرة إنتاجها السمكي حيث تطلّ على النيل والبحر المتوسط وبها أيضا بحيرة البُرُلُّس)، إذ فرض المشروع حدوداً معيّنة في البحر لا يُسمح للصيادين بتعدّيها، فتقلصت أمامهم المياه المتاحة لالتقاط الرزق، هذا بالإضافة إلى غلاء أسعار الوقود مما ضاعف خسائرهم وأدى إلى ركود الحال. في المقابل لم يستفد أبناء القرية من ذاك المشروع الذي صاحبته دعاية ضخمة، إذ لم يوفر لهم ما يأملون فيه من فرص للتوظيف، وظلت المكاسب ــ كما هي دائما ــ تصبّ في غير صالح البسطاء.
بخلاف الصيد، هناك حرفة "القِفاصة" أو صُنع الأقفاص من جريد النخل، وصنع القُفَف من خوصِه. أما الزراعة فقد أصابها الضُرّ أيضا بسبب نقص كمية المياه التي تصل للقرية مما أدى إلى عدم انتظام الري، وذلك منذ سنوات، فتآكلت مساحة الأرض المزروعة بدرجة كبيرة وضعفت المحاصيل التي تكاد تنحصر حالياً في النخيل وما يطرحه من بلح. أمام تفشي البطالة وانعدام فرص العمل المستقرة لا يجد الشباب موردا للرزق سوى العمل الموسمي، في موسم جني البلح الذي لا يتجاوز الشهر كل عام، حتى خريجو الجامعات هنا، وهم نسبة قليلة من أبناء القرية، يلتحقون به، وتتراوح اليومية فيه من 50 إلى 100 جنيه. وهناك نسبة قليلة جداً من أبناء القرية تعمل في ورش الطوب.
النشاط الأساسي لقرية الجزيرة الخضراء هو الصيد، ولكنّ أحوال صيادي القرية ساءت بعد افتتاح مشروع الاستزراع السمكي ببركة غليون بمحافظة كفر الشيخ، فقد فرض المشروع حدوداً معيّنة في البحر لا يُسمح للصيادين بتعدّيها، فتقلصت أمامهم المياه المتاحة لالتقاط الرزق.
أصاب الزراعة الضُرّ أيضاً، وذلك منذ سنوات، بسبب نقص كمية المياه التي تصل للقرية مما أدى إلى عدم انتظام الري، فتآكلت مساحة الأرض المزروعة بدرجة كبيرة وضعفت المحاصيل التي تكاد تنحصر حالياً في النخيل وما يطرحه من بلح. وهنا تتفشى البطالة وانعدام فرص العمل..
لا ينسى الأهالي قصص أبناء القرية من الأطفال والشباب "اللي زي الورد" الذين راحوا ضحايا مركب رشيد قبل عامين، منهم "هلال" سائق التوك توك الذي ينتمي إلى أسرة ميسورة، وكريم الذي كان منخرطاً في اليوم المفترض للسفر في العمل في موسم البلح، وسبقت له المحاولة مرتين، ثم كانت محاولته الثالثة والأخيرة على كره منه تحت ضغط وإصرار والده الذي يعيش وأسرته ظروفاً اقتصادية مزرية. ومنهم محمد شرف الذي كان يدير صفحة "مطوبس" على الفيسبوك، وكان لديه العديد من الأحلام لقريته كما تسجّل صفحته، منها بناء معهد ديني أو تعليمي يستفيد منه أبناء القرية.. كان محمد طوال الوقت ضد الهجرة غير النظامية، ولكنه في لحظة ما قرر خوض التجربة. عاد والده الذي كان يعمل في الخارج إلى القرية بعد الحادث، ومن وقتها وهو يعمل على تنفيذ بعض من هذه المشروعات صدقة جارية على روح ابنه، بينما أمه ما تزال تبكي وحيدها وتنقم على خاله الذي قام بتهريبه من المنزل يوم السفر كي يلحق بالمركب، دون علمها ورغبتها... ومنهم..
مصر: هدأ الشاطىء ولم تستقر الأعماق..
22-09-2018
كان لا بدّ لهؤلاء، مع الفقر وانعدام فرص الترقّي المادي والحياة الكريمة، أن يدفعوا أبناءهم إلى البحر، لعلهم يصيرون قريباً مثل أندادهم من أبناء القرية الذين سبقوهم، والذين يرون صورهم على "فيسبوك" في شوارع أوروبا النظيفة، وهم - على عكس ما كانوا بينهم - مهندمون يبدو عليهم أثر الغِنى والوجاهة، مما يثير في نفوسهم الانبهار والرغبة الشديدة في المحاكاة.
مزايا الطفولة!
معظم المهاجرين يغادرون في سن الطفولة (11-18 عاما)، قبل أن يتمّوا تعليمهم الأساسي، وذلك للاستفادة من المزايا التي تمنحها الدول الأوروبية لأمثالهم، من إتاحة حق اللجوء وفرصة الالتحاق بمدارس متخصصة في تعليم حرفة، ثم توفير فرص عمل في إحدى الورش مثلاً. يتوجهون أولاً إلى إيطاليا ومنها إلى فرنسا أو إنجلترا أو بلجيكا.. يكون التعويل على المهاجر الصغير لانتشال أسرته من الفقر ولكي "يقبّوا على وش الدنيا". يتحول المهاجر إذاً، الذي يعمل هناك عادة في ظروف قاسية في مغسلة أو ورشة أو مطعم أو مقهى، أو يعمل حدّاداً أو نقّاشا كما كان يعمل في قريته، إلى دجاجة تبيض ذهبا بالنسبة لأسرته، فيتولى تجهيز أخواته البنات، تجهيزاً فاخراً بعشرات الآلاف من الجنيهات، ويرسل الأموال بالعملة الصعبة. لذلك فإن الأهالي، الذين يعاني معظمهم من فقر مدقع ومن الأمية، ويعملون في مهن بسيطة مثل الصيد والقفاصة، هم في الغالب من الاحيان من يدفعون أبناءهم في هذا الطريق، بما في ذلك الأمهات، خاصة مع القدرة على التواصل مع الأبناء المهاجرين يوميا بالصوت والصورة عبر الإنترنت!
على أن الأمر لا يقتصر على الفقراء المعدمين، فهناك أسر متوسطة الحال أو حتى ذات مستوى اقتصادي جيد (وإن بنسب أقل) ترسل أبناءها لكي يحسّنوا أوضاعهم أكثر وكي يظفر الابن بعمل يدرّ دخلاً أعلى من أي عمل قد يلتحق به في بلده، إن وَجَد. هناك مهندس زراعي ميسور الحال من سكان القرية أرسل ابنه قبل خمس سنوات تهريباً إلى انجلترا. بعض الأسر لديها أكثر من مهاجر.
وكثيراً ما تتولى الأم، منفردة أو بالاشتراك مع أبنائها أو إخوتها، إدارة المال الذي يرسله الابن المهاجر، فيتم شراء الأرض وبناء البيت ليتزوج فيه فور عودته. يعود بعد أن يكمل الثلاثين، فحينئذ لا يكون مطالبا بأداء الخدمة العسكرية. يأتي "العريس اللقطة" ليختار الفتاة التي تروق له، وغالباً ما تكون في المرحلة الإعدادية أو الثانوية. تفرح العروس في هذه السن الغضة بالخاطب الذي سيشتري لها ملابس وأجهزة إلكترونية فخمة، ثم يعود إلى أوروبا ويرسل إلى زوجته بعد تجهيز الأوراق المطلوبة لتلحق به.
كثيراً ما تتولى الأم إدارة المال الذي يرسله الابن المهاجر، فيتم شراء الأرض وبناء البيت ليتزوج فيه فور عودته، بعد أن يكمل الثلاثين، فلا يكون مطالبا بالخدمة العسكرية..
يتم جمع مبلغ الهجرة من خلال عمل "ليلة" تقام في مكان معروف بالقرية ويدعو لها صاحبها الأهالي ليجمع ما له من "نُقطة" لدى الناس. "ليالي النقطة" عرفٌ سائد هنا يلجأ إليه من يحتاج مثلاً لتزويج ابنته أو سداد دينه أو عمل مشروع أو إجراء عملية جراحية، ولتسفير ابنه (أو ابنها) أيضا على أحد المراكب. يمكن أن يصل المبلغ المجموع إلى 20 أو 30 ألف جنيه وأحياناً أكثر. يمكن توفير المال أيضا عن طريق بيع المواشي أو الاستدانة من بعض الأقارب أو المعارف.
مثال: أم حسن
في طرقاتها الضيقة المتعرّجة تتجاور البيوت المتواضعة مع البيوت المبنية حديثاً على أكثر من طابق، والمجهزة من الداخل تجهيزاً "فخماً". وهناك أيضا أراض مسوّرة لم تقم عليها المباني الجديدة بعد. معظم تلك البيوت والأراضي تعود لأسر مهاجرين غير نظاميين كانت الهجرة سبباً في رفع مستواهم المادي، فصاروا من أصحاب الأملاك بعد أن كانوا يعانون الفقر وعَنَت الحياة. ولكنّ بيت أم حسن ظل كما هو على الرغم من أن "حسن" هاجر إلى إيطاليا منذ أكثر من 5 سنوات.
البيت القديم المتهالك صار فارغا كقلب صاحبته بعد أن انتقلت "أم حسن" للإقامة في بيت أهلها. تتناقل الألسن قصة "عايدة"، تلك السيدة الأربعينية التي "لم تر في حياتها يوماً حُلواً"، فقد ترمّلت مبكراً. أصيب زوجها الصياد في حادث أثّر على قدراته العقلية، ليرحل بعدها بسنوات قليلة، تاركاً لها ثلاثة أطفال صغار: ولدان وبنت، كان"حسن" أوسطهم. دكان بقالة صغير ملحق ببيتها كانت تسترزق منه ببيع بعض البضائع. والحال هذه، فإن المرأة الأميّة البسيطة، التي ربما لا تعرف سوى حدود قريتها، والبحر سبيلاً لضمان مستقبل الأولاد، لم تجد أمامها سوى تسفير ابنها، مثلما تفعل غيرها من الأرامل هنا. قامت بجمع المال له وكان وقتها في الخامسة عشر من عمره. ولكنه ما إن أنهى دراسته في المدرسة التي ألحق بها هناك حتى زُج به في السجن إثر اشتباكات لم يكن طرفاً فيها بحسب الرواية المتداولة. في الحبس الانفرادي عاش "حسن" يشكو من مضايقات واضطهاد واعتداءات عليه داخل السجن. بعدها نقل إلى المستشفى في حالة حرجة، تدّعي إدارة السجن أنها "محاولة انتحار" (لم يكن يتبقى على انتهاء مدة حبسه سوى شهر)، ثم لم يلبث أن توفي في تموز/ يوليو الماضي في ظروف غامضة. عاد جثمانه ليدفن في قريته، ويضاف اسم "حسن رمضان مخيمر شرف" إلى قائمة طويلة من المصريين الذين يذهبون بلا ثمن، ويُنسَون، إلا من قلوب ذويهم المفجوعين.
"مشّيته عشان خاطر ظروفنا كانت تعبانة وأبوه إتوفى.. اتحرمت منه.. مشّيته غصب عني". لم تبنِ "أم حسن" بيتاً جديداً، وتفرقت العائلة فلم يبقَ في البيت القديم من يعمّره.
شهادات
شهادات لنساء لم يركبن البحر بعد. ينتظرن في مصر أو يعبرنها الى ليبيا. آلامهن وأحلامهن وتردداتهن.. ووقائع عن تعرضهن للاعتداءات الجنسية ولمختلف ضروب الاستغلال.
تحظى النساء بنصيب ضئيل من كمّ هائل من التقارير والأبحاث عن الهجرة غير النظامية إلى أوروبا. صحيح أنهن يمثلن نسبة قليلة بين آلاف المهاجرين الذي يركبون البحر، إلا أنهن في الوقت ذاته الحلقة الأضعف، الأكثر حساسية ومن ثم تأثّراً ومعاناة، والأكثر عرضة للاستغلال، سواء كن فارّات من مناطق حروب وصراع، أو مهاجرات لأسباب اقتصادية، بصحبة أزواجهن أو بعض أقاربهن، أو وحيدات أو مع أطفالهن، أو كن ضحايا شبكات الاتجار بالبشر. هذه محاولة لإلقاء الضوء على معاناة النساء في سياق الهجرة غير النظامية، من خلال قصص واقعية ترويها أصوات خاضت التجربة أو تدفعهن ظروفهن للإقدام عليها، وعرض لبعض الأبحاث التي تناولت أوضاعهن أثناء رحلتهن الصعبة المليئة بالمخاطر والانتهاكات.
"أحلام" في البحر
"أحلام" (*) سيدة سودانية تبلغ من العمر 25 عاماً، تعيش حاليا مع زوجها (30 عاما) في السويد التي وصلا إليها بعد رحلة هجرة غير نظامية عبر مصر، كلفتهما 7 آلاف دولار. كانت أحلام آنذاك حاملاً في الشهر السابع. عبر الإنترنت وصلني صوتها تروي قصتها: "سافرت مع زوجي في شهر تموز/ يوليو 2015، كنا تقريبا 200 شخص على متن المركب، من جنسيات مختلفة: سودانيين وإريتريين وصوماليين ومصريين وسوريين، نساء ورجالاً وأطفالاً. عدد النساء لم يكن كبيراً، تقريباً 15 أو 20 امرأة ليست بينهن مصريات، بعضهن كن بصحبة أزواجهن مثلي، وأذكر أن واحدة كانت بمفردها بصحبة طفلها وكانت مطلّقة. أما عدد الأطفال فلا يتجاوز الخمسة. كنت قد دخلتُ مصر بالطيران بصورة رسمية ودخل زوجي برّاً عن طريق التهريب والتقينا في شقة بالقاهرة، حيث يؤجر المهربون - وهم سودانيون ومصريون - شققا خاصة في مناطق مختلفة لإنزال المهاجرين بها حتى موعد رحلتهم. تتراوح مدة الإقامة في هذه الشقق من أسبوع إلى شهر، وهي من أصعب الفترات، حيث نعيش في قلق وتوتر دائمين خوفا من المداهمة".
لم تكن أحلام تدري أين هي تحديداً، فكل ما تعرفه أنهم في مصر، فالمهربون - كما تقول - يكونون حريصين للغاية على عدم ذكر اسم المنطقة أو حتى أسمائهم الحقيقية. حتى إنها لم تكن تعرف، وهي تحكي، من أين انطلقوا من البحر، ولكنها تذكرت لاحقاً أنهم انطلقوا من الإسكندرية.
"انتقلنا من القاهرة إلى الإسكندرية في عربات خاصة، وهناك توجد أيضاً شقق مجهزة للمكوث فيها ولكن لمدة أقل.. ثم يتم نقلنا ليلاً في سيارات مخصصة لنقل البضائع (نصف نقل). جلسنا جميعاً، رجالا ونساء، وتمت تغطيتنا بملاءة لإخفائنا.. كان الجلوس في هذا الوضع صعباً ولكن المسافة لم تتجاوز 10 دقائق إلى أن نزلنا في مكان قريب من البحر.. كان علينا السير على الرمال لمسافة طويلة.. ظللنا نسير لمدة 40 دقيقة تقريباً، السير كان مرهقاً وشاقاً جداً فالرمال بها ارتفاعات عالية، لكن لا يكون أمامكِ في هذا الوقت أي فرصة للتراجع وإلا وقعتِ في قبضة الشرطة. عند الوصول إلى شاطئ البحر كان علينا الخوض في المياه والعوم لمسافة قصيرة للوصول إلى مركب مطاطي ينقلنا إلى مركب كبير. كنت متعبة بشدة وغير قادرة على العوم ولكن بعض الشباب السودانيين معنا ساعدوني وقاموا برفعي".
تقول أحلام أن الأيام التي قضتها في البحر مثلت التجربة الأسوأ والأصعب على الإطلاق التي مرّت بها في كل حياتها. قضت 12 يوماً على المركب الكبير، وليلة ويوماً على متن مركب صغير، قبل أن تأتيهم سفينة إنقاذ حملتهم إلى جزيرة "صقلية" الإيطالية ومنها بدأوا مسيرتهم داخل أوروبا.
مقالات ذات صلة
سيناء: مهاجرون ومهرّبون وعساكر
01-08-2018
المهاجرون عبر مصر: أحلامٌ ضائعة..
19-08-2018
مصر: مسألة الهجرة واللجوء من منظور قانوني
23-08-2018
"التجربة كانت سيئة جداً، طوال هذه الفترة كنت أعاني من دوار البحر، كنت مضطرة دائما للالتزام بوضع الرقود حتى لا أتقيّأ. الجميع على المركب كان مصاباً بهذا الدوار. أحيانا كانت الأمواج ترتفع عالياً وتضرب المركب بشكل مخيف، كما تساقطت علينا الأمطار وكانت هناك رياح، كان الجميع يشعر بضغط نفسي رهيب فلم يكن أمامنا سوى البكاء، ليس فقط النساء والأطفال بل الرجال أيضا. عندما انتقلنا إلى المركب الصغير كان هناك تكدّس، فالمركب لا يمكن أن يتسع لمئتي شخص. عانيت ضيق المكان ولم أكن أستطع مدّ رجليّ، رغم أن جسمي كان في حاجة ماسة للراحة لظروف حملي. كنا نحن النساء نجلس أسفل المركب حيث لم تكن هناك تهوية جيدة، ومع ذلك لم أكن قادرة على الصعود لأعلى لاستنشاق الهواء، فقد أصبت بفوبيا من البحر، وبمجرد أن أرى المياه يعاودني القيئ. هذا مع سوء الأكل وفقدان الشهية ونقص المياه.. علمنا أن سيدة سورية في رحلة تالية لقيت حتفها على ظهر المركب. في نهاية الرحلة تعطّل محرك المركب الصغير، وصار معرضاً للانقلاب والغرق في أية لحظة. ظل الجميع يبكي واستسلمنا للموت إلى أن ظهرت سفينة الإنقاذ.. كثيرون يعانون اضطرابات نفسية عند الوصول من هول التجربة. عن نفسي أصبت بالتهابات في الورك وبآلام في الظهر. منذ أن وصلت هنا وأنا أتلقى العلاج، شخّصوا حالتي بأنها "عِرق النساء". لم أكن أعاني من أية مشكلات صحية في السابق.. أعيش على المسكّنات ولا أجد العلاج الناجع لحالتي، يخبرني الأطباء أن مشكلتي نفسية وليست عضوية، لذلك طلبتُ لقاء طبيب نفسي. نحاول نسيان التجربة ولكنها عصيّة على النسيان".
كانت هذه هي المحاولة الثانية لأحلام وزوجها للهجرة غير النظامية، في المرة الأولى، ألقى الأمن المصري القبض عليهم وتم احتجازهم لأسبوعين ثم رُحِّلا للسودان ليعيدا المحاولة بعد فترة وجيزة. وعلى الرغم من أن المعاملة خلال الاحتجاز كانت كما تقول جيدة، فإن هذه الفترة كانت من أصعب الفترات عليها. شعرتْ أنها تعاقـَب لمجرد رغبتها في السفر لمكان أفضل. ربما كان لديها صراع نفسي بين ما يفرضه القانون وبين ما يريده المرء وما يتاح له من فرص. وتؤكد أنهما كانا على استعداد لتكرار التجربة مرة ثالثة ورابعة.
وعن إقدامها على الهجرة وهي حامل تقول: لم نكن نخطط للسفر منذ البداية ولا الولادة في بلد أوروبي ليأخذ طفلنا الجنسية، عندما طرح عليّ زوجي فكرة السفر كنت بالفعل حاملاً في الشهر الخامس، كان من الصعب تأجيل السفر لأن هناك على حد علمي موسماً للرحلات يكون خلال أشهر الصيف. كما أن السفر وطفلي في بطني أسهل من أن يكون رضيعا أحمله ويكون معرضا لشرب مياه البحر المالحة أو للغرق.
لم تكن أحلام تعلم بكل تفاصيل الرحلة التي تقدم عليها. "السفر كان فكرة زوجي طرحها عليّ ووافقت، لم أكن أتصور أن الأمر خَطِر وسيء إلى هذا الحد. أخبرني زوجي أن الرحلة في البحر ستستغرق يوما أو يومين، زوجي نفسه لم يكن يعرف، فالمهربون لا يقولون الحقيقة الكاملة، وهناك أشياء لا تكتشفينها إلا بعد دخول أوروبا. حتى تقديم طلب لجوء في أوروبا لم أكن أعلم عنه شيئاً، كنت أظن أننا ذاهبان للعمل فقط كما لو كنا سافرنا إلى دولة عربية مثلاً، ولكنّ زوجي كانت لديه النية لتقديم طلب لجوء منذ البداية".
ما يقرب من نصف النساء المستطلعات عانين من العنف الجنسي أو الإساءة الجنسية أثناء الرحلة. وكان العنف الجنسي يتم على نطاق واسع ومنظّم في المعابر ونقاط التفتيش، وغالباً ما كان يُتوقع من النساء تقديم الخدمات الجنسية أو دفع مبالغ نقدية مقابل عبورهن الحدود الليبية.
تؤكد أحلام أن دوافعهم للهجرة اقتصادية محضة، لتحسين مستواهم المادي. فعلى الرغم أن أصولهم من غرب السودان فهم يقيمون في مناطق أخرى. فهي من الخرطوم وزوجها من القضارف، وليس لديهما علاقة بمشكلات دارفور ولم يكن لزوجها أية مشكلة مع الحكومة، ولكن ما دعّم طلبهم للجوء في السويد سبب خاص بزوجها لا تريد الإفصاح عنه... زوج "أحلام" كان قد سبق له السفر بشكل غير نظامي إلى إسرائيل والعمل هناك لمدة 3 سنوات قبل أن يعود إلى السودان. وهي ظاهرة منتشرة بين الشباب السوداني، خاصة من المنتمين لمناطق الغرب.
"أحلام" حاصلة على مؤهل عال أما زوجها فلم يتم تعليمه الجامعي. في السويد عملت لفترة في مجال تأهيل الأطفال بينما يعمل زوجها في محل أثاث. "أفكر حاليا أن أعود للسودان فور أن أحصل على الجنسية، أشعر بالندم على قدومي، كان من الأفضل أن أظل في السودان ويأتي زوجي بمفرده للعمل. وضعنا الاقتصادي في السودان كان جيداً، وأراه أفضل مئة مرة من المعيشة هنا. الواقع مختلف عن الصورة المثالية التي نرسمها لأوروبا. أنتِ هنا قادرة على كسب المال - وإن كان هذا يتطلب سنوات طويلة - والخدمات ممتازة مقارنة بالسودان، لكنك في المقابل تخسرين أشياء مهمة، فهناك الشعور بالعزلة وبكونك منبوذة لأنك تنتمين لثقافة مختلفة، وقد تتعرضين لسوء المعاملة لأنك محجبة أو لكِ تقاليدك الخاصة. ساعات العمل تستغرق معظم يومكِ ولا توجد حياة اجتماعية.. صعوبة الحصول على الأكل الحلال والخوف على أولادك من أن يتشبعوا من خلال المدارس بقيم قد لا تكونين موافقة عليها.. أحاول إقناع زوجي برأيي.. عشت هنا 3 سنوات تعلمت فيها الكثير، وكما يقولون "الغربة بتعلّم". لم يكن لدي الوعي الكافي عندما وافقت على المجيء. ربما سنكسب "قروش كَتيرة" لكننا سنخسر أولادنا وسنوات عمرنا. نحن ضحايا أوروبا.. الأمر حقا لا يستحق كل هذه المخاطرة".
ملاذ
تبلغ ملاذ السورية من العمر 33 عاماً، اختارت أن تبدأ قصتها من محطة لجوئها في تركيا حيث أقامت لمدة سنة ونصف "شعرتُ خلالها بالأمان على حياتي بعد الدمار الذي ألحقته الحرب بسوريا، ولكن الأمان وحده لا يكفي، لم أشعر بالاستقرار المادي لصعوبة الحصول على عمل في اسطنبول لعائق اللغة. بقائي في تركيا لم يكن له أفق ولا أساس أعتمد عليه لأبدأ حياتي من جديد.. شعرت كأني ورقة في مهب الريح. لذلك فكرت في الهجرة إلى أوروبا التي تقدم للاجئ العديد من المزايا. كنت من قبل من أكثر المعارضين لفكرة الهجرة غير النظامية لكن عندما وصل بي الحال للشعور بأني لست على قيد الحياة أصلاً كي أخشى فقدانها بدأت الفكرة تروق لي..".
في إحدى ليالي 2016 انطلقت ملاذ بصحبة بعض أصدقائها من أزمير إلى اليونان على متن قارب مطاطي صغير يقل قرابة 40 شخصاً جميعهم سوريون، مقابل 1000 دولار. خلال ساعتين كانوا على مشارف جزيرة "خيوس" اليونانية معتمدين على (جي بي أس). وإذّاك عثر عليهم قارب إنقاذ من الصليب الأحمر. "شاهدت خلال الرحلة نساء كثيرات بمفردهن أو مع أطفالهن دون الأب.. وحسب ما فهمت منهن، ففي أغلب الحالات يكون الزوج أصلاً في أوروبا ولأن أوراق لمّ الشمل تأخذ وقتاً طويلاً فإن معظم النساء يفضلن المغامرة في البحر بأطفالهن اختصاراً للوقت ونجاة من الحرب. ولكن المفاجئ بالنسبة لي أن هناك نساء خضن هذه التجربة وحدهن بينما أزواجهن يجلسون في تركيا أو مصر وينتظرون لمّ الشمل!". من اليونان انتقلت ملاذ إلى إحدى الدول الأوروبية. وبالنسبة لها، فإن المعيشة في أوروبا أفضل على الرغم من كل الصعوبات المتعلقة باللغة والاندماج. أما المستقبل فهو غير مضمون لا سيما أن لاجئي الحروب يتم ترحيلهم حال انتهاء الحرب.
"حياة" ورفيقاتها: ما قبل القرار الصعب
حياة وسلوى وعفاف وفاطمة، 4 سيدات سودانيات التقيتهن معاً، تتراوح أعمارهن بين 26 و39 عاماً، جميعهن ترجع أصولهن إلى قبائل غرب السودان، ولكنهن كنّ يقمن في الخرطوم أو أم درمان. وجميعهن يعشن في مصر بدون عائل، بسبب الطلاق أو عودة الزوج إلى السودان مرة أخرى. وجميعهن يعانين و/أو يعاني أحد أطفالهن على الأقل من مشكلات صحية تستوجب العلاج العضوي أو النفسي. أكدت ثلاثة منهن استعدادهن للإقدام على الهجرة غير النظامية إلى أوروبا من أجل حياة أفضل مع فقدان الأمل تقريباً في فرصة هجرة نظامية إلى أوروبا عبر المفوضية. كانت سلوى الوحيدة التي أكدت رفضها للمخاطرة أو لمخالفة القانون. تبلغ سلوى من العمر 39 عاماً، وهي مطلقة وتقيم مع إحدى قريباتها، وهي آخر من وصل منهن إلى مصر حيث قدمت قبل أشهر وتنتظر التسجيل في المفوضية، بينما الأخريات مسجلات بالفعل وتتراوح مدة إقامتهن في مصر بين عامين و4 أعوام. قالت إنها لن تهاجر إلا بشكل نظامي عبر المفوضية، وفي الوقت ذاته تأمل أن يتغير النظام في السودان فتعود وتعيش آمنة في بلدها دون ملاحقات. تحدثت عفاف ذات ال33 عاماً وترعى بمفردها ابنتين إحداهما من ذوي الاحتياجات الخاصة، عن صديقة لها توجهت من مصر إلى ليبيا ومنها هاجرت بشكل غير نظامي إلى أوروبا بصحبة أخيها وأطفالها. تُتداول هذه الأخبار في أوساطهن فتشجعهن على الخطوة.
الحُسن في نسخته الإفريقية تراه في وجه "حياة" وفي قوامها الفارع الرشيق. كانت ترتدي إسدالاً بغطاء رأس يبدو معقوداً على عجل. أخذت تحكي بلهجة تبدو أصعب من لهجة رفيقاتها عما تعانيه من أوضاع تثير سخطها، وإن لم تسلب قدرتها على الابتسام ووُدّ المحيطين. قبل عامين جاءت "حياة" إلى مصر مع زوجها وأبنائها، ولكن الزوج اضطر بعد عام للرجوع إلى السودان لعدم وجود عمل. لم يكن زوجها المنتمي إلى إحدى حركات المعارضة السودانية قادراً على العودة إلى أم درمان حيث كانوا يقيمون من قبل، بل عاد إلى إحدى قرى دارفور حيث عمل مزارعاً. رفضت "حياة" العودة معه بسبب الظروف المتدنية للقرى، من غياب الخدمات الأساسية وضعف المقابل المادي الذي يحصل عليه المزارعون عند بيع محصولهم، مع إرتفاع الضرائب المفروضة عليهم.. "منعوا رحمة ربنا تنزل" تعلّق "سلوى" واصفة بطريقتها ما فعلته الحكومة السودانية بالزراعة والمزارعين.. إلى جانب بالطبع الاضطرابات الأمنية.
لمواجهة احتمال الاعتداءات الجنسية، وكإجراء احتياطي، حصلت بعض النساء والفتيات من إريتريا وإثيوبيا والصومال اللائي مررن بالخرطوم/ السودان على حقن لمنع الحمل وجلبن معهن في الرحلة وسائل لمنع الحمل الطارئ.
بغياب الزوج، باتت "حياة" تتحمّل بمفردها مسؤولية أطفالها الأربعة الذين تتراوح أعمارهم بين 11 عاماً وعام ونصف. تحكي المرأة الثلاثينية وهي جالسة تحمل طفلتها الرضيعة عن زيادة الأعباء المادية، وعما تواجهه من مشكلات نتيجة اختلاطها بالمجتمع الذي لم تكن معتادة عليه حتى في السودان، من تحرش ومراقبة من جانب الجيران وأهل المنطقة، مما جعلها تغير محل إقامتها أكثر من مرة، وعن فقدانها الإحساس بالأمان.
كانت "حياة"، صاحبة المؤهل الجامعي، تعمل في بلدها في القطاع الطبي كممرضة. أما هنا فتحاول أن تكسب المال من خلال بيع بعض المنتجات السودانية التي توفر لها - إن وفرت - هامش ربح قليل يتراوح بين 5 و10 جنيهات عن كل عبوة، وذلك في إطار مشروع ترعاه إحدى الجمعيات ذات الشراكة مع المفوضية وتعمل ضمنه اللاجئات. "طول النهار جارية وماشية.. النهار كله واقفة على رجليّ عشان أبيع برطمان كريم شعر"وذلك لتزيد دخلها جنيهات قليلة لكنها لا تستطيع الاستغناء عنها، فالمساعدة المالية التي توفرها المفوضية غير كافية، والدعم الذي تقدمه لتعليم الأطفال جزئي، وقد باتت الأمّ ترى أن من الأفضل إدخار ما تنفقه على مدارس أولادها للهجرة. تعاني "حياة" من مشكلات في الكُلى، وهي بحاجة إلى إجراء عملية ولكن لا تتوفر جهة تتكفل بمصروفاتها. تتحايل على آلامها بتناول البقدونس وشراب الشعير، وحتى هذا يبدو ثقيلاً على ميزانيتها.
"ده الأمل الوحيد اللي عايشة عشانه"، هكذا وصفت "حياة" الهجرة إلى أوروبا، فهو الضمانة الوحيدة لمستقبل أولادها ولجمع شمل الأسرة. ولأن "السفر من خلال المفوضية بقى ضعيف شديد" فليس أمامها سوى الهجرة غير النظامية. ولحياة محاولات سابقة بالفعل. ففي 2016، كان من المفترض أن يغادروا على مركب رشيد. كان ثمن الرحلة للفرد 35 ألف جنيه مصري، أما الأطفال أقل من 8 سنوات فبالمجان. غرَق المركب جعلهم يتراجعون عن التفكير في الأمر، ولكن هذا التراجع - بالنسبة لحياة على الأقل - لم يدم طويلاً. فالفكرة برزت مجدداً وبقوة تحت وطأة ظروفها القاسية.
من الواضح أن "حياة" يتنازعها شعوران: الخوف من المخاطرة بحياة أولادها، والرغبة في حياة أفضل لهم، مما يحتّم الرحيل. في آخر مرة تحدثت معها قالت بحسم إنها قررت الهجرة وإنها لن تتراجع "حتى لو الثمن الموت"، فالعمر واحد ولا مستقبل إلا هناك. وبغض النظر عن موقف زوجها الذي في الغالب سيطالبها بالصبر وبعدم المخاطرة بالأولاد، فهي تؤكد أنها بمجرد أن "تمسك الفلوس" التي تمثل العائق الأساسي أمامها، ستسوق أولادها وترحل. تفيدني "حياة" بأن تكلفة الهجرة 6000 دولار للأسرة و4000 دولار للفرد. تقول إنها تعوّل على إرسال مستحقات متأخرة لها عن عملها السابق بالسودان. بوجه عام، يلجأ البعض لتدبير تكلفة الهجرة إلى بيع بيته أو بعض ممتلكاته في السودان، أو يعتمد مثلاً على مساعدة أقرباء له يعملون بالخارج. تحدثت "عفاف" عن لاجئة سودانية تقيم بالقاهرة مع أطفالها التسعة سعت لبيع كليتها لتدبّر المبلغ المطلوب.
ليبيا
تعد ليبيا نقطة عبور رئيسية للمهاجرين واللاجئين المتجهين إلى أوروبا. خاصة مع التشديدات الأمنية التي اتبعتها مصر. تذكر دراسة لليونيسيف صادرة في فبراير 2017 بعنوان: "رحلة مميتة للأطفال: طريق الهجرة عبر وسط البحر الأبيض المتوسط"، أنه اعتبارا من أيلول/ سبتمبر 2016 قُدّر عدد المهاجرين في ليبيا ب 256 ألف مهاجر، 11 في المئة منهم من النساء، و9 في المئة من الأطفال، نسبة كبيرة منهم غير مصحوبين بذويهم. ومن خلال مقابلات مع 122 مهاجراً: 82 امرأة و40 طفلاً تتراوح أعمارهم بين 10 و17 عاماً ما بين ذكور وإناث، جاءوا من 12 بلداً من مناطق مختلفة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، توصلتْ الدراسة إلى أن ما يقرب من نصف النساء اللاتي تمت مقابلتهن عانين من العنف الجنسي أو الإساءة الجنسية أثناء الرحلة، وكان العنف الجنسي يتم على نطاق واسع ومنظّم في المعابر ونقاط التفتيش، وغالبا ما كان يُتوقع من النساء تقديم الخدمات الجنسية أو دفع مبالغ نقدية مقابل عبورهن الحدود الليبية. ولمواجهة احتمال الاعتداءات الجنسية وكإجراء احتياطي، حصلت بعض النساء والفتيات من إريتريا وإثيوبيا والصومال اللائي مررن بالخرطوم/السودان على حقن لمنع الحمل وجلبن معهن في الرحلة وسائل لمنع الحمل الطارئ.
وذكرت بعض الأمهات أنهن اضطررن لترك بعض أطفالهن في بلد المنشأ مع العائلة أو الأصدقاء والجيران. وتشير التقديرات - كما أوردت الدراسة - إلى أن النساء يمثلن 20 في المئة من المحتجزين في مراكز الاحتجاز في ليبيا التي يقدر عددها ب34 مركزاً على الأقل. وتحدثت النساء اللاتي تمت مقابلتهن عن الظروف السيئة التي يعشن فيها داخل هذه المراكز، من تكدس، وحرارة شديدة في الصيف، وبرد قارس في الشتاء، ونقص الغذاء، والعنف اللفظي والجسدي من الحرّاس، مع عدم توفر الرعاية الصحية اللازمة مما تركهن غير قادرات على الوصول إلى منتجات النظافة النسائية أو الأدوية. وتروي طفلة تمّ احتجازها في مركز "صبراتة" ضمن شهادتها ".. كانت إحدى النساء حاملاً في ذلك المكان، كانت تريد أن تلد طفلها، وعندما ولدت الطفل لم يكن هناك ماء ساخن، بدلا من ذلك، استخدمت الماء المالح لرعاية طفلها". وتعد ليبيا أيضاً معبراً رئيسياً لشبكات الاتجار بالبشر، التي يكون من بين أنشطتها تهريب النساء من بلدان إفريقيا إلى أوروبا لممارسة البغاء القسري. وكانت المنظمة الدولية للهجرة قد فتحت تحقيقاً في تشرين الثاني / نوفمبر الماضي حول وفاة 26 امرأة وفتاة مهاجرة نيجيرية انتشلت جثثهن من قاربين في البحر المتوسط، قادميْن من شمال إفريقيا. وأكدت المنظمة وقتها أنه من المحتمل أن تكون تلك الجثث لضحايا الاتجار بالبشر لأغراض الاستغلال الجنسي، وأنها ليست الحادثة الأولى من هذا النوع. ووفقاً لما أفادني به مكتب السيد لوران دي بويك، مسئول برامج المنظمة في مصر، فإنه على أساس بيانات المنظمة للفترة من 2006 حتى 2016، تشكل النساء أكبر نسبة من الضحايا المتجر بهم لأغراض الاستغلال الجنسي، وأنه وفقاً لتقرير أصدرته المنظمة في نيجيريا مؤخراً، فإن 98 في المئة من المهاجرات اللاتي يصلن إلى أوروبا من نيجيريا يقعن ضحية للاتجار.
(*) جميع الأسماء الواردة في الشهادات مستعارة
إطار البحث
"المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية" وهو أبرز المراكز البحثية في مصر، أجرى أكثر من دراسة ميدانية عن الهجرة غير النظامية خلال السنوات الأخيرة. أبرزها دراستان اعتمدتا على إجراء مقابلات مع عينة من الشباب الذين خاضوا تجربة الهجرة غير النظامية، وكانت العينة في كلتا الدراستين من الذكور بنسبة 100 في المئة.
أولاهما دراسة صدرت عام 2010 بعنوان "الشباب المصري والهجرة غير الشرعية" وكان نطاقها الجغرافي قرى بمحافظتي الدقهلية والفيوم، وهما المحافظتان اللتان سجلتا أعلى نسبة من الشباب المهاجِر بطريقة غير نظامية خلال الفترة الزمنية السابقة على إجراء الدراسة. كان ثلثا العينة في هذه الدراسة من العزّاب وأقل من الثلث بقليل متزوجين (67.5 في المئة أبناء داخل أسرهم، 24.1 في المئة آباء، 4.7 في المئة إخوة). أما الدراسة الثانية فقد نُشِرت نتائجها الكاملة في تشرين الأول/ أكتوبر 2016، في أعقاب غرق مركب "رشيد"، وكان المركز قد أعدّها بتكليف من "اللجنة الوطنية التنسيقية لمكافحة الهجرة غير الشرعية". وقد أشارت هذه الدراسة إلى وجود 10 محافظات مصدِّرة للهجرة غير النظامية في مصر وهي الشرقية والدقهلية والقليوبية والمنوفية والغربية والبحيرة وكفر الشيخ في الوجه البحري، والفيوم وأسيوط والأقصر في الوجه القبلي. وهي محافظات ترتفع في قراها نسب الفقر وتعاني من قصور البنية التحتية وتدني مستوى الخدمات أو غيابها بالكليّة. وكان 57 في المئة من أفراد العينة أبناء داخل أسرهم و43 في المئة آباء. وإذا كان من الممكن تفهّم اقتصار العينات على الذكور، خاصة بالنسبة للدراسة الأولى، على اعتبار أن رصد مشاركة المصريات في رحلات الهجرة غير النظامية جاء في مرحلة متأخرة نسبياً، فإن تجاهل رصد آثار الهجرة على النساء في هذه المناطق سيظل محلّ نقد، لا سيما أننا، ومن خلال الملخص الوافي الذي نشرته الصحافة للدراسة الثانية، نجد أنها انطلقت من التساؤلات نفسها واتبعت المنهج نفسه وكان من الطبيعي من ثَمّ الوصول إلى نتائج متشابهة للدراسة الأولى على الرغم من اختلاف النطاق الجغرافي. وهو ما يعني أن أسئلة بحثية أخرى كانت أولى بالطرح ومحاولة الإجابة ضمن ظاهرة معقدة ومتعددة الجوانب مثل ظاهرة الهجرة غير النظامية. الإشارة الوحيدة التي تضمنتها هذه الدراسة للنساء تمثلت فيما رصدته - بصورة عَرَضية - من أن الزوجات المصريات يعامِلن ضرائرهن الأجنبيات اللاتي تزوجهن أزواجهن المهاجرون في دول المهجر بقدر من التبجيل، إذ يعتبرنهن مصدراً للخير والرزق لأولادهن. هذا بالإضافة إلى السؤال (الموجّه للمهاجر نفسه) عن دور الأسرة في تدعيم أو رفض قرار الهجرة غير النظامية. وقد اتضح أن 64.2 في المئة من الأسر كانت داعمة للقرار مقابل 35.8 في المئة كانت رافضة له.
وهناك دراسة ثالثة للمركز صدرت في أيلول / سبتمبر 2016 ، أجريت على عينة من الأطفال الذين سبق لهم خوض تجربة الهجرة غير النظامية بمفردهم، بلغ عددهم 980 طفلا تراوحت أعمارهم بين 9 و 18 عاماً، ينتمون إلى المحافظات الأكثر تصديراً للهجرة غير النظامية. وأشارت الدراسة إلى ازدياد الظاهرة في الفئة العمرية بين 16 و18 عاما (73.2 في المئة) يليها الفئة العمرية من 12 إلى 15 عاما (25.2 في المئة)، وأن هجرة الأطفال غير المصحوبة ما تزال ذكورية حيث بلغت نسبة الذكور في العينة 99.9 في المئة.
محتوى هذه المطبوعة هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.