الاستثناء التونسي أمام اختبار "داعش"

في التاسع من آذار/ مارس الماضي، اجتمع التونسيون لدفن شهداء الوطن الذين سقطوا في المعركة مع تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" قبل يومين في مدينة بن قردان الحدودية. كان التضامن حقيقياً، فالوحدة تجاوزت المناطق والأجيال والطبقات الاجتماعية كافة. بدا التونسيون مرتاحون لمشهد سكان بن قردان ينتفضون في وجه "إرهابيي" داعش ويثبتون انتماءهم لـ "الأمة التونسية"، على الرغم من
2016-04-07

هالة اليوسفي

باحثة وأستاذة علم الإجتماع في جامعة دوفين - باريس، من تونس


شارك
| fr
باسم دحدوح - سوريا

في التاسع من آذار/ مارس الماضي، اجتمع التونسيون لدفن شهداء الوطن الذين سقطوا في المعركة مع تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" قبل يومين في مدينة بن قردان الحدودية. كان التضامن حقيقياً، فالوحدة تجاوزت المناطق والأجيال والطبقات الاجتماعية كافة. بدا التونسيون مرتاحون لمشهد سكان بن قردان ينتفضون في وجه "إرهابيي" داعش ويثبتون انتماءهم لـ "الأمة التونسية"، على الرغم من التهميش اللاحق بهم من الدولة المركزية. هؤلاء، الذين وصفوا بـ "المخربين" (كما بالنهضاوية والسلفية) في وقت سابق، بعد امتناعهم خلال الانتخابات الأخيرة عن التصويت لحزب "نداء تونس"، (حزب السلطة اليوم)، تحولوا فجأة إلى "أبطال الأمة". وبدت اللحمة الوطنية تحت شعار "كلنا متحدون ضد الإرهاب"، ونصر الجيش، التي حظيت بأُبهة عظيمة، كانتصار على كل الشكوك والانشقاقات. حظينا هنا بدليل إضافي يؤكد "الاستثناء" التونسي.
مع ذلك، تبقى أسئلة كثيرة معلقة: هل نحن حقاً أمام لحظة تأسيسية تسمح ببناء وحدة وطنية حقيقية؟ فالشرخ الذي اتسع بين النخبة السياسية وجزء كبير من الشعب التونسي منذ رحيل بن علي، والخطابات السياسية التي وصمت الجنوب بشكل دوري بكل أنواع التهم، وعجز النخب عن الاستجابة الحقيقية لمطالب الثورة، وتنامي الفوارق الاجتماعية، والفساد على نطاق واسع، إلخ.. كلها مؤشرات تطرح السؤال: هل تعدّ الحرب على "داعش" كافية لضمان التماسك الوطني واستقرار "النموذج التونسي"؟
شرح الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي في حديثه للتلفزيون الوطني للتونسيين بأننا "نواجه هجوماً غير مسبوق، ومنظم. المعتدون ربما كان هدفهم السيطرة على هذه المنطقة وإعلانها ولاية جديدة باسم المجموعات المتطرفة"، ثم أضاف "التونسيون في حالة حرب ضدّ هذه الهمجية والفئران الذين سنقضي عليهم"، بينما تظاهر بنسيان أن هؤلاء "الفئران" الذين يود إبادتهم هم أبناء تونس (أعلن رئيس المجلس العسكري لصبراتة في وقت سابق أن معظم مقاتلي "الدولة الإسلامية" الذين نفذوا الهجوم هم تونسيون). بموازاة ذلك، انتشرت صورة "سلفي" (selfie) على نطاق واسع في مواقع التواصل الاجتماعي لجنود شبان يحتفلون بالنصر مع جثث "إرهابيين" في انتهاك للكرامة الإنسانية. وهنا نسأل كيف يمكن أن نقود حرباً ضد عدو، على هذا القدر من القرب (الحميمية)، ونستمتع بقتاله؟ وكيف وصلنا بالأساس إلى هنا؟

عندما تكشف بن قردان التحديات

في بن قردان، المدينة التي تقع في أقصى الجنوب الشرقي من تونس بالقرب من الحدود الليبية، تتبلور معضلات النظامين السياسي والاقتصادي الذي حكم تونس منذ ستين عاماً. عاشت بن قردان، المهمّشة منذ الاستقلال، على التهريب والتجارة غير الشرعية، ومؤخراً على تجارة السلاح. ولعبت شبكات نافذة، حيث الأموال والتعاضد القبلي والمحسوبية بمؤازرة عناصر من الدولة، دوراً مهماً في تفعيل الاقتصاد المحلي. وفي غياب بديل حيوي يضمن التنمية الاقتصادية في المنطقة، فضلت السلطات المتعاقبة غضّ النظر عن هذا الواقع حفاظاً على الحدّ الأدنى من السلم الأهلي. لكن الحرب التي اشتعلت في ليبيا، وسقوط نظام القذافي وضعف الحكومة التونسية سهلت دخول "الجهاديين" إلى المعادلة، وكانت بن قردان، وبشكل أوسع الحدود الجنوبية - الشرقية، أرضاً خصبة لتنظيم شبكات لتجنيد مقاتلين وإرسالهم إلى العراق وسوريا.
واستهدفت اعتداءات "داعش" في السابع من آذار/ مارس الماضي مراكز الحرس الوطني والشرطة وكذلك الثكنة العسكرية، وأدت بحسب الحصيلة النهائية إلى مقتل 36 "جهادياً" و12 عنصراً من قوى الأمن و7 مدنيين بينهم طفل في الثانية عشرة من عمره. وتأتي هذه الهجمات بعد عشرة أيام تقريباً على سيطرة "داعش" على مدينة صبراتة الليبية، الواقعة على بعد 100 كيلومتر تقريباً من الحدود التونسية. وهذه الهجمات لم تكن الأولى من نوعها.
منذ ثورة العام 2011، قتل العشرات من عناصر الحرس الوطني والشرطة والعسكريين في هجمات مسلحة، لا سيما في المناطق الحدودية. وفي متحف باردو في تونس، قتل 22 شخصاً في هجوم إرهابي دامٍ في آذار/ مارس العام الماضي، وبعد ثلاثة أشهر، قتل 38 شخصاً في سوسة. أما "الجهاديين" التونسيين فيقال إن أعدادهم بين 5 آلاف و6500 عنصر على الأراضي الليبية. وإنْ أجمع المحللون على ربط تنامي ظاهرة السلفية الجهادية بفترة التسعينيات وحكم بن علي، فلا يمكن تجاهل سقوط النظامين الديكتاتوريين في تونس وليبيا، والعلاقة المتأرجحة لـ "حركة النهضة" (التي تولّت الحكم) مع الحركة السلفية، والتدخل العسكري لحلف شمال الأطلسي في ليبيا في 2011، وإضعاف الدول، وأخيراً الإفراج عن 1200 سلفي، بينهم 300 قاتلوا في أفغانستان، وذلك في آذار/ مارس2011 في ظل الحكومة الانتقالية برئاسة الباجي قايد السبسي نفسه.. كل ما سبق عوامل سمحت إلى حدّ كبير بانتشار هذه الظاهرة (وفق تحليل "مجموعة الأزمات الدولية" شباط/ فبراير2013).

"نحن في عداد الأموات"

من المفيد التذكير بأن أعواماً خمسة مرت على الثورة، وإنْ سمحت بتوافق أتاح اقتسام السلطة بين النخبة السياسية التقليدية المتمثلة بـ "نداء تونس" والنخبة الإسلامية الجديدة المنبثقة عن صناديق الاقتراع، إلا أن مطالب الثورة بقيت حبراً على ورق. لقد أضعف التنافس السياسي إلى حدّ كبير مؤسسات الدولة، أما ضخّ الجهات المانحة الأموال التي فرضت إصلاحات اقتصادية نيوليبرالية على يد النخبة المحلية، فقد نتج عنه تفاقم المشاكل الهيكلية في الاقتصاد التونسي وأسهم في اتساع رقعة الفساد.
وهكذا وجد التونسيون أنفسهم في مواجهة دولة ذات وجهين: سلطوية عندما يتعلق الأمر بقمع الحركات الاجتماعية والحريات الفردية، وغائبة في مواجهة الأزمة الاقتصادية - الاجتماعية التي تعصف بالبلاد. وإلى جانب عنف فساد النخبة الحاكمة، يظهر عنف معنوي متمثل بالتطبيع مع رموز النظام القديم والترحيب بعودتهم إلى الساحة السياسية، وهو التطبيع نفسه الذي قاد منذ أيام الناطق الرسمي باسم الحكومة الى المطالبة بعودة بن علي.
وفي غياب المشروعين السياسي والاقتصادي في المناطق المهمشة، يتفاعل غضب مكبوت منذ بعض الوقت ينبغي أن ينبه المجتمع التونسي بأكمله إلى التحديات الراهنة. الشباب الذين قاتلوا قوات الأمن في انتفاضة 2010 - 2011 وكتبوا على الجدران، ورفعوا أصواتهم صارخين "رجاءً استمعوا إلينا"، تغير خطابهم جذرياً. هؤلاء أصبحوا اليوم مشاريع هجرة غير شرعية إلى أوروبا، أو يائسين حد الانتحار، أو ملتحقين بـ "داعش"، أو مضربين عن الطعام للمطالبة بحقهم في حياة كريمة، يرددون في جوقة واحدة "نحن أساساً في عداد الأموات". هنا يصبح الجسد آخر خطوط المواجهة في المعركة ضد العنف الجسدي والمعنوي الممارس عليهم في ظل انعدام أي أمل.
يصرخ نسيم سلطاني، وهو نسيب مبروك سلطاني الراعي الشاب الذي نشر الإرهابيون تسجيلاً مصوراً يظهر قطع رأسه في جبل مغلة في سيدي بو زيد وسط البلاد ــ تلك المنطقة المحرومة المتروكة لمصيرها الاقتصادي كما الأمني ــ تعبيراً عن غضبه وغضب شبان كثر يعيشون وضعاً مماثلاً. في مقابلة تلفزيونية في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر الفائت، قال سلطاني "نحن كلنا أموات في الأساس! ليس لدينا شيء...عمري 20 عاماً، وحتى الآن لم أر مسؤولين يزورون منطقتنا. لم ألتق خلال حياتي بمسؤول واحد". وفي وقت لاحق، أضاف "الوطن! الوطن! أنا شخصياً لا أعرف الوطن إلا من خلال بطاقة الهوية الوطنية!".

تفسيرات متنافسة

في محاولة لفهم تعقيد هذا الواقع الرهيب، ثمة قراءتان متعارضتان: تخلص قراءات النزعة الثقافوية (الأنثروبولوجيا الثقافية) إلى استنتاجات أساسية مفادها أن الإسلام هو أصل كل المشكلات. وتلاقي هذه الاستنتاجات صداها في ما يقوله الإسلاميون عن الإسلام باعتباره الحلّ لكل المشكلات السياسية والاقتصادية. ويتنصل أنصار هذه النظرية، الآتون في الغالب من النخبة التي تصف نفسها بـ "الحداثية"، من أي مسؤولية عن الفشل الجماعي الذي أوصل الأمور إلى هذا المنحى التراجيدي، ويعزون أصل المشاكل إلى الثقافة الشعبية، بينما يعتبرون أن الحلّ الوحيد يكمن في "إصلاح الإسلام". ويصبح التحدي بالنسبة إليهم في مضاعفة الجهد التربوي ضد ما يسمونه "ثقافة الإرهاب" في وقت يتجاهلون السياق السياسي والاجتماعي، كذلك المحلي والإقليمي الذي أغرق الأمور في هذه الفوضى.
في المقابل، بالنسبة لمنتقدي النظرة الماهوية للدين الإسلامي، والمدافعين عن قراءة ماركسية، فإن العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية هي التي تفسر بنظرهم ظاهرة السلفية الجهادية التي تشهدها تونس. يضعون في أول المصاف حقيقة أن المرشحين للانضمام لداعش هم بالعادة شبان بين 15 و35 من العمر، معظمهم معطل عن العمل ويعيشون في الأحياء الفقيرة والمناطق المهمشة داخل البلاد. هؤلاء وفي ظل ما تتيحه السياسة الحالية، يختارون السلفية الجهادية التي تساعدهم في تشكيل هوية سياسية جديدة تسمح لهم بتجاوز الواقع المرير الذي يعيشونه.
وفق هذا المنظور، لا تُطرح مسألة تأثير الدين طالما أن من البديهي أنه غير ذي صلة. لكن، وعلى الرغم أن السلفية الجهادية أصبحت اليوم ظاهرة عالمية، فإن الطريقة التي يعطي بها المرشحون الشبان للجهاد، في كل بلد عربي، معنى للأزمة الاجتماعية والسياسية المحلية كما للحروب الاستعمارية التي يعيشها العالم العربي على مدى عقود، تبدو متجذرة في المخيلة الجمعية التاريخية وفي الثقافة المحلية الخاصة. وبعيداً عن التناقض الاختزالي بين الطرف الأول الذي يمتلك رؤية ميكانيكية بشأن تأثيرات الدين على سلوك الشباب السلفيين وبين الجهة الأخرى التي تقدم رؤية "مادية ماركسية" بحتة تتعلق بأسباب الظاهرة الجهادية، فإن تحليل الظاهرة السلفية الجهادية يكتسب معنى عميقاً إذا نجحنا في اكتشاف كيفية تقاطع الحقيقة السياسية والاجتماعية الموضوعية مع المرجعيات الدينية لتشكل عالماً من الدلالات تتداخل فيه مسلكيات هؤلاء الشبان لتكتسب معنى.
وختاماً، وأبعد من التحدي الفكري الذي تطرحه الظاهرة السلفية، تدعونا مأساة بن قردان للبحث عن أجوبة سياسية واضحة لمجموعة من الأسئلة: هل من اللائق الاستمرار في الكلام عن "استثناء" تونسي جرى تكريمه بجائزة نوبل للسلام، وأن نستمر بالاحتفاء بصفتنا التلميذ النجيب للديموقراطية، في ظلّ غياب أي بديل اقتصادي واجتماعي؟ هل من اللائق الاحتفال بالاتحاد المقدس ضد "داعش" في حين أن أولاد تونس هم من يشغل الصفوف الأمامية لهذه الحرب؟ هل يمكن حقاً أن نستمر في حالة الإنكار والاعتقاد بأنه يمكن التأسيس لديموقراطية قابلة للاستمرار في تونس في وقت تشهد ليبيا وكل دول المنطقة حروباً هي الأكثر ضراوة بين مختلف القوى الإقليمية والغربية؟
وعلى هذه الحال، وإذا استمرت النخبة الحاكمة في اعتماد سياسة النعامة ولم تبلور سوى حلول أمنية، فإن الحراكات الاجتماعية الأخيرة في كانون الثاني/ يناير 2016 في القصرين وسيدي بوزيد وتونس العاصمة، التي تطالب بفرص عمل وتنمية جهوية، تستمر في حشد آلاف المواطنين. هؤلاء يُظهِرون، على الرغم من إغراء "داعش" أو/ والشاطئ الشمالي للبحر المتوسط، أن الأمل لا يزال مسموحاً. يُظهِرون أن تحدي الحكام ماض قدماً وأن النضال من أجل عالم أكثر عدلاً مستمر. وهو أمل تشتد الحاجة إليه لمواجهة العنف الاقتصادي والسياسي الذي تعيشه تونس، وبشكل أعم المنطقة العربية.

مقالات من تونس

للكاتب نفسه

تونس على حدود الشرعية الديمقراطية

كشفت التجربة التونسية في السنوات العشر الأخيرة أن "المنظومة" تتمتع بقدرة غير متوقعة على امتصاص الصدمات، وأن النخبة السياسية والاقتصادية الحاكمة تجد دوماً الوسيلة لكي تتأقلم مع التشوهات والمسوخ الذين...